“ما قرأت في القرآن قط وتلقّفتني تلك الفصاحة من كلّ جهة، وشهدتُ ذلك الإعجاز الذي يطبق العقل، إلا صحت بنفسي: انجي، ويحك فإني على دين النصرانية”، عبارة من كتاب “الهواء الطلق” للشاعر والأديب اللبناني المسيحي ” أمين نخلة”، الذي كان يحفظ كثيرا من القرآن، منبهرا ببلاغته وفصاحته، بعدما عاش مع اللغة أكثر من نصف قرن، وكان القرآن-الذي كان يواظب على تلاوته- يهز وجدانه، ويشبع ذائقته اللغوية، وذلك على خلاف الاستشراق الذي قام بعمليات تشويه للغة العربية، فزعم قصورها عن تلبية متطلبات العلم، ومدعيا صعوبتها، وداعيا إلى اللجوء إلى العامية واللهجات الدارجة بدلا من اللغة الفصيحة، وكذلك استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، في كتابه “تحت راية القرآن” يقول مصطفى صادق الرافعي:” إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة، ولا يدنو الفهم منها إلا بالِمران والمزاولة ودرسا لأساليب الفصحى والاحتذاء عليها وإحكام اللغة والبصر بدقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق فيها، وكل هذا مما يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها؛ ضربًا من الفساد والجهل”.
كتاب “لغة القرآن في منظور الاستشراق: دراسة تقويمية نقدية” تأليف الدكتور “محمود كيشانه” والصادر عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية، هو الكتاب العاشر ضمن سلسة القرآن في الدراسات الغربية، والكتاب يقع في خمسة فصول، هي: اتهام اللغة العربية بالقصور، إخضاع النص القرآني للنقد الأدبي، دعوى الأخطاء اللغوية في القرآن، ترجمة القرآن، دعوى نسبة القرآن إلى اللغات الآرامية والسرياني والعبرية، يقع الكتاب في 285 صفحة، وجاءت طبعته الأولى عام 2021.
الكتاب يحاول الإجابة على مجموعة من التساؤلات منها: هل اللغة العربية قاصرة؟ وكيف نظر الاستشراق إلى اللغة العربية؟ وهل كانت مواقف الاستشراق من اللغة العربية مواقف علمية ومنهجية بعيدة عن التعصب؟ وغاية الاستشراق من إيجاد مجال للتأثير بين الشعر الجاهلي ولغة القرآن؟
الاستشراق والعربية
تعددت المحاولات الاستشراقية للتشكيك في اللغة العربية والنيل منها، كخطوة للانتقاص من القرآن الكريم، فظهرت مؤلفات استشراقية مبكرة تزامنت مع الفترة الاستعمارية، فاللغة من أهم مقومات الهوية الحضارية العربية والإسلامية، وأدرك الاستعمار أن إضعافها هو إضعاف لروح المقاومة، فنقد المستشرقون اللغة العربية كلية في فروعها وأهميتها وتأثيرها ومبانيها وقواعدها، ولم تكن هي المقصود ولكن كان القرآن هو المستهدف، لأن اللغة العربية هي حاملة النص المقدس، وحاضنة الهوية، لذا كان المستشرقون يشوهونها، ويشغبون على وظيفتها الحضارية، ومن تلك المؤلفات رسالة الدكتوراه التي أعدها المستشرق الالماني “فرانكيل” ” Fränkel بعنوان “الكلمات الأجنبية في القرآن”، والنمساوي “كارل فولليرس” في بحثه “القرآن بلهجة مكة الشعبية”، و”مرجليوث” في بحثه “نصوص القرآن”.
اتبع الاستشراق طريق انتقاص اللغة العربية كمدخل للقدح في القرآن الكريم، فادعى أنها ليست لغة علم، كما شجع اللهجات المحلية، وحاصر الفصحي، وكانت البدايات مع المستشرق “ولهلم سبيتا” Wilhelm Spitta الذي كان يشغل منصب مدير دار الكتب المصرية، وكانت خطته ترتكز على وضع قواعد للغة العامية، مدعيا أن اللغة العربية ما هي إلا لغة المحتلين العرب، وكذلك المستشرق “وليم ويلكوكس” و”ماسينيون” الذي دعا إلى استبدال الحروف العربية بالحرف اللاتيني في الكتابة.
في مقدمته لكتاب “قواعد اللغة العربية العامية في مصر” الذي أصد عام 1880 اعتمد “ولهلم سبيتا” مجموعة من الخطوات لتحل العامية محل الفصحي، منها:
-الإشعار بصعوبة اللغة العربية متهما قواعدها بأنها صعبة، وكتابتها بأنها شاقة، وهذا مسوغ للجوء إلى العامية.
-الإعلاء من قيمة العامية، والإيهام بأنها لغة أدب وثقافة.
-الإدعاء بأن العامية لن تؤثر على الجانب العبادي في الإسلام.
