أولى الإسلام عناية خاصة بالأبناء وأوصى بهم والديهم خيرا وأوجب عليهم واجبات لصيانة حقوقهم، وقد تحدث القرآن عن البنوة وصاغ قواعد للعلاقة بين الآباء والأبناء، وقدم نماذج تجسدت من خلالها هذه القواعد، وفي السطور التالية نتوقف أمام مفهوم البنوة واستعمالاته القرآنية، ونعرض للتصور القرآني للبنوة ثم نقدم نموذج للحوار بين الآباء والأبناء.

البنوة في الاستعمال القرآني

 البنوة مصدر الابن واتفق أهل اللغة على أن المراد بها الابن الصلبي، قال الحلبي: “ابن اشتقاقًا من البناء لأنه بناء أبيه أي أصل في وجوده، وقيل لكل من كان يحصل من جهته تبن أو من تربيته هو ابنه”[1]، وقال الجرجاني “الابن حيوان يتولد من نطفة شخص آخر من نوعه”[2].

والقرآن الكريم تحدث عن البنوة، وقيل إن مادة (بنو) وردت حوالي (162) مرة في صيغة المفرد والمثنى والجمع، كما استعمل مرادفاتها وأكثرها ورودا (الولد) كما استعمل ألفاظا مشابهة مثل: الغلام، الطفل، المولود، الذرية.

ويميز القرآن بين كل مفردة ويستعملها كل في سياق مخصوص، وعلى سبيل المثال تأتي (بُني) و (بَني) في معرض الامتنان وإظهار النعمة والفضل ومن ذلك قوله ” يا بَنيّ إن الله اصطفى لكم الدين” وقوله ” يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا“، وعادة ما تكون محملة بمشاعر الحنو والعطف على الصغير (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله)، والدعاء له (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)، وإسداء النصح (يا بني لا تشرك بالله)، وقد ورد اللفظ في بضع مواضع مصحوبا بالرجاء لأجل نجاة الابن (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين).

رجل يحمل يد طفلين، ولد وبنت، يتجهون للأمام. الصورة تمثل الحب والأسرة، بتصميم ظلي بسيط.

 وأما لفظ البنين فعادة ما يستخدم في مقام إظهار القوة والمنعة وخصوصا إذا ما أضيف إليه المال (ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) وقوله (أن كان ذا مال وبنين).

أما لفظ (الولد) فيأتي عادة في السياقات غير المحمودة مثل التحذير من الافتتان بالأولاد (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، وفي سياق الوعيد بالعذاب في الآخرة (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا)، وفي سياق الإنكار على الكافرين (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون)، ولكنه يستخدم كذلك في مقام الحديث عن حقوق الأولاد من قبيل (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم)، و(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).

 البنوة: أنواعها وخصائصها

تشير الآيات القرآنية إلى أن الأبناء نعمة إذ يأتي ذكرها في معرض الامتنان (وأمددناكم بأموال وبنين)، والبشر مفطورون على حب الذرية فمن حرم منها التجأ إلى الله بالدعاء أن ينالها ويظل يراوده الأمل حتى وإن صار عجوزا (هنالك دعا زكريا ربه رب هب لي من لدنك ذرية طيبة)، (قالت يا ويلتى ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا)، ومن لطائف التعبير القرآني وصفه لحظة الإبلاغ بالبشارة، وأن يقرن بينها وبين السرور القلبي (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب).

وكما أن الأبناء نعمة فهم كذلك نقمة حذر منها القرآن (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدو لكم فاحذروهم) ولعل السبب في ذلك انشغال المرء بهم عن الطاعات (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله)، وقد يكون الأبناء داعيا للإقبال على الدنيا ولذلك قرن القرآن بين الأولاد والأموال في (24) موضعا باعتبارهما من علامات الانكباب على الدنيا، ويشير القرآن إلى أن نعمة الأبناء تغدو نقمة إن أهمل الأبناء شأن النصح والتوجيه ولذلك أمرهم تأدية حقهم كما يفهم من قوله (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها النار والحجارة)، ويشير كذلك إلى أن من الأبناء من يرهق أبويه طغيانا وكفرا، ومنهم من يكون قرة عين لهما، وقدم نماذج لكلا الفريقين.

