تعتبر كتابات الباحث المغربي جميل حمداوي مرجعا غنيا ومفيدا للباحثين في موضوع علاقتنا بالتيار الحداثي. ويكتسي آخر أعماله في هذا الباب أهمية مؤكدة للقراء والباحثين، ونعني بذلك كتابه عن “الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة.. مواقف ومواقف مضادة” الذي جاء في فصلين رئيسيين، حمل الفصل الأول عنوان: “الإسلام والحداثة”، والفصل الثاني حمل عنوان: “الإسلام وما بعد الحداثة”.
يعدّ المجال الفكري أحد المجالات المعرفية التي اهتمّ بها الدكتور جميل حمداوي، الذي يشتغل “ضمن رؤية أكاديمية موسوعية”، أساسها الخوض والتأليف في ميادين علمية وأدبية وفنية متعددة ومتنوعة. وله في هذا المضمار عدد من الدراسات والأبحاث المنشورة في كتب مستقلة مثل كتابه الموسوم بـ”قطوف من حدائق الفكر”، الصادر بالرباط، عام 2013م، أو في أعمال مشتركة وفي دوريات وصحف وطنية وعربية، ورقية وإلكترونية، وهي من الوفرة بمكان. ولعل أحدثها كتابه “الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة: مواقف ومواقف مُضادّة»، الذي يقع في 160 صفحة، والصادر في شتاء 2014 عن دار نشر المعرفة بالرباط. وقد شارك الكاتب والمفكر السعودي الأستاذ زكي الميلاد بكتابة تقديم للكتاب بعنوان :”الحداثة والاجتهاد.. مقاربة فكرية جديدة”.
بين الحداثة والاجتهاد
وقد ركز زكي الميلاد في تقديمه الذي خصّ به كتاب جميل حمداوي، على بحث العلاقة بين الاجتهاد والحداثة. فمع إقراره بأن الحداثة مُنتَج غربي حديث، تشكّل -عبر مراحل- استجابةً لمجموعة من التطورات والتحولات التي شهِدَها المجتمع الأوروبي، منذ بواكير عصر النهضة، إلَّا أنه لا يُنكر إسهاماتٍ فكرية وعلميةً جادت بها عقول المسلمين مُذ القرن الميلادي السابع، تقترب كثيراً من هذه الحداثة، وتتقاطع معها في المرتكزات والأسس التي تنبني عليها، وتتجسّد تلك الإسهامات فيما أطلق عليه، في السياق العربي والإسلامي، “الاجتهاد”، بوصفه مفهوماً إسلاميًّا صرفاً.
بل إنه يزعم أن الاجتهاد هو المفهوم الأصيل الذي بإمكانه أن يقوم مقامَ الحداثة، بوصفها مفهوماً ابتكره الغربيون، وقصّروه –بكثير من التعسف– على كِيانهم الحضاري وتاريخهم وجغرافيتهم، مؤكِّدين أن الحداثة شأن غربي ابتداء وانتهاءً، وكأن الأمم والثقافات الأخرى لا حظَّ لها من الحداثة، ولا إسهامَ لها في بناء صَرْحها الكوني!
ويقول الميلاد: إن “مفهوم الاجتهاد، في المجال الإسلامي، هو المفهوم الذي يعادل، أو الذي بإمكانه أن يعادل، مفهوم الحداثة في المجال الغربي”. ويضيف بأن “الاجتهاد إذاً هو المفهوم الذي ينتسب إلى الحضارة الإسلامية، ويقارب مفهوم الحداثة الذي ينتسب إلى الحضارة الغربية”.
موقف الإسلام من الحداثة
ويعتبر هذا الكتاب إصدارٌ فكريّ للناقد والباحث المغربي وأستاذ التعليم العالي الدكتور جميل حمداوي، الذي يقول في مقال له، أن هذه الدراسة تتناول موقف الإسلام من الحداثة وما بعد الحداثة. ويعد هذا الموضوع إشكالية فكرية معاصرة صعبة ومعقدة، مازالت تثير كثيرا من النقاش العلمي والفكري إلى يومنا هذا، مشيرا أن الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع قليلة جدا في الحقل الثقافي العربي والإسلامي.
كما ينطبق هذا الحكم أيضا على الدراسات التي تناولت الموضوع في الحقل الثقافي الغربي، خاصة تلك الأبحاث التي تناولت الإسلام وما بعد الحداثة.
ويقول الكاتب أن البحث في الإسلام وما بعد الحداثة مازال موضوعا بكرا، يحتاج إلى نقاش مستفيض، ودراسات عميقة ، تجمع بين ماهو فكري وفلسفي وأدبي ونقدي وديني وسياسي وتاريخي.
