يتناول المقال موضوع الامتداد الشرعي للحمل بعد انقطاع الحياة الزوجية، مع التركيز على الضوابط الشرعية في حالات الطلاق البائن والوفاة. يستعرض المقال الأطر الفقهية والتشريعية التي تحدد مدة الحمل وأثرها على حفظ نسب الطفل وحقوق الزوجين، مستشهداً بآراء المذاهب الفقهية المختلفة وأحكام مدونة الأسرة المغربية.
مدة الحمل بين أقل الأقصى وأقصى الأقصى
على عكس اعتبار أقل مدة للحمل حتى يكون شرعياً وهي الستة أشهر كاملة دون أي انتقاص ولو بنصف شهر، يرى الفقهاء أن الحكم في أقصى مدة للحمل يبقى متأرجحاً ما بين أقل مدة للحمل وأقصى مدة له، وذلك بحسب وضع المرأة في علاقتها مع زوجها وغيابه عنها.
تعريف أنواع الغياب وتأثيرها على مدة الحمل
إذ تختلف أنواع الغياب بحسب اختلاف الظروف، وتنقسم إلى غياب مطلق وغياب مقيد وغياب حضور.
الغياب المطلق
فالغياب المطلق يعني وفاة الزوج أو سفره حيث لا يُعلم مكانه واختفى.
غياب الحضور
وهو وضع الزوجة في حالة طلاق رجعي. إذ إن غياب الوفاة أو الطلاق البائن سواء كان بينونة صغرى أو كبرى يعتبر فيه أقل من أقصى مدة للحمل، أي أن المدة المقررة ينبغي أن تكون ما دون السنة أو الأربع سنوات حسب المذاهب قديماً، كما يقول ابن قدامة: “إن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطأت ولا انقضت عدتها بالقرء ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها منقضية”.
يقول أيضاً كتسلسل وتفريع للموضوع: “وإن انقضت عدتها بالشهور ثم أتت بولد دون أربع سنين لحقه نسبه، لأنّها إن كانت تدعي الإياس تبين كذبها، فإن من تحمل ليست بآيسة، وإن كانت من اللائي لم يحضن أو متوفية عنها لحقه ولدها لأنه لم يوجد في حقها ما ينافي كونها حاملاً”.
حماية نسب الطفل وحقوق الزوجين
في هذين النصين حصانتان لنسب الطفل وهما:
- حفظ نسبه من جهة دعوى أبيه.
- حفظه من جهة نسب أمه، لأنه إذا أراد الأب أن ينفيه، يقيد المدة المستحقة لأمه، وإن أرادت الأم أن تحرمه من أبيه، تقيد المدة المستحقة لأبيه.
هذا مع فتح باب درء الحدود بالشبهات، وحينئذ قد تتجاوز هذه المدة، وذلك للعمل على حفظ نسب الولد من الضياع كالوطء بشبهة في عدة الطلاق البائن، كما يقول وهبة الزحيلي نقلاً عن المذاهب وخاصة الحنفية: “ويثبت ولد المبتوتة بلا دعوى ما لم تقر بانقضاء العدة إذا جاءت به لأقل من سنتين لأنه يحتمل أن يكون الولد قائماً وقت الطلاق، والحمل عندهم لا يبقى أكثر من سنتين، فإذا جاءت به لتمام سنتين من يوم الفرقة لم يثبت نسبه من الزوج لأنه حادث بعد الطلاق فلا يكون منه لأن وطأها حرام إلا أن يدعيه الزوج لأنه التزمه وله وجه بأن وطأها بشبهة في العدة”.
التداخل بين المدة الأدنى والأقصى وحماية نسب الولد
قد تتداخل المدتان الأقل والأقصى في تحصين نسب الولد، ووضعية المدخول بها وغير المدخول بها إعلاناً، كما يتمازج حق الزوج والزوجة عند المدتين لتجاذب النسب بين الإثبات والنفي مع اعتبار عنصر أساسي في تحقيقه، ألا وهو عنصر الصدق والأمانة. فيقول الزحيلي: “ويثبت نسب ولد المتوفية عنها زوجها ولو غير مدخول بها إذا لم تقر بانقضاء عدتها ما بين الوفاة وبين السنتين”.