وبصفة عامة يمكن القول إن النماذج التي ساقها القرآن في البنوة، جلها نماذج إيجابية ترعى حق الآباء من مثل: إبراهيم وإسماعيل ويوسف وابنتي الرجل الصالح من أهل مدين، ويمكن من خلالها استنباط عدد من الخصائص التي تسم البنوة القرآنية، ومنها:

  • الطاعة، يأمر القرآن بطاعة الآباء طاعة مطلقة غير مقيدة إلا بقيد وحيد (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)، لكنها طاعة ليست عمياء فالقرآن ينهى عن أن يكون الابن إمعة لأبيه وعشيرته يسير على دربهم وإن ساروا إلى الجحيم كما فعل إبراهيم، ولذلك يحذر القرآن من هذا المسلك بقوله (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، ويقابل الطاعة العصيان ويفهم من القرآن أن عاقبة العصيان هي هلاك الابن كما هو الحال مع ابن نوح الذي رفض طاعة أبيه فكان من المغرقين).
  • استشارة الأهل، يُحبذ القرآن في مسألة البنوة استشارة الأبناء لأبائهم فيما يعرض لهم من أمور قد تشكل عليهم، ويستشف هذا المعنى من حديث يوسف مع أبيه حين عرض عليه أمر الرؤيا الغامضة، ولم يبخل الأب بالنصح والتوجيه (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا)، من جانب آخر يقوم الأبناء بتقديم المشورة بأدب للآباء إن كانوا أهل لها، ومن ذلك قول فتاة أهل مدين لأبيها (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)
  • الخشية على الأهل، يصور القرآن عبر إبراهيم عليه السلام نموذجا للأبن الحريص على إرشاد أبيه وهدايته بأساليب يغلب عليها اللين والرفق (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا).
  • قضاء حوائج الأهل، يصور القرآن الأبناء في صورة من يقدم العون والمساعدة للوالدين، فهذا إسماعيل يعاون أباه في رفع قواعد البيت، ويخيل لنا أن القرآن يجعل من قضاء حوائج الأهل من الأعمال المنزلية والروتينية أمرا متصلا بالفتيات كما يستشف من قوله (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير)، وقوله (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون).

حوار الآباء مع الأبناء في القرآن

تناول الخطاب القرآني مسألة علاقة الآباء بالأبناء في آيات كثيرة، وقد تنوعت أساليب الخطاب ما بين السرد والقصة والحوار وهو الأسلوب الغالب ضمن هذه الأساليب، وقيل هي سبعة عشر حوارا بين الآباء والأبناء في القرآن، وهذه الحوارات يمكن تصنيفها على النحو التالي:

  • حوار بين الأب الصالح والابن الصالح كحوار إبراهيم مع ابنه إسماعيل وحوار يعقوب مع ابنه يوسف.
  • حوار الأب الصالح مع الابن الضال والابن الفاسد العقيدة، كما في حوار يعقوب مع أخوة يوسف، وحوار نوح مع ابنه.
  • حوار الابن الصالح مع الأب الكافر كحوار إبراهيم مع أبيه[3].

وفي هذه الحوارات تبدو العلاقة في صورتها الواقعية وتمتلئ بالمضامين التربوية التي يمكن تفعيلها في الحياة المعاصرة، وفيما يلي نقدم تحليلا للحوار بين نوح وابنه لما فيه من التسرية على من ابتلي بعقوق أبنائه، ونستخرج من خلاله المضامين التربوية والقواعد التي يجب أن يتحلى بها الوالدين في تعاملهم مع الابن الفاسد.

ظلال أشخاص مقصوصين من ورق تمثل عائلة تتكون من أب وأم وطفلين، يمسكون بأيدي بعضهم البعض في إضاءة زرقاء خافتة، تعكس مفهوم الوحدة والترابط الأسري.

يقول تعالى “وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين”.

وفي هذا المشهد تحضر العوارض الكونية (فيضان، أمواج عاتية) كما تحضر المضامين التربوية والخلقية ومن بينها

  • كان حريا بنوح التفكير بالنجاة لكنه ظل يمارس مسئوليته الأبوية فحرص على إنقاذ ولده ولم يتنكب عن دعوته للركوب، وفي هذا دلالة أنه لا ينبغي للآباء القنوط من هداية الأبناء وألا يتوقفوا عن التوجيه والإرشاد مهما بلغ عتو الابن وإعراضه.
  • استخدم نوح في دعوة ابنه صيغة (يا بني) وهي صيغة لطيفة لا تلائم المشهد المضطرب لكنها توحي أن الرفق والحنان ينبغي أن يسود خطاب الأب في كل الأحوال وألا يشذ عنها بحال.
  • في المقابل غلبت الغلظة على خطاب الابن إذ تجنب مناداته ب (يا أبت)، وأعرض عن الاستجابة لدعوته محتجا بالاعتصام بالجبل، شأنه في ذلك شأن جميع الأبناء الذين يصمون آذانهم عن النصح مهما سلك الوالدين سبيل الرفق واللين.
  • الإعراض عن الاستجابة لم يحمل نوح على تخطئة ابنه وتشويه رأيه إذ ليس في الخطاب القرآني ما يشير إلى ذلك، وإنما اتجه إلى تفنيد حجة الابن الواهية بقوله (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) وفيه ما يدل على عدم جواز تحقير آراء الأبناء وإنما على الوالدين تفنيدها وبيان فسادها.

وبالجملة، اهتم القرآن بالبنوة باعتبارها الفترة التكوينية للإنسان، وقدم نماذج في البنوة جسدت علاقة الآباء بالأبناء في صيغتها المثلى.