ويقول حمداوي أنه قام بوضع تعريف بمفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، وحدد مقوماتهما النظرية والفكرية، واستعرض تاريخ الحداثة الإسلامية والغربية معا. كما استكشف سياق ما بعد الحداثة في حقلها الغربي، وبين أوجه الاختلاف والتشابه بين الإسلام وما بعد الحداثة.
وبين الكاتب المغربي أن ما يهم في هذا الكتاب هو رصد مختلف المواقف حول إشكالية الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، من خلال التوقف عند آراء المفكرين الأجانب والعرب المسلمين على حد سواء، مع نقد آرائهم نقدا علميا موضوعيا.ومن ثم، قد أنهينا كتابنا هذا بمجموعة من الخلاصات التركيبية.
كما يكشف عن المنهج الذي اتبعه في كتابه هذا، وهو منهج نقدي فكري قائم على التأريخ والتحقيب والأرشفة الببليوغرافية، واستعراض المعلومات والمواقف، وتقويم الآراء في ضوء مجموعة من الأدلة والحجج والبراهين النصية والعقلية .
إشكالية التعـريفات
وفي دراسة نشرها الكاتب والباحث المغربي فريد أمعضشو في يونيو 2019، تناول بالنقد والتحليل لكتاب جميل حمداوي “الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة”، وقال إن الكتاب يتناول إشكالية فكرية معقدة أثارت سجالاً ونقاشاً ملحوظين في العصر الحديث، وما تزال مستمرة بشكل أو بآخر، وهي إشكالية علاقة الإسلام بالحداثة، سواء الأولى أو الثانية (ما بعد الحداثة).
وقال أمعضشو أن حمداوي سلّط الضوء على واقع هذه الإشكالية، وتطوُّر معالجتها في السياق الثقافي العربي الإسلامي خصوصاً. لكنه ظهر غير مقتنع بما قدمه الكاتب من تعريفات لمسألة الحداثة، بحجة أن الدارس المتتبِّع لِمَا كُتِب ويُكتب في هذا الإطار يلمس، بوضوح، غياب تعريف نهائي، يكون “جامعاً مانعاً” بلغة المَناطِقة، للمفهومين، وإنْ كانا كَثيريِ الدَّوران في كتابات الباحثين المعاصرين وخطاباتهم، سواء في السياق الثقافي الغربي أو العربي الإسلامي.
وأشار أمعضشو، في مسألة التعريف، إلى الجهد المميَّز الذي بذله عبدالله العروي في سياق سعيه إلى تحديد ماهية الحداثة، ووجد أنه – أي العروي – قدّم نظرات عميقة، واجتهادات رصينة، كانت محطّ تقدير وتثمين لدى الكثير من الباحثين والمهتمين بموضوع الحداثة، على الرغم من أنه لم يستعمل مصطلح “الحداثة” في كتاباته الأولى، في الستينات والسبعينات، إلا أن مفهومها “صاحَبَه تاريخاً وفكراً وسياسة وإبداعاً، وصادَقَه صداقة العقل والوُجْدان”.
كما أشار أيضا، إلى أن من أبرز الدعاة إلى التعامل النقدي العقلي والبنيوي العلمي مع التراث المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، الذ يؤكد أن الحداثة “لا تعني رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسمّيه بـ«المُعاصَرَة “.
وعرّف جميل حمداوي، بتفصيل، ما بعد الحداثة بأنها “مجموع النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت بعد الحداثة البنيوية والسيميائية واللسانية، لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المَقولات المركزية التي هيمنت على الفكر الغربي منذ أفلاطون، كالأصل، والهُوية، والعقل، والصوت… مُستخْدِمةً في ذلك آليات التشتيت والتفكيك والتشكيك والتغريب والتأجيل. وتقترن ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتقويض واللامعنى واللانظام”.
غموض المفاهيم
ويبدو أن مفهوم “ما بعد الحداثة”، لا يقل غموضا والتباسا عن “مفهوم الحداثة” السابق، ويعكس ذلك حجم السجال المُثار حوله، والتباين في تمثّل مدلوله، وتعدّد التعريفات المقدمة له، التي تصل أحياناً حدّ التضارب. وقد عرّفه الباحث المصري د. سمير سعيد حجازي بأنه “حركة فكرية فلسفية ونقدية هدفُها التحرّرُ من المركزية ومن الأسس العقلانية العلمية، وهدم النظام والقواعد والمنطق وكافة المبادئ التي نهض عليها مشروع الحداثة الغربية، وجعل وظيفة النقد الإنشاء بواسطة الانطباع والرومانسية الفردية التي تطمس معالم الأثر الجوهرية، وتلغي كافة ثوابته وأدواره الإنسانية والحضارية”.
