“البرهان في الفلسفة” كتاب نادر الوجود ذائع الصيت، خاصة لدى الجامعيين العرب، وهو كتاب يتناول عموما موضوع الفلسفة الغربية والمنطق الرياضي والمنطق الجدلي صدر أول مرة سنة 1959 باللغة الفرنسية، لمؤلفه الفيلسوف العربي محمد بديع الكسم، وقد ترجمه إلى العربية جورج صدقني. ذلك أن “البرهان في الفلسفة” من أهم الكتب الفلسفية في الأعوام الستين سنة الأخيرة.
كتاب “البرهان في الفلسفة”صدر مؤخرا صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “طي الذاكرة”، وهو يقع في 280 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
الكاتب والمترجم
مؤلف كتاب “البرهان في الفلسفة” فيلسوف عربي، وُلد في عام 1924 في مدينة دمشق. حصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1958 من جامعة جنيف في سويسرا، عن أطروحة “فكرة البرهان في الميتافيزيقا”. درّس الفلسفة في سورية بجامعة دمشق، ثمّ في جامعة الجزائر، حيث ساهم في الفترة 1968-1972 في برنامج التعريب الذي نفّذته الجزائر بعد الاستقلال. تنقّل بين سورية وفرنسا وسويسرا، ثمّ عُيّن في سورية عضوًا في مجمع اللغة العربية في دمشق. توفي في عام 2000، بعد مسيرة حافلة في التدريس والتأليف والترجمة، مؤثّرًا في جيل كامل من الطلاب والباحثين العرب وغير العرب.
أما مترجم كتاب “البرهان في الفلسفة” فهو الدكتور جورج صدقني فهو أستاذ في الفلسفة، ومترجم، وسياسي سوري. وُلد في محافظة طرطوس في عام 1931، وتوفي في عام 2010. ترأّس اتحاد الكتّاب العرب، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية في دمشق. صدر له عددٌ من الأبحاث والترجمات في الفلسفة والسياسة والتربية.
قصة “البرهان في الفلسفة”
صدر البرهان في الفلسفة، أوّل مرة، باللغة الفرنسية (رسالة دكتوراه للمؤلف الكسم)، وكان عنوانه فكرة البرهان في الميتافيزيقا L’idée de preuve en métaphysique عام 1959، عن دار المطابع الجامعية Presses universitaires de France, PUF في باريس. وفي عام 1991، نشرته باللغة العربية وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية بترجمة لجورج صدقني الذي صدَّر الكتاب بمقدمة غنيّة عن الدكتور الكسم ومقالاته ومحاضراته، وها هو المركز العربي يعيد اليوم طباعة هذا الكتاب القيّم في ظل ندرة نسخه وصعوبة إتاحته للعامة.
ولكتاب البرهان في الفلسفة باللغة بالفرنسية أكثر من طبعة نُشرت في سويسرا وفرنسا، نتيجةَ الترحيب اللافت للانتباه الذي وجده من الفلاسفة وأساتذة الجامعات والمتخصّصين، والذي أشار إليه المترجم صدقني في مقدمته على الترجمة العربية، والأستاذ أنطون مقدسي في دراسة للكتاب بعنوان “من المنطق إلى الميتافيزيقا“، نشرها في العدد 334 من مجلة المعرفة السورية (1991).
البرهان في الفلسفة .. النادر الوجود الذائع الصيت
كتاب “البرهان في الفلسفة” النادر الوجود كان ذائع الصيت لدى الجامعيين العرب، وخصوصًا منهم طلاب الكسم نفسه (كان يدرّس الفلسفة الغربية، والمنطق الرياضي، والمنطق الجدلي عند هيغل، وغير ذلك)؛ ما جعلهم ينتظرون ترجمته بشغف، وهو شغف لم يقتصر على الطلّاب، بل شمل حتى الأساتذة. ويُرجِع المعارض السوري المقيم في السويد عبد الباسط سيدا، وهو من مؤسسي المجلس الوطني السوري، ورئيسه في الفترة 9 حزيران/ يونيو – 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012.