وإذا اعترفت المعتدة مطلقاً بانقضاء عدتها ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار، ثبت نسبه لظهور كذبها بيقين، فبطل الإقرار. وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر لم يثبت نسبه لأنه علم بالإقرار أنه حدث بعده، لأنها أمينة في الأخبار وقول الأمين مقبول إلا إذا تحقق كذبه.
الأحكام الفقهية للطّلاق الرجعي
أما في حالة الطلاق الرجعي، فإن المدة المعتبرة تكون هي أكثر من أقصى مدة للحمل بعد اعتبار الإقرار بانقضاء العدة، إذ حسب مذهب الحنفية وهو أيضاً مسلك المذاهب الأخرى في هذه القاعدة: “إذا كان الطلاق رجعياً ثبت نسبه منه في أي وقت تأتي به ولو مضت سنتان فأكثر من وقت الطلاق ما لم تقر بانقضاء عدتها بعد طلاقها منه، ويحمل ذلك على أنه راجعها بعد الطلاق في عدتها التي قد يطول وقتها إذا امتد طهرها، ويكون ثبوته بالفراش الذي استدامته الرجعة.
في صيغة متطابقة، يقول الزحيلي ملخصاً للمذهب الحنفي في المسألة: “يثبت نسب المطلقة الرجعية من الزوج في رأي الحنفية إذا جاءت بالولد لسنتين أو أكثر ولو طالت المدة لاحتمال امتداد طهرها وعلاقها في العدة ما لم تقل بانقضاء عدتها وكانت المدة تحتمله”.
هذا التمديد يكون في مصلحة المرأة والطفل معاً، وذلك لأن العدة في الطلاق الرجعي تكون عبارة عن فترة مراجعة للسلوك في الحياة الزوجية والنظر في العيوب الصادرة من كلا الزوجين، علهما يصلحان من أمرهما. مع احتفاظ الزوج بحق المراجعة داخل العدة، وذلك لأنه الذي أوقع الطلاق بنفسه، فله أن يجبر الكسر الذي أحدثه للزوجة في تلك الحالة. كما عبر عن ذلك النبي ﷺ بلاغة: “فكسرها طلاقها”.
من هنا، فالمهاترات التي يتذرع بها بعض النساء اللواتي لم يسلكن بعد مطلقاً بحكم الشرع في مسألة الطلاق وحق الزوج في إيقاعه عند الضرورة ثم التراجع عنه بعد ذلك، كتصحيح واستدراك، تبقى مبنية على أوهام ذاتية وساعية إلى الإكثار من مظاهر الطلاق بغير رجعة، ويكون الخاسر فيه هو المرأة والطفل بالدرجة الأولى.
هذا إذا علمنا أن الطلاق في الإسلام من القضايا التي يبغضها الله تعالى، قد يهتز لها عرش الرحمن كما ورد في الخبر عند وقوعه، وإن كان مباحاً في بعض الأحيان والظروف فإنه يبقى معللاً ومحذراً منه حسب مقتضى الخطاب ووجه الإباحة فيه.
إذن، ممارسة المبغوض تجعل من الشخص الممارس له أن يكون بدوره مبغوضاً تبعاً! وهذا من أسباب ابتعاد العبد عن رضا الله تعالى حينما يوقع هذا الإجراء بغير حق وبالتسرع يكون في غير صالح المجتمع ككل، كمالاً تليق بأخلاق المسلم المؤسسة على الوحدة والتآلف والتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. كما يقول النبي ﷺ: “إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً” و”أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم.
فالطلاق بغير حق أو ضرورة يكون ضد هذه الأخلاق المقربة إلى الله تعالى ورسوله ﷺ. يمكن الرجوع في أخبارها في هذا المجال إلى كتب الصوفية الذين كانوا فرسان العلاقات الزوجية والصبر في دائرتها دون اللجوء إلى الطلاق بأي حال!
أجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها
الإعلام بوقوع الحمل في مدة العدة
إن الحمل الذي قد يقع داخل العدة لابد وأن يُعلم به حتى تُحتسب المدة خارج أقصاها، وهذا ما تناوله الفقهاء بالدراسة والتحليل ووضع الضوابط للتواصل بين الزوجين رغم أنهما في حالة طلاق رجعي بإمكانهما التراجع داخل العدة المنصوص عليها في القرآن والأحاديث النبوية وبقرار من الزوج ابتداءً.