و يُفهَمُ من التعريفين، ومن تعاريف مفهومية أخرى، أن ما بعد الحداثة حركة أو نظريات ارتبطت بثلاثة مجالات رئيسة، هي: المجال الفكري، والمجال الأدبي النقدي، والمجال الفني.
التشكيك في ثوابت الحداثة الغربية
ويكشف البحث في الحداثة ومفاصلها عن وجهين بارزين لها، وجه ظاهر محسوس، ووجه باطن غير محسوس. فأما الأولُ فيتجلى في بُعْدها المادي الشكلي، أي في المخترَعات والمنجزات العلمية والتكنولوجية لموجة الحداثة الغربية. وأما الثاني فيتمثل في الحداثة العقلية والنظرية المؤسَّسة على “منطق الفكر الحديث”، بتعبير عبد الله العروي، فيما يسمّي المفكر الجزائري محمد أركون الوجه الأول بـ”التحديث”، بوصفه “مجرد إدخالٍ للتقنية والمخترعات الحديثة (بالمعنى الزمني للكلمة) إلى الساحة العربية أو الإسلامية”، في حين يسمي الثاني بـ”الحداثة” من حيث إنها “موقف للروح أمام مشكلة المعرفة”.
وذكر حمداوي أن التفكيك وتحطيم أسس الميتافيزيقا الغربية التي سادت أرداحاً متطاولة من الزمن كان بواسطة تشغيل آليات التشتيت والاختلاف والتغريب والتأجيل. واستعرض غايات أخرى تستهدف تحقيقَها ما بعد الحداثة، تحت عنوان “مرتكزات ما بعد الحداثة لدى الغربيين”، ومن أبرزها التشكيكُ في ثوابت الحداثة الغربية ويقينياتها، وانتقاد الخطاب الرسمي الغربي والمؤسسات التي تروّجه، والسعي إلى تحرير الإنسان من سلطانها ومن أوهام الأيديولوجيا والميثولوجيا وفلسفة التمركز التي تجدّ لترسيخها ونشرها بشتى السبل، وتحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية، والاستخفاف بنظرية الأدب المبنية على التصور الأرسطي الكلاسيكي الممتدّ إلينا من القرن الخامس ق.م.
وتتّسم ما بعد الحداثة بسمات أخرى كثيرة، سَرَد حمداوي عدداً منها في قوله: “تتميز نظريات ما بعد الحداثة عن الحداثة السابقة بقوة التحرر من القيود والقواعد، والانفكاك عن اللوغوس والتقليد وما هو متعارَف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناصّ والتعايش، ومحاربة لغة البَنْيَنَة والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الأيديولوجيا البيضاء، وعقلية الإنسان السوبرمان، والاهتمام بالمدنّس والهامش والغريب والمتخيّل والمختلف، والعناية بالعرْق واللون والجنس والأنوثة وخطاب ما بعد الاستعمار…”.
كما تمتاز ما بعد الحداثة، لدى الغربيين، بفَوْضَوِيتها وعدميتها، وبنشر اليأس والشكوك، وباللانظام واللاانسجام، وبطابع الغموض والغرابة إلى حد كبير، وبدلالات نصوصها العائمة التي تفضي إلى الإبهام وغياب المعنى، وبهيمنة خطاب الصورة البصرية…
حداثة الدعوة الإسلامية
وقد امتدّت هذه الحداثة من مجيء الدعوة الإسلامية وهي حداثة حقيقية، إنسانية، سامية، قيمية وروحية، مطلقة ومثالية، مدنية وعملية ومادية. لذا، وُصفت بالخيرية، والكونية، ورفعة مبادئها، وتميُّز قيمها.
وعلاوة على هذه الحداثة، التي سمّاها حمداوي في كتابه “حداثة الدعوة الإسلامية”، عرف المسلمون، منذ القرن 3هـ، فترات حداثية متعاقبةً ثلاثاً، هي: الحداثة العباسية التي تزامنت مع حقبة ازدهرت فيها الدولة الإسلامية في شتى الميادين الحياتية، وغلب عليها الطابع العلمي والفكري والسياسي.
