إن استثمار المال هو وسيلة من وسائل تحقيق غاية شريعة الإسلام. وتقتضي عمارة الأرض واستعمارها زيادة ما فيها من طيبات. ووفقاً للمنهج الإسلامي؛ توجد عدة معايير تضبط كل نشاط اقتصادي في المجتمع المسلم، ومنها الاستثمار. فما هو الإعجاز الاقتصادي في الادخار والاستثمار في ضوء القرآن والسنة.
ويعتبر سعر الفائدة؛ كأداة؛ من الموضوعات الرئيسة ذات الصلة بالاستثمار، وتحريم الفوائد الربوية له أثر في الحث على الاستثمار وإنتاج الطيبات. كما أن مبدأ الأولويات له أثر على إنتاج الطيبات، وسد حاجة المجتمع المسلم.
يأتي الإعجاز الاقتصادي في الادخار والاستثمار في ضوء القرآن والسنة من الضوابط والمعايير التي يقوم عليها النشاط الاقتصادي عموماً؛ والاستثمار على وجه الخصوص، حيث يحتل الادخار والاستثمار أهمية، والاقتصاد جزء من شمولية الإسلام، كما أن الاستثمار جزء من منظومة كلية تعمل وفقاً لضوابط محكمة؛ وأسس ثابتة؛ وإجراءات وآليات وفقاً للشرع الحكيم.
مفهوم ومعايير الاستثمار في الإسلام
يعني الاستثمار لغة؛ الثمر حمل الشجر، والجمع ثمار، وثمر الشجر، وأثمر الشجر؛ أي صار فيه الثمر، وبابه طلع، والاستثمار أي طلب الثمر، وفي المال طلب الثمر من أصل المال؛ قياساً على طلب الثمر من الشجر. وفي القرآن الكريم؛ يقول الله تبارك وتعالى: ” انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ” (الأنعام: 99)، “كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ” (الأنعام: 141).
اصطلاحاً؛ يقصد به استغلال المال بقصد الحصول على عائد، واللفظ عند الغربيين ( Investment ) ويعرفه علماء الاقتصاد بأنه زيادة المال الإنتاجي، كما يعنون به شراء الأوراق المالية. وتأسيساً على ذلك؛ فإن الاستثمار هو استخدام الأموال في الإنتاج؛ إما مباشرة في الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
والمقصود بالاستثمار في المنهج الإسلامي هو تشغيل المال لزيادته؛ عن طريق زيادة الإنتاج والاستزادة من نعم الله، وذلك لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية. وقد حض الرسول ﷺ على الاستثمار؛ وفقاً لهذا المفهوم، يقول رسول الله ﷺ: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل” (رواه مسلم). كما يعني عدم تبديد الطاقات الإنتاجية؛ ومنها الأصول الثابتة؛ يقول رسول الله ﷺ: “مَنْ بَاعَ دَارًا فَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهَا فِي مِثْلِهِا لم يُبَارَكَ لَهُ فِيها”ِ (رواه ابن ماجة وحسنه الشيخ الألباني)، وقال ﷺ: “إياك والحلوب” (رواه مسلم).
الهدف من الاستثمار في الإسلام ليس مجرد تحقيق الربح؛ ولكن الهدف هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بالمجتمعات الإسلامية. ولم يذكر القرآن الكريم لفظ التنمية ولكنه ذكر الإعمار، وتعني التنمية الشاملة والمستدامة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها…” (هود: 61).
وأهم معايير الاستثمار في الإسلام؛ هي الآتي[1]:
– معيار العقيدة: فالإنسان مستخلف من الله سبحانه وتعالى في المال، يقول الله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة: 30).
– معيار الأخلاق: مثل الصدق والأمانة والسماحة في المعاملات؛ وأن تكون في الطيبات، يقول الرسول ﷺ: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء” (رواه الترمذي).
