يعتقد الكثيرون أن الكاتبة الأمريكية أمينة ودود هي أول امرأة تقدم تفسيرا للقرآن الكريم من منظور نسوي، وذلك في كتابها (المرأة والقرآن) الصادر في خواتيم القرن الماضي، لكن هذا الكتاب الذي ذاع صيته وترجم إلى العربية في حين ورفض الأزهر تداوله لم يكن الأول في مجاله، فقد استبقه كتاب آخر أثار ضجة كبرى في حينه وهو (السفور والحجاب) الذي صدر عام 1928 للكاتبة اللبنانية نظيرة زين الدين، ووضع القواعد المنهجية الأولى للتفسير النسوي.
نظيرة زين الدين وكتابها (السفور والحجاب)
ولدت نظيرة سعيد زين الدين حسن إبراهيم في بعقلين عام (1908م) لأسرة درزية معروفة من جبل لبنان. والدها سعيد زين الدين (1877-1954م) الذي تعين في عدة مناصب قضائية في بيروت وقوزان وأضنة وحلب والآستانة، وقد تلقت تعليمها الأولي بمنزلها على يد معلمة خاصة ثم التحقت بمدرستين للراهبات قبيل أن تنتسب إلى الكلية العلمانية الفرنسية التي نالت منها شهادة البكالوريا عام 1928، ويبدو أثر هذين النوعين من التعليم (المسيحي/العلماني) في خطابها الذي تتزاحم فيه المرجعيات سواء أكانت مرجعيات دينية (إسلامية، مسيحية، أو حتى توراتية) أم مرجعيات علمانية لا دينية، ويتجلى في تجاور الاقتباسات والنصوص الدينية على قدم المساواة مع النصوص العلمانية الصريحة دون شعور من جانبها بتنافي المرجعيات واختلال النص.
من جهة أخرى قد يكون صحيحا أن دراستها في مدرسة دينية مسيحية قد جعل لديها تقبلا أو على الأقل عدم نفور من بعض المسائل التي تثير الحساسية الإسلامية المعتادة مثل الاقتباس عن الكتب السماوية الأخرى وبخاصة التوراة، أو عدم الاستياء من التبشير المسيحي الذي كتبت عنه بضع صفحات في كتابها الثاني (الفتاة والشيوخ) وأبدت خلاله إعجابا وتقديرا لما شيده المبشرون من مؤسسات تعليمية ونهضة علمية في منطقة الشام.
صدر كتاب السفور والحجاب في بيروت عام 1928 وهو أول بحث نظري مكتمل يناقش مسألة الحجاب في بلاد الشام ويتبنى الدعوة إلى نزعه، وقد جاء الكتاب في أربعة أقسام: الأول يناقش المشروع الفكري للمؤلفة ويقدم تعاريف للحرية والشرع والعقل، والثاني يتناول الأدلة العقلية على وجوب السفور، والثالث ويدرس الأدلة الدينية المتعلقة بالحجاب، وهو أهم أقسام الكتاب على الإطلاق إذ درست فيه أقوال المفسرين وقارنت بينها وأتبعتها بعملية إعادة تأويل لها انطلاقا من المرجعية النسوية، والرابع يبحث في وجهات النظر المخالفة للسفور ويفندها.
معالم القراءة النسوية للنص القرآني
وضعت نظيرة زين الدين في كتابها جملة من القواعد التي صارت فيما بعد من القواعد المتبعة لدى النسويات، ومن أهم تلك القواعد:
أولا: الادعاء بتحامل المفسرين على المرأة، وهي احدى الفرضيات الرئيسة لدى نظيرة حيث تتهمهم بأنهم لم يجمعوا أمرهم في مسألة الحجاب على رأي قاطع، وحول هذا المعنى تقول “طالعتُ أقوال المفسرين والفقهاء في ما يتعلق بالموضوع فلم أجد منهم إجماعا في أمر لأتبعه، بل كلما وجدت قولا رأيت أقوالا أخرى تخالفه وتناقضه، كنت أقرأ الآية وتفاسيرها وكنت أرى إحداثا وتغييرا لا تفسيرا” وهي تعزو ذلك التناقض إلى تبذل النساء في الجاهلية وظهورهن مكشوفات الصدور وأن بعض العلماء الراغبون في إظهار التورع الزائد “أخذوا يبتدعون للستر بدعة تلو بدعة أو سنة تلو سنة حتى أمسينا في طوفان من السنن المبتدعة وبلغ الأمر أنهم لم يُبقوا جزءا من المرأة يظهر”.