ثم “حداثة الحركة السلفية”، بعد عصر الانحطاط والضعف والركود والانقسام، والتي كان وراءها مصلحون ونهضويون ومفكرون شغَلَهم، طويلاً، بحْثُ إشكالية تقدم الغرب الإمبريالي، وتأخُّر الشرق/ المسلمين! فجاءت آراؤهم وإجاباتهم، ها هنا، متفاوتة ومتعددة؛ بحيث إن منهم مَنْ أرجع سبب تخلف المسلمين، وتراجع إشعاع حداثتهم، إلى تفكك أوصال الدولة الإسلامية، وانتقالها من نظام الخلافة إلى “المُلْك العَضُوض”، وابتعاد أبنائها عن النبع الصافي لدينهم، وعن سنة الأسلاف ونمط حياتهم، قبل أن يدبّ الخلاف إلى صفوف المسلمين.
و للحداثة مخالب
إن نظرة موضوعية إلى الحداثة القبلية والحداثة البعدية تُفْضي، حتماً، إلى الإقرار بإيجابياتهما الكثيرة إقراراً لا يَنفي ما لهما من سلبيات. والحديث هنا عن الحداثة في سياقها الغربي تحديداً.
وقد جرد الباحث جميل حمداوي جملة وافرة من تلك الإيجابيات والسلبيات في فصْلَي الكتاب. ولعل إيجابياتهما ونقطهما المشرقة هما دافع المؤلِّف إلى عقد مقارنة بين الإسلام والحداثة ليُثبت أن ديننا يقبل كثيراً ممّا جاءت به الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب، بل إنها من صميمه، على أن الواجب، هنا، استحضارُ الخلفيات والسياقات الثقافية والحضارية المتباينة حتى لا يُوصَفَ كلامُنا وفهمنا بالقصور والنظرة التجزيئية إلى الأمور.
فللحداثة الغربية إيجابيات وسلبيات، كما لا يخفى على أيّ دارس متعمِّق في تناول الظواهر المدروسة. ولذا، أكد محمد أركون أن “للحداثة مخالب تحت قفازات من حرير”.
إشكالية الإسلام والحداثة
تعدّ هذه الإشكالية من أبرز الإشكاليات التي ناقشها المفكرون العرب والمسلمون المُحْدَثون، ولا سيما في العقود الأخيرة، وألّفوا فيها دراسات وأبحاثاً، يتضح من تصفحها أن أصحابها لم يتبنّوا موقفاً واحداً من تلك الإشكالية، بل تعدّدت واختلفت آراؤهم حِيالَها، وقد أحصى منها د. حمداوي ستة، يمكننا أن نُجْملها، ها هنا، في ثلاثة مواقف بارزة:
- موقف إيجابي مرحِّب بالحداثة، قابل لمعطياتها ونتائجها.
- موقف ناقد ورافض لها، بالنظر إلى سلبياتها ونقائصها ونقطها السوداء الكثيرة.
- موقف وَسَط مُنْبَنٍ على قاعدة التوفيق بين الحداثة الغربية والحداثة الإسلامية، والإفادة من المظاهر الإيجابية المُشْرقة فيهما معاً.
ولعل من أبرز مُتبَنِّي الموقف الأول المفكر الجزائري محمد أركون، الذي انتصر للحداثة الغربية، ومجّدها، وعَدَّها الحداثة الحقيقية الفعّالة الآن، والمُوائمة لطبيعة اللحظة الحضارية التي نعيشها، لذا، دعا إلى الانفتاح عليها، والاستفادة من أفكارها ومنجزاتها المادية والعلمية والتقنية.
وهذا يدْعُونا إلى التساؤل عن مدى وَجاهة هذا الخيار وصحته تاريخيًّا وفكريًّا، ألمْ تَبْنِ شعوب حداثة قوية، في الوقت المعاصر، دون الانسلاخ عن هويتها وأصالتها وتراثها (حالة اليابان أنموذجاً)؟!
لكن الواقع أن التراث هو أساس أي حداثة. فالغرب أقام نهضته وحداثته، خلال القرنين 15 و 16، بالعودة إلى تراثه الأصيل الضارب بجذوره في أعماق التاريخ. وبنَتْ شعوب كثيرة تجاربها الحداثية بالاستناد، أولاً، إلى ماضيها وما تختزنه ذاكرتها من قيم ونقط مُشِعّة. ولم يثبت أنْ بَنَتْ أمة حداثة أو أنموذجاً حضاريًّا متيناً دون رجوعها إلى تاريخها، واستفادتها من إيجابياته في شتى المجالات.