– معيار التنمية الاجتماعية والاقتصادية: حيث يتوزع الاستثمار على كافة الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع، ويحرم الإسلام المعاملات التي لا تمثل نشاطاً اقتصادياً منتجاً. وفي المقابل يبيح الاشتراك برأس المال في المعاملات التي تمثل نشاطاً اقتصادياً حقيقياً منتجاً.
– معيار لا ضرر ولا ضرار: ويعني عدم إيذاء الناس أو نشر الفساد، يقول الله تعالى: “وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (هود: 85). إن شرط تحقيق المنفعة من أي نشاط اقتصادي؛ أن يخلوا من الفساد، إذ على الفرد أن يؤدي واجباته في حدود المنفعة التي تعود على المجتمع، ولا تستقيم أمور الدنيا إذا حُبس المال عن التداول.
– معيار ربط الكسب بالجهد: في مجال الاستثمار؛ كلما زادت درجة التقليب والمخاطر لرأس المال زاد العائد، والعكس صحيح.
– معيار الغنم بالغرم: وهي من أهم معايير الاستثمار في الإسلام؛ فلا يصح أن يضمن إنسان لنفسه مغنماً ويلقي الغرم على عاتق غيره. فبقدر ما يغنم به صاحب رأس المال من أرباح ومزايا في حالات الرواج واليسر؛ بقدر ما يجب أن يتحمل من خسائر في حالات الكساد، وهذا هو العدل.
المعيار | معايير الاستثمار في الإسلام |
1- معيار العقيدة | فالإنسان مستخلف من الله سبحانه وتعالى في المال، يقول الله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة: 30). |
2- معيار الأخلاق | معيار الأخلاق: مثل الصدق والأمانة والسماحة في المعاملات؛ وأن تكون في الطيبات، يقول الرسول ﷺ: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء” (رواه الترمذي). |
3- معيار التنمية الاجتماعية والاقتصادية | معيار التنمية الاجتماعية والاقتصادية: حيث يتوزع الاستثمار على كافة الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع، ويحرم الإسلام المعاملات التي لا تمثل نشاطاً اقتصادياً منتجاً. وفي المقابل يبيح الاشتراك برأس المال في المعاملات التي تمثل نشاطاً اقتصادياً حقيقياً منتجاً. |
4 -معيار لا ضرر ولا ضرار | معيار لا ضرر ولا ضرار: ويعني عدم إيذاء الناس أو نشر الفساد، يقول الله تعالى: “وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (هود: 85). إن شرط تحقيق المنفعة من أي نشاط اقتصادي؛ أن يخلوا من الفساد، إذ على الفرد أن يؤدي واجباته في حدود المنفعة التي تعود على المجتمع، ولا تستقيم أمور الدنيا إذا حُبس المال عن التداول. |
5 – معيار ربط الكسب بالجهد | في مجال الاستثمار؛ كلما زادت درجة التقليب والمخاطر لرأس المال زاد العائد، والعكس صحيح. |
6 – معيار الغنم بالغرم | وهي من أهم معايير الاستثمار في الإسلام؛ فلا يصح أن يضمن إنسان لنفسه مغنماً ويلقي الغرم على عاتق غيره. فبقدر ما يغنم به صاحب رأس المال من أرباح ومزايا في حالات الرواج واليسر؛ بقدر ما يجب أن يتحمل من خسائر في حالات الكساد، وهذا هو العدل. |
إن المفهوم الواسع للاستثمار هو توظيف النقود لأي أجل في أي أصل أو حق ملكية أو ممتلكات أو مشاركات؛ للمحافظة على المال وتنميته، سواء بأرباح دورية، أو بزيادات في قيمة الأموال في نهاية المدة أو بمنافع غير مادية. وهذا التعريف لا يحدد الاستثمار في أصول ثابتة فقط؛ بل يشمل الأصول المتداولة أو الصكوك التي تثبت الملكية…كما أن هذا التعريف لا يقصر الاستثمار على الإنفاق الاستثماري بإنشاء مشروعات جديدة أو استكمال مشروعات قائمة أو إحلال أو تحديث، ولكنه يتعداه ليشمل توظيف الأموال في الأصول المتداولة مثل البضائع أو الذهب.
