للأخلاق مكانة عليا في النسق الإسلامي، بحيث تتعدى أهميتُها ودلالتُها مجردَ كونها “مفهومًا” يتصل بالفضيلة، أو “عملاً” يتصل بالمندوب والمرغوب؛ إنها هنا تمثل ثمرة الإسلام في الواقع العملي، وفريضة من فرائضه بالمعنى الكلي الثابت، كما أنها توجز مفاهيم الإسلام الكبرى وموقفه الأساس من “الله” و”الإنسان”؛ حتى ليمكن القول: الأخلاق مرآة للدين والتدين.
ومفهوم “الأخلاق” يعبِّر عن طبيعة النفس الراسخة، وليس عن مجرد الأفعال العارضة. وقد عرَّف الجرجاني “الخُلق” بأنه: عبارة عن هيئة للنفس راسخةٌ تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا وشرعًا بسهولة، سميت الهيئة: خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة: خلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه؛ وكذلك من تكلف السكوت عند الغضب بجهد أو روية لا يقال: خُلقه الحلم([1]).
إذن، “الأخلاق” تعبِّر عن طبيعة الإنسان الراسخة نفسيًّا، والتي بدورها تعبِّر عن طبيعته الراسخة معرفيًّا، بما يمثل مجمل تصوراته الفكرية و”نموذجه المعرفي”، ليس فقط فيما يخص علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؛ وإنما أيضًا، وبالأساس، بعلاقته بالله سبحانه وتعالى.
الأخلاق مرآة للدين
“الدين” جملة من المفاهيم والتصورات، في العقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات. وتمثل “منظومة الأخلاق” في بناء الدين منظومة أساسية تدل على جوهره، وتعكس بقية منظوماته التي تدور إجمالاً حول الموقف من “الله” ومن “الإنسان”.
ويمكن النظر لأي دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب الفكرية والاجتماعية، من خلال منظومته الأخلاقية؛ فالعقائد والعبادات والتشريعات إنما تتبلور في الأخلاق، وتنعكس على صفحتها.
فمثلاً، من يدّعي اصطفاءً لنفسه من دون الناس، أو أفضيلة له بسبب جنسه؛ فإنه سَيُرتِّب على ذلك منظومة خُلقية تنحصر في ذاته وفيمن يشاركون تلك المعتقدات، بينما ستكون هذه المنطومة مختلفة تمامًا مع غيرهم.
وقد عاب القرآن الكريم هذه النظرة العنصرية تجاه الالتزام الأخلاقي؛ فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 75).
قال ابن كثير: وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين، وهم العرب؛ فإن الله قد أحلها لنا. قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: وقد اخْتَلَقُوا هذه المقالة، وَائْتَفَكُوا بهذه الضلالة؛ فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها، وإنما هم قَوْمٌ بُهْتٌ([2]).
فإذا أردت أن تتعرف على جوهر الدين وحقيقته، ومدى صدق هذا الدين وسلامته من التحريف واتساقه مع الفطرة، فانظر لمنظومة الأخلاق فيه؛ فإذا كانت منظومة ثابتة لا تتلون تبعًا لنظرة عنصرية، وكانت منظومة تجمع بين المثالية والواقعية، مثل الجمع بين الرحمة والعدل؛ فإننا نعرف من ذلك استقامة المنظومة العقدية في هذا الدين.
فالعقيدة الصحيحة تُنتج أخلاقًا صحيحة؛ والأخلاق الصحيحة لا يمكن أن تَنتج إلا عن عقيدة صحيحة؛ فالعلاقة بينهما- وبين سائر مكونات الدين، من العبادات والتشريعات- علاقة ترادفية متكاملة.
بل في التجربة الإسلامية وفي عموم تجارب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، رأينا أن أخلاقهم المستقيمة التي عُرفوا بها بين أقوامهم، كانت دليلاً يستند إليه “النبي” في حثِّ قومه على تصديقه، والتأكد من صحة ما يدعوهم إليه. فهنا جاءت الأخلاق مُمهِّدةً للدين، لا أنها مُترتِّبة عليه فحسب.
فالنبي ﷺ عُرف قبل البعثة بالصادق الأمين، وقال لقومه لما أُمِرَ بالتبليغ: “أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟” قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: “فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” (متفق عليه، من حديث ابن عباس).