من هنا، كما يلخص ابن رشد أحكام الرجعة بأنه “أجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها، لقوله تعالى: ‘وبعولتهن أحق بردهن في ذلك’، وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له، واتفقوا على أنها تكون بالقول والإشهاد، واختلفوا هل الإشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط؟ وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطء؟.
تنظيم العلاقة بين الزوجين في الطلاق الرجعي
إضافة إلى مسألة النية في الرجعة وما إلى ذلك من تفريعات في المسألة، فقد تحدد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في الطلاق الرجعي على مستوى إمكان الاتصال أو الخلوة. كما يقول ابن رشد: “واختلوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة، فقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما. وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها، وقال أبو حنيفة: لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل. وبه قال الثوري وأبو يوسف الأوزاعي، وكلهم قالوا: لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل”.
تأثير الكتمان في الرجعة على مستقبل زواج المرأة
كما قد تثار مسألة الكتمان في الرجعة وما لها من آثار على مستقبل زواج المرأة، وذلك حينما يراجع الزوج زوجته قبل انتهاء العدة، ولكن لا تصلها رجعته — أي أنه يكتمها عنها — فتتزوج مباشرة بعد انتهاء عدتها، ومن ثم يقع مشكل: المرأة بين زوجين وأيهما سيكون مستحقاً لها دون الآخر. حيث اختلف الفقهاء في هذه المسألة ما بين اعتبار الزوجة للأول أو للثاني مع تغليب حق الأول كما دلت عليه ظواهر بعض النصوص ويميل إليه ابن رشد في بداية المجتهد حيث يقول: “وحجة الفريق الأول أن العلماء قد اجتمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج، وإذا كانت الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول وهو الأظهر إن شاء الله تعالى، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي ﷺ قال: ‘أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما’.
الكتمان في الرجعة سواء كان بإشهاد أم بغيره قريب من معنى عدم الإعلان في الزواج وتركه سرا
آثار الكتمان على حقوق الحمل والنسب
فالكتمان في الرجعة سواء كان بإشهاد أم بغيره قريب من معنى عدم الإعلان في الزواج وتركه سرا، كما أن إسقاط الشاهدين في الرجعة قد يعرض المرأة إلى وضعية تكون فيها ضعيفة في اعتبار حقها من أقصى مدة للحمل، إذ قد يدعي الزوج أنه لم يباشرها قبل إيقاع الطلاق عليها، وأنه لم يتصل بها أثناء العدة.
من ثم، إذا جاءت بولد يفوت حمله السنة — كما هو مقرر حالياً — فإن تلك الزيادة تكون مردودة على المرأة إلا إذا أقر الزوج بالوطء أثناء العدة. ولكن إذا اعتبرت الرجعة بغير شروط سوى الوطء، وهذا من إقرار المرأة بحسب طبيعة الظرف الممكن من التواصل في الطلاق الرجعي، فإن ما بعد أقصى مدة للحمل سيبقى معتبراً وذلك لحفظ نسب الطفل وحماية المرأة من أن يعبث بعرضها قذفا وتضييعا لحقوقها كزوجة وأم.
حفظ نسب الطفل وفقاً لمدونة الأسرة المغربية
وهذا ما حافظت عليه مدونة الأسرة المغربية حالياً لحماية الطفل والمرأة من خلال المادة 124:
المادة 124: “للزوج أن يراجع زوجته أثناء العدة:
- إذا رغب الزوج في إرجاع زوجته المطلقة طلاقاً رجعياً أشهد عدلين على ذلك.
- يجب على القاضي قبل الخطاب على وثيقة الرجعة استدعاء الزوجة لإخبارها بذلك، فإذا امتنعت ورفضت الرجوع يمكنها اللجوء إلى مسطرة الشقاق المنصوص عليها في المادة 94 أعلاه.”
فكتمان الرجعة قد لا يكون له آثار قضائية على مستوى مدة الحمل، ولكن كما سبق وقلنا قد تترتب عنه نتائج تعتبر في حكم الخطأ في التقدير إن صح التعبير، وهو أن يتقدم شخص للزواج بامرأة لمجرد انتهاء عدتها ويكون مطلقها قد راجعها وهي لا تعلم أو كتمعنها، فتصبح الحقوق حينئذ متعارضة ومتشابكة لا يحلها سوى وجود الحمل، بحيث يكون الطفل هو الحد الفاصل لحل هذا الإشكال أو منعه إذ “أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن”.