اهتم العلماء المسلمون في وقت مبكر بقضية الأخلاق التعليمية التي ينبغي أن تحكم عملية تداول المعرفة وانتقالها من جيل إلى آخر، وكتبوا في ذلك مصنفات لا تحصى، ومن أهم كتب التراث في هذا المجال: (العالم والمتعلم) للبلخي (ت: 249 ه)، و(أخلاق العلماء) للآجري (ت: 360 ه)، و (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) للخطيب البغدادي (ت: 436 ه) و(جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر (ت:462 ه)، و(تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم) لابن جماعة ( ت:733 ه) و(المعيد في أدب المفيد والمستفيد) للعلموي (ت:981)، وهذه المصنفات وغيرها تؤكد أن الأخلاق لم تكن أمرا ثانويا في العملية التعليمية بل كانت أمرا جوهريا لا يتصور إمكان التعلم بدونها.
خُلق المعلم
تناول المصنفون المسلمون الأخلاق التعليمية وأطلقوا عليها اسم “الآداب”، وهم يقسمون حديثهم إلى آداب المعلم وآداب المتعلم، وهي ثلاثة أقسام لكل منهما، فأما آداب المعلم التي يختص بها فهي: آدابه في نفسه، أو صفاته الخلقية، وآدابه مع طلبته، وآدابه في درسه.
أولا: آدابه في نفسه
أول ما يجب على المعلم أن يقصد وجه الله بأشغاله واشتغاله، لا لمال أو سمعة أو تمييز عن العامة “ولا يشين علمه بشي من الطمع في رفق يحصل من تلميذ أو خَدمة، أو مال ولو قل ولو على صورة الهدية التي لولا اشتغاله لما أهداها إليه”، وهذه المسألة هي موضع اتفاق بين جميع المصنفين على اختلافهم، ولا نجد أحدهم شذ عن اعتبارها المرتبة الأولى من آداب المعلم صيانة للعلم وتنزيها له عن الأغراض الدنيوية.
ومنها القيام بشعائر الإسلام من الصلوات في المساجد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق عند السلاطين، والتخلق بكل المحاسن التي ورد الشرع بها، من: الزهد والورع والتحلي بمحاسن الخلق والتخلي عن مساوئه، والإعراض عن الجاهلين، وما إلى ذلك من الصفات الخلقية التي أكثر المصنفون مثل العلموي وابن جماعة وغيرهما في ذكرها.
وإلى جوار هذه الصفات الخلقية هناك طائفة من العادات المحمودة من قبيل: ” أكل القدر اليسير من الحلال الذي لا شبهة فيه” لكون كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب وهي جالبة للنوم والبلادة وفتور الحواس والكسل كما يقول العلموي، الذي يضيف أن عليه تجنب الأطعمة التي تسبب البلادة وضعف الحواس، وأن يستعمل ما جعله الله سببا لجودة الذهن، وتقليل عدد ساعات نومه، ولا يزيد في يومه على ثمان ساعات وهو ثلث النهار، “ولا بأس أن يرح نفسه وقلبه وبصره إذا كل باستراحة وتنزه وتفرج في المتنزهات حتى يعود إلى حاله، ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به، فقد قيل إنه ينعش البدن ويذيب فضول الأخلاط”.
ومنها أن لا يستنكف من التعلم والاستفادة ممن هو دونه علما أو سنا أو منصبا بل يحرص على الفائدة حيث كانت، فقد كان كثير من السلف يستفيدون من تلاميذهم ما ليس عندهم، ومنها ألا يتصدر للتدريس حتى تكمل أهليته العلمية ويشهد بذلك صلحاء العلماء.
ثانيا: آدابه في درسه
وإذا عزم على التدريس ينبغي له التأدب بالآداب التالية:
- التطهر من الحدث، وألا يلقي الدرس إلا على طهارة، وأن يعتني بنظافة بدنه وثوبه، ولا يرتدي فاخر الثياب، ويتطيب ويعتني بلحيته.
