السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن وهي أيضا مصدر من مصادر التوجيه الأخلاقي، والمسلم ليس مخيرا في اتباعها وضبط سلوكه وفقا لها وإنما هو ملزم بذلك مصداقا لقوله “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”، وفي السطور التالية محاولة لاستنباط بعض القواعد الأخلاقية الحاكمة للعلاقة الزوجية كما تقدمها السنة القولية وذلك تطبيقا على (كتاب النكاح) من صحيح البخاري.
تعريف بكتاب النكاح
يشكل صحيح البخاري أو “الجامع المسند الصحيح من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه” أهم مصنف حديثي باتفاق علماء الشريعة إذ يذهب ابن حجر في (هدي الساري مقدمة فتح الباري) إلى كونه أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي، ويرجح الإمام الذهبي أنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وهو يضم (7275) حديثا موزعة على عدد من الكتب مثل: التوحيد، الصلاة، العلم، التفسير، النكاح وغيرها.
ويضم كتاب النكاح (176) حديثا موصولا عن الرسول ويبلغ عدد أبواب الكتاب (124) بابا افتتحها الإمام البخاري بباب (الترغيب في النكاح) وختمها بباب (قول الرجل لصاحبه هل أعرستم الليلة وطعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب)، وهو يتناول موضوعات مختلفة من قبيل: الحث على الزواج وكراهية التبتل، وكيفية إعلان النكاح وشروطه، وحقوق الزوجين والحقوق المشتركة بينهما، ومراعاة كل منهما للآخر، وآداب المعاشرة الزوجية.
وأحاديث الكتاب هي أصح ما ورد عن الرسول فيما يتعلق بالعلاقة الزوجية وكيف كان يعامل زوجاته في بيت النبوة، وهو ما يضفي عليها أهمية إذ تتضمن توجيهات خلقية وقواعد سلوكية يجب مراعاتها من جانب الزوجين، ولنشرع أولا ببيان بعض هذه الأخلاقيات الزوجية من خلال تحليل بعض الأحاديث، ثم نعرض لنماذج توضح آداب الحوار بين الزوجين وكيفيته.
الآداب الزوجية
بالنظر في كتاب النكاح يمكن استنباط بعض الآداب التي ينبغي أن تسود الحياة الزوجية ومنها:
الاحترام
وهو الدعامة الأهم للحياة الزوجية، ولا يتصور حياة سليمة بدونه، وهناك من الأحاديث ما يعضده ويعبر عنه ومن ذلك الحديث التالي:
“عن أسماء رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ﷺ على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ…
فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: “إخ إخ ” ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله ﷺ أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله ﷺ وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ؛ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني”.
ويبدو من الحديث أن أسماء كانت تعاني مشقة حمل النوى الثقيل لمسافة بعيدة، ولما رآها الرسول ﷺ أشفق عليها ودعاها لتركب معه برفقة نفر من الأنصار لكنها أبت، وفي هذا المسلك احترام مضاعف للزوج فمع تعبها وتغيب الزبير عن المشهد، وإمكانية التذرع أن الرسول هو من دعاها للركوب ولا أحد غيره إلا أنها نزلت عند رغبته واحترمت غيرته، رغم أن بعض الأزواج يرى أن الغيرة لا يمكن تبريرها عقليا ويأبى النزول على أحكامها.
التعاون
لا تنهض الحياة الزوجية من دون التعاون بين الزوجين وتقسيم الأدوار بينهما، ففي حديث أسماء السابق مراعاة ظروف الزوج الذي لم يتمكن من إحضار خادم أو مملوك لمساعدتها فنهضت بأعباء المنزل ولم تكتف بذلك وعاونته في عمله بالحقل ونقلت النوى على رأسها وهي ابنة تاجر ثري، وفي مسلكها إشارة إلى أن الزوجين يجب عليهما تحمل عبء المهام الأسرية بالسوية كل حسب قدرته ومجاله، وإن احتاج أحدهما الدعم ينبغي للآخر المسارعة لتقديمه.
العفو
وهو خلق ينبغي التخلق به، إذ لا تخلو الحياة من ارتكاب كل طرف تجاوزات وأخطاء بحق الطرف الآخر وكثير منها يمكن تجاوزه والعفو عنه، ويبدو هذا في عدد من الأحاديث نتخير منها هذا الحديث
” عن أنس قال: كان النبي ﷺ عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة (إناء) فيها طعام، فَضَرَبت التي النبي ﷺ فِى بَيْتِهَا يد الْخَادِم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي ﷺ فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت
ومن خلال الحديث تبدو غيرة السيدة عائشة على الرسول التي ضربت الخادم فسقط منه الصفحة وانكسرت، فما كان من الرسول ﷺ إلا أن جمع الإناء المكسور، وأعاد الطعام فيه، وأبقى لعائشة رضي الله عنه الإناء الذي كسرته، وأرسل بإناء عائشة رضي الله عنها السليم إلى أم المؤمنين التي كُسر إناؤها، وانتهى الموقف عند هذا الحد، ويذهب ابن حجر إلى أن قوله (غارت أمكم) اعتذار منه ﷺ لئلا يُحمل صنيعها على ما يُذم، وفيه أيضا -كما نظن- عفو عما بدر منها من سلوك غير متعمد بسبب الغيرة الفطرية، ومثل هذه السلوكيات يجدر بالزوجين غض الطرف عنها وعدم التوقف أمامها طويلا.
