يأتي كتاب “التطور التاريخي للاجتهاد الفقهي في أحكام المرأة في المذهب الحنفي من التأسيس إلى ابن عابدين” ضمن جهود أكاديمية تهدف إلى استكشاف العلاقة التفاعلية بين الفقه والتاريخ في ما يخص أحكام المرأة في المذهب الحنفي، من التأسيس النظري في العصر العباسي إلى أقصى تطوراته في عصر ابن عابدين بدمشق في القرن الثالث عشر الهجري.

اعتمدت مؤلفة الكتاب الباحثة مشاعل الشمري على رؤية منهجية تسعى لدمج التحليل الفقهي بالسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي وُلدت فيها تلك الاجتهادات، لتقترح بذلك مقاربة تفسيرية جديدة لفهم النص الفقهي بوصفه نتاجًا متغيرًا للواقع لا قالبا جامدا معزولًا عن سياقه.

ويمثل الكتاب نقطة التقاء بين حقلين معرفيين طالما جرت دراستهما بصورة منفصلة: الفقه والتاريخ. وهو بذلك يعيد مساءلة النصوص الفقهية الحنفية، ليس بوصفها نصوصًا ثابتة مطلقة، وإنما باعتبارها نتاجًا ثقافيًا واجتماعيًا وتاريخيًا يعكس روح عصره.

منهجية الدراسة

اتسمت منهجية الباحثة بالدقة والتماسك، حيث انطلقت من النصوص الفقهية التأسيسية التي تشكل حجر الأساس في المدونة الحنفية (كتب أبي حنيفة وصاحبيه)، ثم انتقلت إلى تحليل النصوص المعتمدة تاريخيًا، وهي التي تم تبنيها للفتيا والتعليم في كل قرن، وانتهت بدراسة نصوص نموذجية تمثل مراحل حاسمة في التاريخ الحنفي.

وقد صنفت الدراسة النصوص إلى:

  • نصوص مؤسسة: هي التي أُسست في العصر العباسي الأول، وتظهر فيها درجة عالية من الحياد والمرونة.
  • نصوص معتمدة: تعكس تطور الاجتهاد الفقهي بين القرون، وتظهر تأثرًا أوضح بالظروف السياسية والاجتماعية.

كما اعتمدت الباحثة على الوثائق الشرعية، وسجلات المحاكم، وكتب الفتاوى، بالإضافة إلى المصادر التاريخية التي تعكس الواقع المعاش للنساء في مختلف الحقب الإسلامية.

إشكالية الدراسة

ترتكز الدراسة على سؤال مركزي: هل الاجتهاد الفقهي الحنفي في أحكام المرأة تطور بخط متصاعد عبر الزمن، أم أنه تأثر بالتحولات التاريخية صعودا وهبوطا؟

هذا السؤال أدى إلى صياغة إشكاليات فرعية منها:

  • كيف انعكست الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على فقه المرأة؟
  • ما الفرق بين النص الفقهي في مرحلتي القوة والانحطاط السياسي؟
  • كيف يمكن قراءة صمت النصوص عن صوت المرأة؟

أهمية الدراسة

تنبع أهمية كتاب “التطور التاريخي للاجتهاد الفقهي في أحكام المرأة في المذهب الحنفي من التأسيس إلى ابن عابدين” من كونه يفتح أفقًا جديدًا في دراسة أحكام المرأة، ليس فقط من الزاوية الفقهية، بل ضمن قراءة نسقية متكاملة للفقه كتعبير عن تفاعلات الواقع الإسلامي. كما يقدم مادة تحليلية جادة لفهم النصوص المعتمدة في الفقه الحنفي، والتي لا تزال تُشكل مرجعية تشريعية في عدد من الدول العربية حتى اليوم.

ويأتي هذا في ظل الحاجة إلى فهم الفقه كجهاز معرفي متكامل، لا يمكن فصله عن ظروف إنتاجه. وباعتبار أن كثيرًا من قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة في العالم العربي تستمد من المذهب الحنفي، فإن إعادة قراءة هذا التراث تصبح ضرورة لا ترفًا.