- أن يحسن خلقه مع جلسائه ويوقر تلاميذه سواء لعلم أو لسن أو صلاح أو نحو ذلك، ويرفعهم في المجلس على حسب تقديمهم في الإمامة ويكرمهم بحسن السلام وطلاقة الوجه.
- أن يفتتح درسه بالقرآن ويدعو لنفسه ولمشايخه وطلابه عقب القراءة.
- إذا تعددت الدروس يقدم أشرف العلوم وأهمها، فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الفقه ثم الأصول ثم المذهب ثم النحو، وإذا كان في مدرسة واشترط واقفها شرطا في الدروس وجب اتباعه وإن خالف الترتيب السابق.
- ألا يطيل في درسه لئلا يمل المتعلمون ويتعذر عليهم الفهم، ولا يقصره تقصيرا يخل بالفهم، فيراعى المصلحة في التطويل والتقصير.
- أن لا يدرِس وبه ما يزعجه ويكدر خاطره ويذهب استحضاره من جوع شديد أو كرب أو قلة نعاس، فربما أجاب وهو في هذه الحالة بغير الصواب.
- ألا ينفرد بتقرير وقت الدرس وإنما ينبغي أن يراعي مصلحة الجماعة، بحيث لا يدرس قبل طلوع الشمس أو يؤخره إلى بعد الظهر، ولا يرفع صوته عن الحاجة ولا يخفضه خفضا يمنعهم عن الفهم.
- أن يصون الدرس من اللغط والجدل وسوء الأدب في المباحثة، فهذا مما يورث العداوة والبغضاء.
- أن يسمع سؤال السائل على وجهه، فإن عجز السائل عن البيان لخجل أو ضعف عن تبيانه عاونه وعبر عن مراده، ثم يجيبه ويفهمه إياه، فإن سُئل عن شيء لا يعرفه أجاب لا أعرفه، ولا يستنكف عن ذلك فمن علم العالم أن يقول: لا أعلم والله أعلم.
ثالثا: آدابه مع طلبته
يقدم المصنفون جملة من الآداب التي يجب على المعلم أن يتحلى بها في علاقته مع طلابه، ومن ذلك أنه إذا آنس في أحدهم رغبة في العلم ورشدا أن يؤدبه على التدريج بالأخلاق المرضية ويحثه على الصدق ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، ويرغبه في العلم فيبسط له ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور وقدر الكفاية في الدنيا حتى يفرغ للعلم، وإذا وقع من أحدهم سوء أدب التمس له عذرا، ونبهه على ما صدر منه بلطف ويسر لا بتعنيف قاصدا بذلك إصلاحه وتقويمه، ويزجره كذلك عن سوء الخلق، وينهاه عن رفقة السوء بالتلويح لا بالتصريح ” فإن التصريح يرفع حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف” كما يفترض الغزي.
ومنها أن يتواضع مع طلابه ولا يتعاظم عليهم بعلم بل يستعلم أسماءهم ومواطنهم وأحوالهم، وأن يكون سمح النفس ببذل علمه لهم، ولا يدخر عنهم ما يحتاجون إليه أو يسألون عنه، ولا يلقي عليهم شيئا لم يتأهلوا له، ويصد من يود الاشتغال منهك بعلوم الكفاية قبل الفراغ من فرض العين، وأن يُفهم كل واحد منهم على حسب فهمه، فيكتفي للحاذق بالإشارة ولغيره بالعبارة، ويكررها لمن لا يفهم إلا بالتكرار، ويبدأ بتصوير المسألة ثم يوضحها بالأمثلة، فإن سهل عليهم الدليل ذكره لهم وبين لهم التعليل وكيفيته، وما إلى ذلك من آداب التعلم التي يقصر المقام عن ذكرها.
