يروم هذا التسجيل تقييد موضوع يكثر تداوله كل عام، وهو موضوع (الأداء النقدي لزكاة الفطر) ونجلو تحريره في مضامين النقط التالية:
أولا: صحيح أن زكاة الفطر عبادة، والعبادات جوامد لا تعلل عند الجمهور، إلا أن الخلاف في تعليل العبادات ينحصر في العلل المستنبطة لا النصية ثم الخلاف في العلل المستنبطة يكمن في الجزئيات الفروعية أما كليات العبادات فمعللة .. وقطع منحى التعليل العبادي من الأصوليين إنما كان لملحظ العلة القياسية وليس العلة المقاصدية. وزكاة الفطر معاملة معقولة المعنى، ومعلومة المقصد والعلة من تشريعها ، وقد فهم فقيه الحلال والحرام الصحابي الجليل معاذ بن جبل – رضي الله عنه- هذا المعنى، عند أخذه للزكاة من أهل اليمن ، حيث قال لهم: ” ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير ، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين ” ، وقد ساقه فقيه الحنابلة العلامة ابن قدامة وغيره من الأدلة في مدونة المغني 4/296 وعلق عليه قائلا : “وهذا دليل على جواز إخراج القيم“.
ثانيا: إذا تدبرنا النصوص الواردة في قصديتها كحديث ابن عباس ” فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر ، طُهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ” رواه أبو داود بسند حسن، وحديث ابن عمر أنه ﷺ قال: ” أغنوهم عن الطلب – أو السؤال – في هذا اليوم ” رواه الدارقطني بسند ضعيف، تجلت لنا قصدية مشروعية هذه الزكاة واضحة لمن له مراس مع نصوص الشرع وهي: “إغناء الفقراء عن السؤال والحاجة في العيد، تكميلا لسرورهم في مناسبته”، وحاجة الفقير اليوم لا تقتصر على الطعام فحسب، بل تتعدّاه إلى اللباس والحلويات وغيرها من احتياجات العيد. وقد رأيت من الناس من يأخذ الطعام ويبيعه بثمن بخس على أصحاب المطاحن والتموينات ليأخذ ثمنه يشتري به الملبس وحاجة العيد.
ثالثا: الذي يظهر لي أن العلة في تعيين الأصناف في الحديث ( شعير – تمر – زبيب – أقط ) هي البيئة الاجتماعية ذلك الحين فيستحيل أن يصدر نص غير مراع لبيئته وملابساتها واحتياجاتها، وقد كانت الحاجة إلى الطعام والشراب ملحة، وكانت نُدرة النقود أيضا شائعة، فمعظم معاملاتهم كانت تتم مقايضة، ولا يوجد كسر من الدرهم والدينار يوازي زكاة الفطر. فكيف للشارع الحكيم أن يتخطى أبعاد الزمكان ليخاطب زمنا آخر، بل إن أصل الشريعة العموم، والعموم يتحقق بالنقود مالا يتحقق بالطعام.
والجدير بالإشارة هنا أن المزكي لا يحق له التصرف بزكاة المال في أن يشتري للفقير ما يراه مناسبا؛ لأنه حق معلوم للفقير يتصرف به هو في ملكه كيف يشاء، وهذا ملحظ جيد في اعتبار القيمة في زكاة الفطر، ثم الفقير يرتب سلم احتياجاته وقوائم مشترياته.
رابعا: هناك عدد من الفقهاء رجحوا تلك العلة قديما وحديثا وصحبوها في فتح باب الزكاة النقدية، وقد قال أبو إسحاق السبيعي التابعي الثقة : ” أدركتهم وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام ” كما في مصنف ابن أبي شيبة.
أما أستاذ المقاصد الشرعية ورائدها الثاني من بعد الشاطبي الإمام محمّد الطاهر بن عاشور – فقد أجاز في الفتاوى التونسية 2/734- الاخراج النقدي فيها قال: ” يجوز إخراج قيمة الصاع على قول ابن دينار وابن وهب وأصبغ من أصحاب مالك رحمهم الله ، وهو الذي اختاره ابن رشد في البيان ” .
ورجح هذا الرأي رائد موسوعة (فقه الزكاة) الدكتور يوسف القرضاوي، فبعد تحرير جيد للنصوص قال: لقد أخذ النبي ﷺزكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار، كالشعير والتمر والزبيب، فقاس الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يقتات، أو غالب قوت أهل البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها. واختارت هذا الرأي اليوم معظم المجامع الفقهية. وأخيرا أقول: تسويق الإفتاء الإجباري عالميا بوجوب إخراج الطعام دون غيره وحكاية عدم الإجزاء لمن أخرجها نقودا غير سديد ولا مناسب، والأصل أن يتتبع حالة الأمن الغذائي المتوفر في أكثر مناطق العالم، وحاجة الفقراء إلى حرية التصرف بالصدقة، وقبل ذلك سهولة نقل الصدقة نقديا من المتصدق إلى المسكين.
وكل هذه القضايا تغيب لأجل الجمود على ظاهر النص دون فهم لبيئته وملابساته والظروف المحيطة به .
الخضر سالم بن حليس5>