بنية كتاب “التطور التاريخي للاجتهاد الفقهي في أحكام المرأة في المذهب الحنفي من التأسيس إلى ابن عابدين”

يتوزع الكتاب على ثلاثة فصول رئيسية، بالإضافة إلى ملحق موسع حول الحضانة:

الفصل الأول: النصوص المؤسسة في العصر العباسي الأول

يتناول هذا الفصل بدايات التأسيس الفقهي الحنفي، مستعرضًا أبرز الأحكام المتعلقة بالمرأة:

  • ولايتها على نفسها في الزواج
  • شرطا الكفاءة بالنسب والمهر
  • النفقة
  • الحضانة

يُظهر هذا الفصل أن النصوص التأسيسية كانت أكثر حيادية ومرونة مقارنة بالاجتهادات المتأخرة، حيث لم تتأثر بعد بتحولات السلطة أو الصراعات الطائفية والاجتماعية.

الفصل الثاني: نص ابن نُجيم في مصر العثمانية (القرن العاشر الهجري)

يتجلى في هذا الفصل تفاعل النص الفقهي مع الواقع الاجتماعي والسياسي في مصر، ويتناول عدّة محاور:

  • دور المرأة السياسي: حيث تُظهر الوثائق مدى مشاركة النساء في الفضاء العام، وموقف الفقيه منها.
  • الثقافة الشعبية كأداة مقاومة: كالأغاني الشعبية والزغرودة، باعتبارها تعبيرًا سياسيًا.
  • الفضاء العام مقابل الحياة الخاصة: رصدت الباحثة كيف يُسمح أو يُقيّد وجود المرأة في الحياة العامة.
  • المرأة والاقتصاد: كُشف عن مساهمة النساء في النشاط الاقتصادي، ما أعاد رسم الحدود التقليدية لدور المرأة.

هذا الفصل يُعد كشفًا مهمًا عن صورة المرأة الفاعلة في مجتمع ظل لفترة طويلة يُنظر إليه على أنه مغلق ومحافظ.

الفصل الثالث: نص ابن عابدين في دمشق (القرن الثالث عشر الهجري)

يمثل هذا الفصل النص الحنفي في ذروته المتأخرة، قبيل دخول الحداثة، ويتناول:

  • الولاية والنفقة والحضانة
  • العرف في فقه ابن عابدين: حيث اهتم الفقيه بإدماج العرف في الأحكام، مما أضفى بُعدًا واقعيًا على فقهه.
  • الواقع الاقتصادي للمرأة في دمشق: من خلال دراسة وثائقية تظهر أنواع الأعمال التي شاركت فيها النساء.
  • البغاء وتشييء المرأة: تسلط الدراسة الضوء على كيفيات التناول الفقهي والاجتماعي لتلك الظواهر.
  • المرأة في ذاكرة الفقيه: يظهر ابن عابدين نظرة مركبة للمرأة، تجمع بين الاعتراف بفاعليتها الاجتماعية والتردد في قبول تمكينها.

نتائج الدراسة

توصلت الباحثة إلى مجموعة من النتائج الجوهرية، من أبرزها:

  •  الاجتهاد الفقهي ليس خطًا مستقيمًا، بل هو خاضع لتقلبات الزمان والمكان والسلطة.
  • المرأة نالت أدوارًا سياسية بارزة في فترات يُعتقد أنها كانت منحدرة تاريخيًا، مثل فترة الغزو المغولي، مما انعكس على الفقه الذي أجاز ولايتها للسلطة.
  • النصوص الفقهية ليست ميتافيزيقية، بل يمكن مساءلتها وتحليلها تاريخيًا.
  • تأثر الفقه بعوامل غير فقهية، مثل الاقتصاد والسياسة والعُرف، مما يتطلب إعادة قراءته من منظور متعدد الأبعاد.

خاتمة

يعتبر هذا الكتاب محاولة أصيلة لكسر جمود النظرة التقليدية للفقه، ويقدّم أداة منهجية قوية لفهم التاريخ الاجتماعي للفقه الحنفي من خلال قضية المرأة. وتُحسب للباحثة جرأتها في الاقتراب من النص الفقهي دون الخروج عن أصوله، مع قدرتها على تحليل السياقات التاريخية والاجتماعية دون الوقوع في التعميم أو الإسقاط الأيديولوجي.

إن هذا العمل لا يسد فقط ثغرة معرفية في دراسات المرأة الإسلامية، بل يُعد أساسًا لبناء قراءات أكثر عدالة ووعيًا لقوانين الأحوال الشخصية المعاصرة.


بيانات الكتاب

  • العنوان: التطور التاريخي للاجتهاد الفقهي في أحكام المرأة في المذهب الحنفي من التأسيس إلى ابن عابدين
  • المؤلفة: مشاعل الشمري
  • دار النشر: مركز نماء للبحوث والدراسات
  • تاريخ النشر: 1443هـ / 2022م
  • عدد الصفحات: 176