وبالنسبة لدرجة الأمان في الأصول، فإنه يدخل في مفهوم الاستثمار عمليات فيها مخاطرة محسوبة، ويخرج من هذا المفهوم التصرفات الجامحة (الغير محسوبة)؛ مثل الشراء والبيع على أمل تحقيق مكاسب سريعة؛ بمفهوم المضاربة الغربي( Speculation) وهي تختلف عن المضاربة بالمفهوم الإسلامي.[2] والضرب في الاقتصاد هو السعي؛ فأي نشاط اقتصادي فيه حركة وضرب في الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: ” وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ” (المزمل: 20). والمضاربة هي نوع من البدائل الإسلامية في مجال الاستثمار.
بالنسبة لمنهج الادخار الإسلامي؛[3] يتأسس على ثلاثة أشكال أو صور ادخارية:
– ادخار أو تراكم يعمل في نطاق النشاط الإنتاجي، والإنتاج كما في المناهج الاقتصادية الوضعية؛ يعرف بانه خلق المنفعة سواء مادية أو خدمية. وتدرس المدارس الاقتصادية التراكم الرأسمالي على أنه الشكل الوحيد للادخار أو التراكم، في حين أن هناك نوعين آخرين في الاقتصاد الإسلامي؛ وهما:
– تراكم رأس المال الاجتماعي، وهو الادخار الذي يتحقق بواسطة الاستثمار في العنصر البشري، ويتميز المنهج الإسلامي بهذا النوع من التراكم.
– تراكم رأس مال الشخص العام، ويتم بواسطة الدولة الإسلامية؛ أو ما يسمى بالشخص العام، حيث أن كل ما يوضع في يد الدولة لا يذهب إلى الاستهلاك؛ كما يذهب أنصار المذهب الفردي حين حصروا دور الدولة فيما يسمى بالدولة الحارسة. وهم بذلك قد عملوا على عزل الدولة عن النشاط الاقتصادي، وذلك لمنع الإسراف الذي تسببه في الموارد الاقتصادية. ولكن جزء من الأموال التي يضعها الإسلام تحت تصرف الدولة يذهب إلى النشاط الإنتاجي، ويذهب إلى تراكم رأس المال الاجتماعي، أي أنه يوجد نوع ثالث من الادخار أو التراكم في الإسلام يتم من خلال الدولة.
ويضع الإسلام أسساً لعملية النشاط الاقتصادي والتراكم الرأسمالي. يقول الله تعالى: “ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” (المزمل: 20). وقد سوى الله بين المجاهدين في سبيل الله وبين الساعين في ابتغاء الرزق، وهذا يدل على المكانة المهمة للضرب “النشاط الاقتصادي” في الإسلام. والاستثمار بهذا المفهوم في جميع الأنشطة الاقتصادية التي يحتاجها المجتمع وفقاً للشرع هو واجب، ويقول رسول الله ﷺ: “من أحيا أرضاً ميتة فهي له” (رواه البخاري).
كما حث الإسلام على الاستثمار من خلال ترشيد الاستهلاك؛ خاصة عن طريق منع الاستهلاك الترفي، وترشيد الاستهلاك الكلي. ويقول الله تعالى: “مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (آل عمران: 117)، وهذه الآية تنفر من الإنفاق الاستهلاكي الترفي في الحياة الدنيا. وقد نهى رسول الله ﷺ عن الإسراف في الاستهلاك، وهذا يعمل على خلق فائض اقتصادي يستخدم في خلق التراكم الرأسمالي.