الصبر والتمهل
يظن بعض الأزواج أن نيل حقوقهم المشروعة يكون في أي وقت دون اعتبار لاستعداد الطرف الآخر وجهوزيته، وقد حرص الرسول على أن يبين لأصحابه أن الأصل في العلاقة الزوجية هو استعداد ورغبة الطرفين وليس طرف واحد “فعن جابر قال: كنت مع رسول الله ﷺ في غزوة، فلما قفلنا تعجلت على بعير قطوف، فلحقني راكب من خلفي، فالتفت، فإذا أنا برسول الله ﷺ قال: ما يعجلك؟ قلت: إني حديث عهد بعرس، قال: فبكرًا تزوجت أم ثيبًا؟ قلت: بلى ثيبًا قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل، فقال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا -أي عشاء -لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة”.
وفي الحديث إشارة إلى ضرورة تمهل الزوج في طلب الحاجة وأن يفسح لزوجته مجالا لتتهيأ وتستعد فمن الجائز أن تكون غير مستعدة بل هذا هو الأصل لأن الواجبات اليومية تلتهم الطاقة وتحول بينها وبين الاستعداد في كل حين؛ وبالتالي ينبغي إمهالها حتى تستعد نفسيا وبدنيا، من جانب آخر تساور الشكوك بعض الأزواج في مسلك زوجاتهم فيلجأ إلى مفاجأة الزوجة في وقت لا تتوقع حضوره فيه، وفي الحديث نهي صريح عن هذا وإشارة إلى تغليب الثقة على الشك في العلاقة الزوجية.
المشاركة المعنوية
وهي أحد ركائز الحياة الأسرية الناجحة، وقد كان الرسول قدوة لأصحابه في ذلك إذ كان يشارك زوجاته اهتماماتهن ويبدو ذلك من حديث أم زرع، فعن عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا… )، واستمع الرسول إلى حديثها بما فيه من تفاصيل تبدو مزعجة بالنسبة لرجل، وأنصت ولم يقاطعها بكلمة بل ختم بخاتمة توحي بحسن الإنصات والتفاعل معها حين قال “كنت لك كأبي زرع لأم زرع”.
وهنا توجيه منه ﷺ إلى ضرورة مشاركة الزوج اهتمامات زوجته حتى وإن بدت ساذجة بالنسبة له، بل ذهب إلى ما هو أبعد وطلب مشاركته لها في لهوها ولعبها كما فعل الرسول، “عن عائشة قالت: كان الحبش يلعبون فسترني رسول الله ﷺ وأنا أنظر فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو”.
أدب الحوار بين الزوجين
يظن البعض أن الحياة الأسرية لا تنهض على الحوار والنقاشات العقلية الجادة بين الزوجين وأن على الزوجة أن تطيع ما يأمرها به زوجها من غير نقاش، وهو ظن يجانبه الصواب فقد كانت زوجات النبي تسأله وتراجعه وتستعلم منه عما أشكل عليهن، والأمثلة كثيرة في ذلك منها حديث عائشة رضي الله عنها
أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله ﷺ قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت قال: ما بال هذه النمرقة، فقالت اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله ﷺ إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم، وقال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة.
وفي الحديث إشارة إلى أن عائشة لما استشكل عليها فهم دواعي غضب الرسول سألته عن ذلك فأجابها إلى سؤالها ولم يستنكره حيث أرادت فهم دواعي الكراهة، وفيه إشارة كذلك إلى فراستها وحسن إدراكها نفسية الرسول من خلال تعابير وجهه وإيماءاته.
وهذا الفهم المتبادل ضروري للزوجين ولا يمكن التقليل من شأنه لإنجاح الحياة الزوجية ولذلك تمت الإشارة إليه في بضع أحاديث فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ: إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى. قالت: فقلتُ: مِن أين تَعْرف ذلك؟ فقال: أمّا إذا كنتِ عني راضية، فإنكِ تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنتِ علي غَضبى، قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك”.
من جانب آخر لا يفترض خلو الحوارات والمناقشات الأسرية من استخدام الدليل العقلي والحجج الذهنية للبرهنة على صحة الرأي وجدارته بالقبول ولدينا في سيرته صلى الله مع زوجاته شواهد تؤكد ذلك
“عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها ووجدت شجرا لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك، قال في الذي لم يرتع منها تعني أن رسول الله ﷺ لم يتزوج بكرا غيرها”
وفيه يبدو لجوء السيدة عائشة التشبيه والتمثيل وإلى المنطق العقلي لإثبات صحة رأيها وهو ما يدل من جانب على أن الحوار الزوجي ينبغي أن يكون محكوما بقواعد العقل والمنطق مثله مثل أي حوار آخر، ومن جانب آخر ينفي الحديث ما يشاع عن سذاجة النساء وبساطة طروحاتهن عامة وخلوها من المنطق العقلي.
وبالجملة، تضمن كتاب النكاح في صحيح البخاري كثير من التوجيهات والقواعد الأخلاقية الواجب اتباعها في العلاقة بين الزوجين.