خٌلق المتعلم
لا يغفل المصنفون عن ذكر الآداب الواجبة للمتعلم، ما يجوز له وما لا يجوز له من الصفات، وهي على ثلاثة أقسام كذلك: آدابه في نفسه، وآدابه في درسه، وآدابه مع معلمه، وبعضها يتداخل مع آداب المعلم السالفة، ويمكن إيجازها على النحو التالي:
أولا: آدابه في نفسه
ومنها أن يطهر قلبه من الأدناس ويصحح النية ليصلح لقبول العلم وحفظه، وأن يقطع العلائق الشاغلة عن كمال الاجتهاد في التحصيل، وأن يقنع من القوت بما تيسر وإن قل، وأن يتواضع للعلم والمعلم، وأن لا يأخذ العلم إلا ممن كملت أهليته، ولا يختار مشاهير العلماء لشهرتهم، حيث عد الغزالي ذلك من الحماقة، ويتحرى الأكفاء وإن لم يصيبوا شهرة، وأن يقسم أوقات ليله ونهاره ويتخير للحفظ السحر لأنه أفضل الأوقات، وللبحث أول النهار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة الليل، وأن يتجنب مخالطة من لا يفيده، وإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحا دينا من طلبة العلم، كما يقول ابن جماعة.
ثانيا: آدابه في درسه وقراءاته
وفي ذلك جملة من الآداب ننتخب منها، أن يبتدئ بحفظ كتاب الله فيتقنه حفظا، ويجتهد على إتقان تفسيره، ثم يحفظ في كل فن مختصرا، ويشتغل بشرحها على يد المشايخ، وليحذر من التشتت في المطالعات فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه “بل يعطي الكتاب الذي قرأه أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه” كما يعتقد ابن جماعة، ويحذر كذلك من التنقل من كتاب إلى كتاب فإنه علامة الضجر، وليبدأ دوما بالمختصرات ثم ينتقل إلى المبسوطات والمطولات، ولا يغفل عن حلقة شيخه ولا يكتفي في حلقة الدرس بالسماع بل عليه أن يعتني بدروسه ضبطا وتعليقا ونقلا إن احتمل ذهنه هذا، وأن لا يستحي من السؤال عما أشكل عليه بتلطف وحسن أدب.
ثالثا: آدابه مع شيخه
ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيما يأخذ عنه العلم، وهو من كملت أهليته وظهرت ديانته، وعليه أن ينظر إليه بعين الإجلال والاحترام، وأن يعرف له حقه ويتواضع ويذل له، وأن يبجله في خطابه إياه في حضوره وغيابه، وأن يصبر على هفوة أو جفوة ولا يصده ذلك عن ملازمته والاعتقاد فيه، ويبدأ عن الجفوة بالاعتذار ويُنسب الموجب إليه، والعتب عليه، وأن يحرص على الحضور إلى الدرس قبل معلمه، وأن يجلس متأدبا منتصبا في حضوره لا مائلا أو مضجعا، ويلقي السمع لما يلقيه المعلم بحيث لا يُحوجه إلى التكرار، ولا يسأله عن مصدر حديثه، فإن أراد ذلك فليسأله بلطف عقب الحلقة، ولا يستحي السؤال إذا أغلق عليه الفهم، وليسأل ذلك في موضعه من الدرس.
وبالنظر في هذه الآداب أو الأخلاقيات نجدها تغطي سائر أجزاء المنظومة التعليمية من المعلم إلى الطالب والمنهج، وأدوات التعلم وكيفيته، وتشرح بدقة العلاقات البينية فيما بينها، من جهة أخرى يلاحظ أن بعض هذه الآداب تندرج ضمن فئة (الأخلاق النظرية) ومنها: خلوص النية لله، والزهد، وبعضها الآخر يندرج ضمن (الأخلاق العملية) مثل: حق المعلم على طلبته، وكيفية ترتيب الدروس وما إلى ذلك.
وبالجملة استطاع العلماء المسلمون صوغ نظرية تربوية متكاملة وأحاطوها بسياج أخلاقي محكم، صيانة للعلم وتنزيها له عن الابتذال.