ويجب استغلال الموارد بطريقة صحيحة، لأن عدم استغلالها بالطريقة المثلى معناه اقتصادياً أن يؤدي إلى التخلف. ولقد عبر القرآن الكريم عن الموارد الاقتصادية بالنعم، وعبر عن التخلف بـ «الكفر بنعمة الله»، فالكفر هو الستر والجحود وعدم الاعتراف، ووجود موارد؛ رزق الله سبحانه وتعالى العباد بها دون استغلالها أو استغلالها بشكل خاطئ يعتبر كفر بها، وعاقبة ذلك كما قرر القرآن الكريم المعيشة الضنك التي قوامها الفقر الجسدي والنفسي بالجوع والخوف، كما قال الله سبحانه وتعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون” (النحل: 112).
الإعجاز الاقتصادي للحث على الاستثمار في القرآن والسنة
نشير هنا إلى التشريع الإسلامي في استغلال رأس المال؛ وفقاً لبعض المعايير والضوابط. والحث على استثمار المال؛ يرتكز على عدة أسس منها تحريم الاكتناز، وتحريم الفوائد الربوية، وأيضاً دور الزكاة؛ وكيف أن إخراج زكاة المال هو حث على استثمار الأموال حتى لا تأكلها الزكاة والصدقة.
وفي المقابل نجد أن النظريات الغربية تبرر الفائدة؛ حيث ابتكر الاقتصاديون الغربيون نظريات لتبرير الفائدة، حيث أن الفائدة وجدت أولاً في الميدان العملي تحايلاً على الربا، ثم وضعت النظريات لتدعيمها وتبريرها، وهذه النظريات؛ كالآتي: نظرية الريع؛ وهو تشبيه الفائدة بريع الأرض، ونظرية الربح؛ على أساس أن معدل الربح في العادة أعلى من معدل الفائدة، ونظرية المخاطر؛ وهي أن الفائدة عبارة عن تعويض عن المخاطر التي يتعرض لها الدائن؛ مثل عجز المدين عن السداد، ونظرية تحويل رأس المال النقدي إلى رأس مال عقاري، ونظرية أجر الزمن، ونظرية التضحية والانتظار، ونظرية تفضيل السيولة، ونظرية الاستعمال، ونظرية العمل المتراكم، ونظرية الأجير أو بخس المستقبل.
وعن تقييم هذه النظريات ومدى صلاحيتها؛ فإن النظريات المبررة للفائدة على اختلاف تعبيراتها تتلاقى على أن الفائدة هي ثمن أو أجرة للنقود مثل أي سلعة أخرى مقابل بقاء الدين في ذمة المدين إلى أجل أو مقابل التضحية، أو مقابل الانتظار أو جزاء الادخار أو جزاء عدم الاكتناز[4].
الإعجاز الاقتصادي في تحريم الربا ومشروعية البيع في القرآن والسنة
يعكس الرأي التقليدي في الربا اعتبارها نوعاً من الدخول التي تكسبها رؤوس الأموال المنتجة. والمغالطة في هذا الزعم في أن الفائدة تتحدد قبل تحقق الدخول وليس بعده، بصرف النظر عن وجود ربح للمشروع من عدمه. ويتحدد حجم الاستثمار في الفترة القصيرة بحجم التشغيل والدخل القومي، ويتوقف على الميل للاستثمار. ويتحدد الميل للاستثمار بعاملين؛ هما: الكفاية الحدية لراس المال، وهي تعني معدل العائد المتوقع من استثمار حجم معين من رأس المال إلى تكلفة هذا الاستثمار نفسه. وسعر الفائدة، وهي المقابل الذي يُدفَع لرأس المال المودع في البنوك؛ حيث يُفترض عدم توجيهه للاستثمار بواسطة الفرد.
ووفقاً لذلك يتحول الاستثمار إلى المشروعات التي تحقق أعلى ربح؛ دون النظر لحاجة المجتمع في نوعية الاستثمار، وترتبط الكفاية الحدية لرأس المال بعلاقة طردية مع حجم الاستثمار، كما توجد علاقة عكسية بين مستويات الاستثمار وتكلفة رأس المال وهي سعر الفائدة وفقاً للنظام الاقتصادي العالمي، حيث أن خفض سعر الفائدة يشجع على الاستثمار.