لم تتوقف محاولات خلق جُدُر عازلة بين العرب وبين لغتهم، فوضع المستشرق البريطاني “دوفرين” تقريرا عام 1882 دعا فيه إلى هجر اللغة العربية، وإحلال العامية المصرية مكانها في بناء مناهج التربية والتعليم، وفي العام 1901 أصدر البريطاني “سلدن ولمور” كتابا بعنوان “العربية المحلية في مصر” وتوقع أن تغزو الإنجليزية مصر، لكن العقبة التي تقف في مواجهة ذلك، برأيه، كانت اللغة العربية الفصيحة، كذلك ظهرت في بعض العواصم العربية مؤلفات تشجع على العاميات، مثل كتاب “لغة بيروت العامية” الصادر عام 1911، و”لهجة بغداد العامية” الصادر 1912، و”لغة مراكش العامية وقواعدها” الصادر 1918
ويلاحظ أن المستشرقين نظروا للغة العربية الفصحية أنها لغة ماضي، وأنها لغة في طريقها للزوال، لذا كان المستشرق “كارل فولرس” في كتابه “اللهجة العربية الحديثة في مصر” يندد باللغة العربية ويتهمها بالجمود، وأنها في سبيلها للاندثار على غرار اللغات المندثرة مثل اللاتينية القديمة واللغة الايطالية القديمة، كذلك عمل المستشرقون على جعل اللغوية الجغرافية مقياسا للصواب والخطأ اللغوي، أي أن اللهجات صحيحة مادامت تؤدي وظيفتها في الاتصال، ولا شك أن ذلك يلغي فكرة المعيارية اللغوية، ويخلق فوضى في عالم اللغة، وفي سبيل ذلك ظهرت الأطالس اللغوية مثل: “الأطلس اللغوي لسوريا وفلسطين” للمستشرق الألماني “برجشتراسر” عام 1915، ووصل الأمر ببعض المستشرقين بأن يتحدث أن اللغة العربية ليست لغة حية
سعى الاستشراق لاحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي في الكتابة، وكان هذا التوجه جزءا من مشروع إحلال اللهجة العامية محل الفصحى، فالكتابة بالحرف اللاتيني يعني التخلي عن التراث العربي والإسلامي المكتوب بالعربية، وزعم المستشرق الألماني “بروكلمان” أن الأتراك ما وصلوا إلى الحضارة والتقدم إلا بالتخلي عن الحروف العربية.
كانت لتلك الدعوات لحصار اللغة العربية من جانب المستشرقين أثرها في البلدان العربية، إذ تأثرت بها شخصيات مثل :” سلامة موسى، وسعيد عقل، فمثلا دعا الوزير وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة “عبد العزيز فهمي” إلى الكتابة بالعامية في كتابه الصادر عام 1944 بعنوان ” الحروف اللاتينية لكتابة العربية” وكان الكتاب اقتراحا قدمه الرجل بصفته عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة للمجمع ، ودعا “ماسينيون” إلى العامية، وأن تكتب العربية بالحرف اللاتيني عام 1928، وكذلك المستشرق “كولان” .
وقد سعى المستشرقون للنيل من النحو العربي كخطوة للنيل من اللغة نفسها، فالنحو أداة ومعيار لضبط اللغة، فنفى المستشرقون الأصالة عن النحو العربي، وادعوا أنه تأثر باليونانيين، مثل “جولد تسيهر” الذي زعم أن النحو العربي مأخوذ من الفكر اليوناني، وكذلك “بروكلمان” الذي قال بوجود تشابه بين المصطلحات النحوية والمنطق اليوناني، رغم أن علماء اللغة العربية يؤكدون أن الإعراب فرع للمعنى، لذا كاون يهتمون بالاعراب اهتماما كبيرا، لأن الاعراب ما هو إلا القواعد المنظمة للغة، وكل لغة لها قواعدها التي تنظم فهمها ونطقها ومعانيها، وتجاوز النحو ما هو إلا تفكيك لقواعد اللغة العربية، فالنحو علم يصون اللغة من اللحن وسوء الفهم، لذا زعم الاستشراق صعوبة النحو العربي، كمقدمة للتحلل من منطق اللغة، وكأداة لتفكيك اللغة والدين معا.
القرآن والنص الأدبي
عمد الاستشراق إلى إخضاع لغة القرآن الكريم للنقد الأدبي ومعاملة نصوص القرآن كأي نص بشري، أي نزع القداسة عن القرآن، فنظر الاستشراق إلى لغة القرآن على أنه مرحلة من مراحل الأدب العربي، ومن ثم عمد الاستشراق إلى دراسة القرآن وفق مقاييس القراءة الأدبية، فمثلا ربط “كارل بروكلمان” بين لغة القرآن وسجع الكهان، ورأى بعض المستشرقين أن لغة النص القرآني صورة من صور المنتج الأدبي، وزعم هؤلاء أن لغة القرآن نص أدبي، لذا ربطوا بين لغة القرآن ولغة الأدب في محاولة لاثبات التماثل، ووضع بعض المستشرقين فرضية العلاقة بين القرآن والشعر، رغم أن القرآن منذ لحظة نزوله وهو ينفي صفة الشعرية عن النبي،ﷺ، حتى إن أحد سادات قريش العارفين بصروف الكلام نفي صفة الشعر عن القرآن، فالقرآن له نظمه الخاص الذي يختلف عن الشعر وعن النثر.
وزعم الاستشراق أن القرآن مقتبس من الشعر الجاهلي، مثل المستشرق البريطاني “وليا سان كلير تيسدال” الذي زعم أن لشعر “امريء القيس” تأثير في القرآن، وعمد الاستشراق إلى القول بوجود مخالفة في الأسلوب بين القرآن المكي والمدني، وزعموا أن القرآن الكريم به أخطاء لغوية، وهنا يظهر المستشرق الألماني “نولدكة” الذي اتهم الأسلوب القرآني بوجود أخطاء، متهما أسلوب القرآن بعدم الجمالية.
ورغم ذلك تظل اللغة العربية هي السياج الأقوى للدفاع عن القرآن الكريم، واختراقها، أو تنحيتها من حياة الناس ثقافتهم هو أحد أشكال إضعاف تأثير القرآن في الأمة المسلمة، فاللغة أداة للتواصل والتفاهم، وهي رابط جامع للهوية الحضارية.