وقد كان أحد تلامذة الكسم في جامعة دمشق، كتابَ “البرهان في الفلسفة” إلى مذكرة في مادة الفلسفة الغربية كان الكسم يدرّسها في ستينيات القرن العشرين، عنوانها “الحقيقة الفلسفية”. وكانت هذه المذكرة تشرح مفاهيم التوكيد والحكم (كل حكم هو صادق من مُصدِرِه)، والحقيقة وصاحبها والقضية (الحقيقة متضمنة في حكم صاحبها، والتعبير عن الحكم هو القضية) … إلخ. ويقول سيدا إن الكسم كان يحتج على الأحكام المسبقة والمواقف الأيديولوجية فيها لأنها لا تتسق مع المناقشة الفكرية التي تحترم خصوصية الفكر وحرية التعبير.
موسوعيٌّ كثيرُ اطلاع
يتناول الكسم في البرهان في الفلسفة، في صفحات قليلة العدد، مقارنة بغيره من الموسوعات الفلسفية، آراءَ أكثر من 250 من المفكرين والفلاسفة الغربيين (أهمهم: هيراقليطس، وبارمنيدس، وسقراط، وأفلاطون، والقديس أوغسطين، والقديس أنسلم، وتوما الأكويني، ورينيه ديكارت، وباروخ سبينوزا، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، وإيمانويل كانط، وكارل ماركس، وألبرت أينشتاين وهنري برغسون، وبرترناند راسل، ولودفيغ فتغنشتاين، وألفرد آير، ورودولف كارناب، وجان هرش، وغاستون باشلار، وغيرهم).
كما يتناول العرب المسلمين (أبو نصر محمد الفارابي، وأبو علي الحسين بن سينا، وأبو حامد محمد الغزالي، وأبو الوليد محمد بن رشد، والشيخ محمد عبده، ومحمد إقبال، ومالك بن نبي، وربحي كمال، وسامي الدروبي، وغيرهم).
وكان على معرفة حتى بالفلاسفة المغمورين وأفكارهم، وهي معرفة تشهد على سعة اطلاعه؛ ينبئنا بذلك مترجم كتاب “البرهان في الفلسفة” جورج صدقني، الذي كان يدرس الآداب في جامعة دمشق خلال تدريس الكسم مادتَي الفلسفة العامة والمنطق لطلّاب هذا الاختصاص، فيقول إن الكسم كان يفاجئ الطلاب أحيانًا خلال تناوله آراء مشاهير الفلاسفة، مثل ديكارت وهيغل، بعرض رأي فيلسوف تركي أو ياباني لم يسمع به أحد من قبل، وإن سعة اطلاعه هذه حجزت له احترامًا خاصًّا لدى أساتذة الجامعة كلهم، حتى كان أكثرهم صرامة وهيبة إذا سُئل يجيب أولًا، ثم يحيل السائل على الدكتور الكسم.
وينقل صدقني عن سامي الدروبي السفير والوزير وعميد كلية الآداب السابق والكاتب (الحاصل على جائزة لوتس للأدب في عام 1978 بعد وفاته) والمترجم الأهم للأدب الروسي والأستاذ الجامعي والفيلسوف وفيلسوف القومية العربية … إلخ، قوله له: “استفيدوا يا جورج، الأستاذ بديع أحسن أستاذ فلسفة في الشرق الأوسط”.
ضريبة النجاح والردّ
على الرغم من الاعتراف الشامل بقدر الكسم، فإن ذلك لم يمنع من إيقاع الظلم به؛ فقد اتُّهم بالإقلال من الكتابة، وأُنكر عليه وضعه نهجًا منطقيًّا صارمًا لقياس الحقيقة، وامتلاكه فلسفة خاصة به تمهِّد لفلسفة إنسانية تنفي التعصب وتوطّد السلام، بتركها تقرير الحقيقة إلى كل إنسان؛ ما يفضي إلى تفاهم البشر واعتراف كل منهم بالآخر.