ويعتبر تحريم الربا ومشروعية البيع؛ من أهم مبادئ الاستثمار في الإسلام، يقول الله عز وجل: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” (البقرة: 275). وهي تعني أيضاً مشروعية البيع بالأجل، وهو من أهم أساليب الاتجار (أي عمليات الشراء بقصد البيع عن طريق تقليب المال للحصول على ربح حلال من الفرق بين تكلفة الشراء وثمن البيع)، ودليل مشروعية البيع بأجل في القرآن والسنة، يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ” (البقرة: 282). وعن عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: “اشترى رسول الله ﷺ من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعاً من حديد”‘ وفيه جواز الرهن. وقد أجمعت الأمة على جواز البيع لأجل إذا كان الأجل معلوماً، وهو من بدائل المعاملات الربوية.
وأيضا هناك المضاربة الإسلامية، والمشاركة الإسلامية، وبيوع المرابحة (تطورت وأصبحت تعرف بالمرابحة للآمر بالشراء)، وبيع السلم، والاستصناع.[5] كما توجد صيغ أخرى مثل صيغ الاستثمار الزراعية؛ كالمزارعة والمساقاة، وصيغ التأجير أو الإجارة؛ وهو نوع من أنواع التمويل بالتأجير.[6]
الإعجاز الاقتصادي لتجنب الاستثمار في الخبائث في القرآن والسنة
للإسلام عدة أساليب وأدوات للحث على الاستثمار في الطيبات؛ بما يحقق الصالح العام؛ بعيداً عن الاستثمار في الخبائث. وذلك وفقاً لسلم الأولويات الإسلامية؛ وهي الضروريات والحاجيات، وتحريم الاستثمار في الترفيات.
يستند الاقتصاد الإسلامي على الأخلاق كمبدأ أساسي في النشاط الاقتصادي، والضرب في الأرض يستند على الصفات الخلقية، وليس مجرد الرجل الاقتصادي؛ كما في النظام الرأسمالي؛ حيث يلتزم الفرد المسلم في استثمار ماله بمجموعة من القيم والأخلاق.
ويحرص المستثمر المسلم أن تكون معاملاته الاقتصادية في الطيبات؛ التي تتطابق مع الشريعة الإسلامية. فلا يتم الاستثمار في سلع أو خدمات محرمة شرعاً؛ مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى: ” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (الأعراف: 32). ولقد ورد في الأثر عن رسول الله ﷺ؛ أنه قال: “رحم الله امرءاً اكتسب طيباً، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته” ويشير الحديث إلى مبدأ الطيبات، والاقتصاد في الإنفاق، والادخار للمستقبل.
الإعجاز الاقتصادي في تحريم الاكتناز في القرآن والسنة
يعتبر تحريم الاكتناز من أهم الدوافع للاستثمار في الإسلام. يقول الله تبارك وتعالى: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (التوبة: 34). وكما يرشد الإسلام الجزء من الدخل الذي يوجه إلى الإنفاق الاستهلاكي، فإنه ينفر من اكتناز الجزء الباقي. وهو بذلك يحث على دفع المال إلى النشاط الاقتصادي.
وفي حين تهدف السياسات الاقتصادية العالمية إلى منع الاكتناز لدفع المال إلى المشروعات؛ فإن النهي عن الاكتناز من أهم أسس الاقتصاد الإسلامي، وهو إعجاز اقتصادي للحث على الاستثمار، وتوفير السيولة اللازمة لتمويل المشروعات ذاتياً للتنمية، وتجنب الاقتراض بفوائد.
وتعتبر فريضة الزكاة من أهم الدوافع للاستثمار، لأن الاكتناز يعني أن المال سيتآكل بسبب الزكاة، وفي ذلك إعجاز اقتصادي.