وقوم صالح حين أرادوا أن يشغبوا على نبيهم، أشاروا إلى حسن سيرته بينهم، بما كان يُنتظَر منه غير الذي يدعوهم إليه! فَمَدحوا من جانب، وذَمُّوا من جانب آخر! {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} هود: 62).
أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع، وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفًا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه. ولكنه، لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة، قالوا هذه المقالة، التي مضمونها، أنك كنت كاملاً والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير”([3]).
الأخلاق مرآة للتدين
وكما نستدل بمنظومة الأخلاق على نسق الدين الذي تتبعه؛ فيمكن الاستدلال أيضًا بمنظومة الأخلاق على صدق المتدين؛ فالأخلاق الصحيحة المستقيمة ثمرة لتدينٍ صحيح مستقيم؛ والتدين الصحيح المستقيم ينتج أخلاقًا صحيحة مستقيمة.
ولهذا كان من صفات المؤمنين جملة من الأخلاق والسلوكيات بجانب صحة الاعتقاد وصدق التعبد. ومن مواطن القرآن الجامعة في ذلك، ما جاء في أوائل سورة المؤمنون؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} (المؤمنون: 1- 11).
فهنا نرى من صفات المؤمنين وأخلاقهم: الإعراضَ عن اللغو، وحفظَ الفرج، وأداء الأمانة ورعاية العهد، بجانب صفات: الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها، وأداء الزكاة.
بل كانت الأخلاق السيئة علامة على النفاق، الذي هو أمر قلبي، لكنه حتمًا يظهر في فلتات اللسان وأعمال الجوارح. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ (متفق عليه). فالتدين الصحيح ثمرته الأخلاق الصحيحة، والعكس بالعكس.
الأخلاق شرطًا مجتمعيًّا
ومن المهم أن نشير هنا أيضًا إلى أن الأخلاق تُعد شرطًا مجتمعيًّا في عملية النهوض والبناء الحضاري؛ خاصة إذا اعتمدنا مفهومًا جامعًا للحضارة لا يقتصر على عمران المادة والأشياء، وإنما يضم إليه عمران النفسي والجوارح.
فالمجتمع حين يفقد أخلاقه، أو حين تشيع فيه الطبقية والعنصرية؛ فإنه ينقلب إلى مجتمع مادي تسوده لغة القوة لا الأخلاق، وتُهضم فيه حقوق الضعفاء، ويكون الصراع بدل التكامل، والتشاحن بدل التراحم!!
الأخلاق دائرة متسعة
وهنا نأتي بإيجاز إلى أهم ما يميز منظومة الأخلاق في الإسلام، وهي أنها أخلاق ذات دائرة متسعة جدًّا؛ بحيث:
– تَشمل تصرفاتِ الإنسان كلَّها: سواء في علاقته بالله تعالى، أو بنفسه، أو بالناس على اختلاف درجاتهم منه قربًا وبُعدًا.
– تُظلِّل الناسَ جميعًا: حتى المخالفين منهم في الدين؛ فلا اعتداء على عرض أو مال بسبب المخالفة في الدين.. بل حتى في حالة الحرب، مطلوب أن نلتزم بجملة من “أخلاق الحرب”؛ فلا تمثيل بالجثث ولا إجهاز على جريح([4]).
– تَمتد على اختلاف الزمان والمكان والحال: فالتزام الأخلاق مطلوب في الزمان كله (مثلاً: في رمضان وغيره)، وفي المكان كله (في المسجد وخارجه)، وفي الحال كله (في الرضا والغضب، وفي الغني والفقر) .. فجميع الزمان والمكان والحال داخلٌ تحت مظلة الأخلاق، لأن الله تعالى يرانا ويطلع علينا، ولأن تصرفات الإنسان جميعًا معدودة عليه ومحاسَب عليها.
وهكذا نرى الأخلاقَ مرآةً صادقة للدين وللتدين، وشرطًا مجتمعيًّا في عملية النهوض والبناء الحضاري، كما أن دائرتها- خاصة في المنظور الإسلامي- دائرة متسعة تُظلل سائر علاقات الإنسان وأحواله وأفعاله..