تأكيدا لما ذكره د ثائر حلاق في مقالته جناية المناهج الجامعية المعاصرة، التي تحدث فيها عن الضعف المعرفي المعاصر لدى طلاب الجامعات، بسبب المذكرات والملخصات المعاصرة، وأنها لا تبني جيلا متينا في معارفه وعلومه الشرعية، وأن كتب المتقدمين لاغنى لطالب العلم المجد عنها؛ أذكر في ذلك عندما قرأت في كتب النحو المعاصرة؛ لم أجد فيها ما وجدته في شروح الألفية وحواشيها، من سبك العبارة وتحريرها وعمق الدلالة، بل تجد نفسك في رياض غناء تمر على دوحة من الشعر وأخرى في التفسير، فتنتقل بين بساتين المعرفة من درر البلاغة والبيان، ولطائف المفسرين، وإشارات الأصوليين؛ فتكتنز علما وفهما وأدبا.
وأذكر في هذا السياق -والشيء بالشيء يذكر- أن شاهد النحاة على التقديم والتأخير في البيت الشهير:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
أذكر أن هذا الشاهد النحوي جعلني أذهب لعلم المواريث وأهضمه؛ لأفهم دلالة البيت الشرعية، للتوصل منها للدلالة النحوية، إذ هو شاهد مشترك بين النحاة والفقهاء، فاقتضى ذلك مني تشريك الفهم واتساع العلم وانفساح الأفق المعرفي في رياض العلم وبساتينه الغناء..
والذين يتفلسفون حول هذا الشاهد، وينادون إلى تهذيب بعض المصطلحات الفقهية في هذا المقام، فيقولون وبنو بناتنا أيضا بنونا، يقال لهم: إنما أراد السادة الفقهاء تقريب المدلول الفقهي دون إسقاط المعاني المجردة على الواقع، إذ قصدوا من ذلك التفريق بين من يرث تعصيبا ومن لا يرث لكونه من ذوي الأرحام فحسب، كما أسموا الجد من جهة الأم الجد الفاسد؛ لكونه من ذوي الأرحام لايرث، دون إسقاط المعاني المجردة لهذا الاصطلاح، فهو مصطلح مخصوص لفن مخصوص.
ومنهم استفاد النحويون إذ جعلوا المعنى الشرعي حكما على القاعدة في هذا المقام، فأعربوا ” بنونا” خبرا مقدما، و”بنو أبنائنا” مبتدأ مؤخرا ؛ لأنه بدون ذلك يختل المعنى تماما ويشرد المقال!
وهذا التداخل المعرفي المشترك بين العلوم، هو ما توصلت إليه أخيرا مراكز الدراسات والبحوث العلمية وأوصت به، بما أسموه بالدراسات البينية.