ومن الإعجاز الاقتصادي في تحريم الاكتناز في الإسلام هو التشغيل الكامل لرأس المال، حيث يجب توجيه رأس المال إلى الإنتاج. وهناك علاقة بين الادخار والاستثمار، فالاكتناز هو جزء الادخار الذي لم يوجه إلى الاستثمار.
وقد قرن القرآن الكريم بين أكل أموال الناس بالباطل وكنز المال، وأن تلك الممارسات هي صد عن سبيل الله. يقول الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ” (التوبة: 34-35).
أيضاً جاء تأثيم الاكتناز؛ بسبب ما يتضمنه من حقوق للجماعة على المال الخاص. والمهم؛ أنه إذا التزم المسلم بالمنهج الإسلامي؛ فسوف يوجه كل مدخراته إلى الاستثمار، وبالتالي سوف لا توجد رؤوس أموال مكتنزة أو معطلة عن أداء دورها في إعمار الأرض. كما أن الزكاة يمكن أن ينظر إليها من زاوية توجيه رؤوس الأموال إلى زيادة التشغيل. من هنا كان الاتجار بمال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة.
فالتشغيل الكامل لرأس المال أحد أهداف الزكاة؛ بالإضافة إلى الأهداف الأساسية؛ وهي تنمية العنصر البشري ذاته، وتقليل التفاوت بين أفراد المجتمع، والحث على الكسب من العمل.
إن النظم الاقتصادية تحاول منع اكتناز الأموال بالعديد من الإجراءات والسياسات، في حين أن فرض نسبة 2,5% على الفائض عن الحاجات؛ فيه إعجاز؛ حيث يؤدي إلى البحث عن وسائل مشروعة تمنع تآكل قيمة النقود بسبب التضخم، وتحقيق عائد يكون مناسب وأعلى من نسب التضخم، مما يؤدي إلى وجود حافز على تشغيل المال، والبحث في المشروعات المختلفة بالصيغ الإسلامية والعمل على المشاركة في تنمية المجتمع اقتصادياً واجتماعياً.
كما أن أمر الرسول ﷺ بالإتجار في أموال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة هو حث على الاستثمار. وهي من الاعجاز الاقتصادي في منع الاكتناز.
الإعجاز الاقتصادي في أولويات الاستثمار
إن قاعدة الأولويات في مجال الاستثمار والإنتاج؛ وفقاً للمنهج؛ تعني أن الاستثمار سوف يوجه إلى الأنشطة الضرورية للمجتمع الإسلامي، ولن يرتبط بمعيار الربحية فقط. ويعرف الربح المادي بأنه العائد النقدي من الاستثمار.
ومن وجهة النظر الإسلامية؛ فإن العائد ليس عائداً نقدياً فقط لأنه يوجه إلى النشاط الاقتصادية الأكثر ضرورة للمجتمع؛ كأولوية. وبالتالي فإن قاعدة الأولويات في الإسلام والتي تهتم بتوجيه الاستثمار إلى الضروريات تعتبر من الإعجاز الاقتصادي. والدليل على ذلك أن توجيه الاستثمارات في الدول الإسلامية دون الالتزام بسلم الأولويات؛ من أهم أسباب التخلف بسبب عدم دفع عجلة النشاط الاقتصادي إلى الأمام، وبالتالي حدوث البطالة، وانخفاض الإنتاج، وانخفاض قيمة العملة، والاعتماد على الخارج في الضروريات.
أيضا يرتبط الإنتاج في الطيبات بقاعدة أولويات الإنتاج، فالاستثمار في المحرمات يخرج النشاط الاقتصادي عن المنهج الإسلامي، فالمعاملات التي أباحها الإسلام لصاحب رأس المال أن يستغل بها ماله في إنتاج الطيبات، وفقا للأولويات، وهي من أهم أسباب إحداث التنمية.