ثانيا: الدعوة إلى طرح الأدوات والمناهج التراثية واستبدالها بأخرى، يفضي القول بتحامل المفسرين وتحيزهم ضد المرأة إلى نتيجة منطقية ألا وهي ضرورة طرح التفاسير القديمة بمناهجها وأدواتها، كما دعت نظيرة بزعم وجود “فوضى من من الأقاويل والروايات والأباطيل” في هذه التفاسير، وافتقادها إلى المنطق السليم ذلك “أن بعض المفسرين الكرام كانوا يستعجلون في الخط أحيانا فلا يساعدهم الوقت لإحكام الرابطة بين القلم والدماغ فقد يكون ما خطوه غير الذي عقلوه”!! ومن ثم تختم كتابها بالدعوة إلى تأليف لجنة لتفسير القرآن الكريم بحيث تضم علماء الاجتماع والأخلاق والمختصين بالعلوم والفنون ويشتغل كل منهم ضمن دائرة اختصاصه، حتى يتوافر لدينا تفسير عصري يواكب العلم والتطور.
ثالثا: التعامل المباشر مع النص القرآني: افترضت نظيرة أنه بمقدور أي إنسان أن يتعامل مع النص القرآني مباشرة ودون وسيط من أقوال المفسرين أو المناهج التفسيرية المعتمدة، وهذا الإقصاء الكلي فإن الإقصاء الكلي لقراءات ومناهج علماء السلف أفقد الكاتبة الأدوات اللازمة لفهم النص على وجهه الصحيح فضلا عن القدرة على تفسيره، وقد أغفلت نظيرة عامدة في مقدمة كتابها الإشارة إلى الأسس المنهجية التي ستتبعها في التفسير، والتي اختزلتها حين التطبيق في موافقة ظاهر العقل كما تتجسد في المنجزات والكشوف العلمية، فراحت تقرأ روايات المفسرين لقصة ذي القرنين على ضوء الكشوف الجغرافية الحديثة، وتوصلت من ذلك إلى مناقضة التفاسير لروح العلم واعتبرت ذلك مدعاة لتجاوزها، دون أن تميز بين رؤى المفسرين لمسائل غير ذات صفة عقدية وتفسيراتهم لمسائل إيمانية وتشريعية لا مجال للخطأ فيها.
القراءة النسوية وإشكاليات التطبيق
وبصرف النظر عن القواعد المنهجية التي أرستها نظيرة زين الدين يمكننا أن نبحث الآن في كيفية تناول نظيرة لأقوال المفسرين بخصوص الحجاب، حيث وقع اختيارها على أربعة تفاسير لتقارن فيما بينهما، ثلاثة منها تنتمي للسنة وواحد ينتمي للشيعة، وهي على النحو التالي:
-تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي.
-تفسير القرآن الجليل المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن.
-تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي.
-تفسير مجمع البيان للإمام الطبرسي، وهو تفسير شيعي.
وفي مقاربتها لهذه التفاسير لجأت نظيرة إلى النقل “حرفيا” دون أي تعليق في المرحلة الأولى وفي مرحلة تالية قامت بالتعليق عليها وبسط رؤاها التفسيرية، ولكن ما يسترعى الانتباه أنه بمراجعة نقول نظيرة عن هذه التفاسير ومقارنتها بالتفاسير المذكورة وجد أنها قد شابتها بعض الأخطاء المتعمدة من قبيل بتر فقرة عن سياقها العام بحيث تدل على معنى غير صحيح لم يرده المفسر، أو حذف بعض المعاني التي لا تريدها، أما أخطرها على الإطلاق فهو إضافة فقرات غير موجودة في النص الأصلي على نحو ما فعلت مع تفسير البيضاوي لكلمة قرن حين نسبت إليه قوله أنها من قار يقر أي مشى على أطراف أصابعه ليلا، أو النسفي الذي نسبت إليه قوله بجواز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها، وقد قامت نظيرة بتوظيف هذه الاختلاقات بالقول بوجود تناقض في أقوال المفسرين، ولم تكتف بذلك وإنما راحت ترجح القول الذي اختلقته على أقوال المفسرين الأخرى.
وليس هذا الإشكال الوحيد الذي وقعت فيه فقد أشار الشيخ مصطفى الغلاييني– في كتابه الذي خصصه للرد عليها- إلى عدم تمكنها من أدوات اللغة بحيث تستطيع التعامل مع النص الشرعي، وذكر جملة من مغالطاتها في ذلك ، كما انتقد عدم قدرتها على التمييز بين الأحاديث النبوية الصحيحة والأحاديث المغلوطة التي غص بها كتابها.
أما أهم الإشكاليات برأينا فهي في التعامل مع النص الديني باعتباره متحيزا للرجل وبالتالي ضرورة التمركز حول المرأة أو النوع لإنتاج نص غير متحيز، دون إدراك لطبيعة النص المطلقة والمتعالية عن ثنائية الذكورة والأنوثة.