أما إقلاله من الكتابة فليس بتلك القلة التي صُوِّرت. وعلى الرغم من أن ما قاله في محاضراته ودروسه على مدى أربعين عامًا كافٍ لملء عشرات الأسفار الضخمة، فإنه كان ذا شعور مفرط بمسؤولية الكلمة، وهذا الأمر ليس عيبًا في شخصية الباحث، بل إنه دليل على صدق التزامه بالحقيقة واستجلائها. ولا نرى ردًّا أبلغ على هذا الحكم الظالم في حق الكسم إلّا من خلال نظرة عجلى إلى مختلف كتاباته الواسعة التي امتدّت إلى ميادين الفلسفة والعلوم الإنسانية.
لقد كانت كتابته الأولى أثناء دراسته في جامعة القاهرة، حين نشر تلخيصًا لكتاب برغسون التطور الخالق الذي يُعد أصعب كتبه، وكتيبًا عن الشاعر الفرنسي بول فاليري، ثم في دمشق مقالتَي “العاطفة القومية بين مزايا الأمة وعيوبها”، و”الإنسانية الصحيحة في القومية الصحيحة”.
وبعد تلك الفترة المبكرة نشر مقالة “دور الفلسفة في توحيد الفكر العربي” في القاهرة، ثم مقالة “الثقافة القومية والثقافة الإنسانية”، ومحاضرة “الشرق والغرب في فلسفة رينيه غينون”، ومقالة “الحقيقة الفلسفية” في جامعة دمشق، ثم محاضرة “طاغور الفيلسوف” في ذكراه المئوية، بيَّن فيها فلسفة الهند عمومًا، ودعوتها إلى القضاء على الفردية، والتحرر من الجهل، ومقالة “مفهوم الوطنية في فلسفة فيشته” في دمشق، وقد حلل فيها كتاب يوهان غوتليب فيشته خطب إلى الأمة الألمانية ونقده فلسفة التنوير واللغة والحضارة الفرنسيتين، وإيضاحه الطابع القومي للشعب الألماني.
ثم مقالة “الشعب وحرية الفرد في فلسفة هيغل” في دمشق، التي بيّن فيها أنْ لا حرية للفرد عند هيغل إلا حين يعيّن بنفسه قاعدة سلوكه، ومقالة “حول أزمة الإنسان الحديث” في دمشق، التي حلّل فيها كتاب تشارلز فرنكل أزمة الإنسان الحديث، وتعرض فيها لوجهات نظر ماريتان، ومانهايم، ونيبور، وتوينبي، ثم مقالة “النزعة الإنسانية”، التي أوضح أنها دفاع عن الفردية ضد العبودية – الإقطاعية، وعن حرية التفكير ضد سلطة التعصب، وعن نبالة الإنسان ضد قوى الطبيعة، ثم مقالتَي “الغاية والوسيلة” و”من خصائص التفكير” في دمشق، ثم مقالة “الإنسان حيوان ناطق”.
وقد كشف فيها عن منطقية منهج الجدليين في أن الإنسان ينزع إلى العقل بتجاوزه نفسه، وأنه حيوان صانع، وحيوان سياسي، وحيوان فيلسوف، ثم مقالة “الحرية أساسًا”، التي تتناول علاقة الحرية بالحقيقة والقيمة، ومحاضرة “الثورة الثقافية” في الجزائر، التي عرّف فيها الثورة بأنها ثقافية أولًا، وهو يرفض تسمية انتفاضات التاريخ جميعًا بـ “الثورات” لأنها لم تستبدل بالتبعية استقلالًا، وبالقهر حرية، وبالمذلة كرامة.
أما الثورة الثقافية العربية، فيقول الكسم إن عليها تجاوز أخطاء التجارب الأخرى وإشاعة منظومة من القيم تستطيع مجتمعةً أن تُنمّي في المواطن صلابة نفسية تحميه من الانحرافات المختلفة. وفي مقالة “ازدواج الدلالة في الثقافة العربية”، يترافع الكسم دفاعًا عن الثقافة العربية، وعن اللغة العربية، فينبري لكتاب يحمل هذا العنوان لمجموعة علماء حاولوا فيه تصوير ظاهرة الأضداد في اللغة العربية دليلًا على لامنطقية العقل العربي، متصديًا لمزاعمهم ومفندًا وداحضًا.