مواقف المفكرين
ويأتي كتاب حمداوي “الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة” ليُسْهِم في مناقشة هذه القضية، وليرصد –قبل ذلك– مختلف مواقف مفكرينا وباحثينا من إشكالية علاقتنا بما بعد الحداثة، وعددُها –كما وضّح الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب– ستة، يمكننا إجمالها في ثلاثة موقف كبرى:
فبعضُ المشتغلين بحقل الفكر الإسلامي المعاصر يمجدّون ما بعد الحداثة، ويرَوْن فيها أملاً ومشروعاً حضاريًّا وتنويريًّا متميزاً. ومن هنا، نُلْفيهم يُعَدِّدون إيجابياتها ونقطها المُشْرقة التي بإمكاننا الانفتاح عليها، والاستفادة منها في بناء حداثتنا ونهضتنا المنشودة اليوم.
ومن ذلك أنها تسعى إلى تحطيم البنى القديمة، وتقويض المقولات المركزية التي رانت على الفكر الغربي قديماً وحديثاً، وإقامة مَقُولات وقيم بديلة محلَّها. ومن ذلك أنها تدعو إلى الانفتاح والتواصل مع الآخر والتسامُح ونبذ العنف والإقصاء والتحيزات المقيتة، وأنها تؤمن بالاختلاف والتعدد، وتهتمّ بالأنوثة والذكورة معاً… وغير ذلك من المقاصد والمرتكزات التي قامت عليها الحداثة الثانية. ولعل من أبرز مُتَبنِّي هذا الرأي الباحث الباكستاني أكبر صلاح الدين أحمد في كتابه “الإسلام وما بعد الحداثة.. الوعود والتوقعات” (2009).
ونجد –في الضفة المقابلة– عدداً من المفكرين والدارسين العرب والمسلمين يرفضون ما بعد الحداثة، وينتقدونها بشدّة، بالنظر إلى كونها تُشيع الفوضى والعبث والسوداوية والعدمية والتشكيك واللامنطق واللانظام. ومن هؤلاء الباكستاني ضياء الدين سردار في كتابه “ما بعد الحداثة والآخر: الإمبريالية الجديدة للثقافة الغربية” (1998)، فقد نَقَدَ فيه الفكر الما بعد حداثي، وأوضح معايبه وسلبياته على جميع المستويات، وصرّح بأنه فكر يعكس حضارة أكثر ظلماً وقسوة واعتداءً في علاقتها بالشعوب الأخرى المستضعفة.
ويذهب أصحاب الموقف الثالث إلى أن ما بعد الحداثة ليست كلها نعيماً، وليست كلها جَحيماً، كما هو الشأن بالنسبة إلى الحداثة نفسها، بل إن لها إيجابيات وسلبيات. والواجبُ علينا انتقاء جوانبها الإيجابية المشرقة فقط، واستثمارها في بناء النهضة والتنمية، من مثل أفكارها المتعلقة بالتسامح والتعدد والانفتاح والتواصل والحرية.
جميل حمداوي و الرأي الانتقائي
ويميل د. جميل حمداوي، من بين كل المواقف التي اتُّخِذت من إشكالية الإسلام والحداثة البعدية، إلى هذا الرأي الانتقائي، إذ يقول بوضوح: “هذا هو الرأي الذي أتبنّاه شخصيًّا حين التعامل مع إشكالية الإسلام وما بعد الحداثة، لأنّ الحداثة لها مزايا كثيرة لا يمكن إنكارها، ولما بعد الحداثة أيضاً نقط إيجابية، فما علينا –نحن المسلمين– سوى الاستفادة منها قدْر الإمكان، مع الاعتماد على الذات في خلْق حداثتنا الخاصّة بنا، وتمثل حداثة الإسلام، قرآناً وسُنّة، في هذا البناء التنويري التنموي”.
وعموما، فإن كتاب الدكتور جميل حمداوي إضافةٌ إلى رصيد مكتبتنا الفكرية، التي ما زالت تشكو نقصاً في الأعمال التي تعالج الإشكالية المطروحة في الكتاب المذكور، ولا سيما تلك التي تتناول، بعمق فكري وبحث منهجي، قضية علاقة الإسلام بتيار ما بعد الحداثة.
فقد اجتهد المؤلِّف في جرد مواقف الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر من الحداثة وما بعد الحداثة الغربيتين، وفي تصنيفها، وفي تحليلها، وفي مناقشتها بإفاضة، دون أن يغفل تقديم وجهة نظره، المبنية على دلائل عدة، في تلك القضية المعقدة الشائكة التي لم يحسم النقاش العلمي فيها بعد. ولهذه الاعتبارات، يكتسي هذا العمل أهمية مؤكَّدة في بابه، ويغدو مرجعاً غنيًّا ومفيداً للباحثين في موضوع علاقتنا بالتيار الحداثي.