مفكرون أوروبيون عن “البرهان في الفلسفة”
إنّ أهم عمل منشور للكسم هو، بلا ريب، كتاب البرهان في الفلسفة، وقد صدرت حوله تعليقات قيّمة لمفكرين أوروبيين كشفت تهافت الاتهامات الظالمة السالفة الذكر التي وُجهت إلى مؤلِّفه، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- “لا نستطيع إلا أن نثني على الشجاعة التي أظهرها السيد الكسم، وعلى الطريقة الواضحة والدقيقة التي عالج بها الموضوع” (جان إيكول).
- “الكتاب إسهام جيد في جهد الوضعيين والمناطقة والمؤرخين لفهم المهمة الفلسفية” (بورجلان).
- “الكتاب يدحض موقف الفيلسوف بيرلمان، والمؤلف الكسم يدافع في هذه المسألة عن حقوق الفلسفة” (مجلة العلوم الفلسفية واللاهوتية).
- “هذا الكتاب الممتاز دفاع عن الفلسفة، وربما وجب على كل مهتم بالفلسفة أن يقرأه” (ليڤراز، مجلة اللاهوت والفلسفة)،
- “الآن نستطيع القول إن العرب عادوا بعد غياب طويل يساهمون في العمل الفلسفي ويقومون بدورهم في بناء الحضارة الإنسانية” (بوخنسكي) … إلخ.
- وإضافة إلى هذا، استشهدت أهم مطوَّلات المؤلفات الفلسفية بفقرات من هذا الكتاب، مع التأييد والتقريظ، مثل فينومينولوجيا الموجود لغابوريو، وغيره.
إعادة النشر: حوافز وآمال
كان ما مرّ من ثناءات وتقريظات على الكتاب أساسيًّا لإعادة المركز العربي للأبحاث نشره، فهل يجوز أن يطَّلع عليه الأجانب، والفرنسيون بوجه خاص، وأن يبقى العرب غافلين عن أنّ فيلسوفًا كبيرًا منهم رفع شأن الفلسفة عاليًا في الأوساط الفكرية والثقافية في العالم الخارجي؟
لقد طرح الكسم الفكرة المركزية لكل فصلٍ في بدايته، ثم أوغل في مضمونه المباشر، بعرض الفكرة وإيضاحها وفحصها وتتبعها في تاريخ الفلسفة ومناقشة الاعتراضات المحتملة عليها، وصبَّ جهده الفكري على نظريات البرهان الفلسفي، لا على البرهان نفسه. وكان تعامله مع “تقنيِّي الفلسفة” أكثر من تعامله مع الفلاسفة أنفسهم، وكانت أعمال الفلاسفة مصدر الأمثلة التي استشهد بها لإثبات رأيه، وهي أمثلة أراد بها لفت انتباه القارئ إلى ضرورة الرجوع إلى موقف الفيلسوف، وليس تعليمه هذه النظرية الفلسفية أو تلك، ولا تزويده بمعلومات عن هذا الفيلسوف أو ذاك.
لقد أمل الكسم أن يكون كتابه عونًا على تبديد حالات سوء فهم، وإزالة أنقاض متراكمة في ميدان الفلسفة، وتعبيرًا عن تقدير مَن يرون في محبة “الحق” شغل الإنسان الشاغل.
يُعَدّ البرهان في الفلسفة من أهم الكتب الفلسفية في الأعوام الستين سنة الأخيرة، وستتيح إعادة نشره إمكانية الاستفادة من منهجية الكسم ورؤيته الفلسفية، وهو كتاب يشتمل على سمات بحثية تمكّن من معرفة كل ما هو جديد في الفلسفة والمنطق ومتابعته؛ ومن أجل هذا كانت حيازته ضرورة لكل فيلسوف أو طالب علم الفلسفة.