هل يمكن أن يُقدم الإسلام كحقيقة بدون تبعات، وبخاصة لو أن المخاطب خال الذهن عن الإسلام، ومن عوام الناس؟
هذا الدين هو الوحيد الذي التي أخذ اسمه من كتابه المقدس؛ القرآن الكريم؛ يقول تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) ويقول أيضا (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) ومن ذلك (ورضيت لكم الإسلام دينا) ويطلق على أتباع الإسلام “مسلم” يقول تعالى (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) تسعى هذه الدراسة إلى محاولة بيان التوحيد الإسلامي أو التوحيد في ال إسلام بدون مسميات الفرق، فهل يمكن أن يتضح التوحيد بمثل هذا الطرح، وهل لذلك أثر على وحدة الخطاب الإسلامي؟
موقف الناس من خلق الكون
يسبق الحديث عن التوحيد الكلام عن وجود الله. وذلك أن الناس في ذلك على فئتين:
أ- فئة لا تؤمن بوجود خالق لهذا الكون، ويؤمنون بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها بنفسها عبر عدة احتكاكات وصراعات، تولد عن كل مرحلة طور من أطوار النمو، ويطلق لفظ الإلحاد على من يؤمن بمثل هذا.
وقد عبر القرآن على لسان أهل الجاهلية عن هذه الفلسفة بما يتوافق مع عصرهم: (وقالوا إن هي إلا حيتانا الدنيا؛ نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر). وكان موقف القرآن من هذا هو التسفيه، وذلك لفقدان هذه المقولة إلى دليل ومنطق ولروح التاريخ، ولم يعكف القرآن كثيرا على مجادلتهم لذلك، إنما اكتفي بإشارات دالة (إن هم إلا يخرصون) إذ لا دليل على هذا، فهم يتبعون أهواءهم (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) لأن كل ما ليس بمنطق فهو هوى وشح مطاع.
ب– أما الفئة الثانية فهي التي يخبرنا عنه التاريخ بأن الجمع الغفير من الناس عرفوا المعابد ودور العبادات، إيمانا منهم بوجود إله خالق الكون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا الكون وما فيه من نظام واتساق من عبث أو صدفة.
فالأسر يدل على الأسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات فجاج وأرض ذات أبراج؛ أفلا يدلان على الحكيم الخبير. وكان هذا منطلق الأدلة القرآنية، (إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر، وما أنزل الله من السماء من مار فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
التوحيد يعني الإيمان بأنه لا إله إلا الله. أي لا خالق إلا الله، ولا كامل إلا الله فهو القادر المالك والذي بيده كل شيء
وقال عز من قائل: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر إلا من تولي وكفر..)
قبل الحضارة المادية المعاصرة عموما، ونظرية داروين التطورية كان الإلحاد حالة شاذة في التاريخ، وظاهرة لا يقاس عليها. فأكثر الناس متدينون فطرة.
ومن هنا فإن جمهور الناس يؤمنون بوجود قوة عظمى. وعليه، فلا فرق بين الأديان عموما والإسلام في إثبات وجود الله، لكن الفرق كامن فيما يأتي.
الرؤية التوحيدية في أديان العالم
تؤمن أديان العالم الكبرى كلها (world major religion) بدون استثناء بوجود خالق لهذا الكون؛ اللهم إلا البوذية – إن اعتبرت دينا، وهي كذلك عالميا، وفي أكثر تصنيفات الدين- التي لم تشأ الحديث عن ذلك، إذ صبت الاهتمامَ على جانب الخلاص من متاعب الحياة الدنيا. ولعل إيمان أديان العالم بوجود إله ليس غريبا بقدر أن أكثر هذه الأديان تؤمن بالتوحيد كذلك؛ أي وجود إله خير وقوة عظمى.
فيما يخص الأديان الوضعية فإن:
1- الهندوسية أو البرهمية : يؤمنون بأن الحياة سراب وأن الحقيقة الوحيدة هي ذات “برهما” ، وأن “برهما” هو الحقيقة المطلقة وهو الإله الأزلي. فهم يرون أن الخلاص الحقيقي يتم بالاتحاد به. وهذا جزء من مبدأ الجزاء عندهم الناتج عن إيمانهم بالتناسخ، حيث لا يؤمنون بالآخرة، فلا جنة ولا نار، وإنما الخلاص من ميلاد وموت وميلاد وموت.. سلسلة الحياة الدنيا بذاتها عناء وشقاء؛ ويتم الخلاص بالاتحاد مع “برهما” لينجو الإنسان من شقاء الحياة بالنجاة من سلسلة الحياة والموت اللامتناهية. لكن رغم ذلك تُرجع الهندوسية مفهوم التوحيد إلى الثالوث؛ (براهما، وفيشنو، وشيفا)، وإلى الإيمان بآلهة أخرى كثيرة وغير متناهية. وهذا أمر ينقض التوحيد كما يرى الإسلام.
2- ولم تشأ ثاني أديان الهند –البوذية– الحديث عن إله، وأجاب بوذا السائلَ عن الله بأن يهتم بصلاح دنياه أولا ويدع الغيب فيما بعد.
3- وبما أن السيخية دين جاء إلى الوجود نتيجة افرازات ديني الهندوسية والإسلام في الهند؛ فإن السيخية تؤمن بوجود إله واحد، وهو الحقيقة الأزلية، (one-omkarsitea, or nirakarsitea) وسماه مؤسس الدين بـ (satna’m) بمعنى الاسم الحقيقي، أو الوجود الفعلي. ولم يرغب بترجمة الاسم أو إطلاق أي لفظ آخر؛ خشية الشرك أو سوء فهم المقصود. إلا أن عدم إيمان السيخية باليوم الآخر والجنة والنار، جعلها يربط مبدأ الجزاء بـ “الكرما” والتناسخ وسلسلة الحياة، إلى أن يتحد مع هذا الإله؛ متأثرا بالهندوسية، فعكر صفو النظرة التوحيدية.
وأما ما يطلق عليه مسمى الأديان السماوية فإن موقفهم من التوحيد كالتالي:
1- في الزراديشتية (Zoroastrianism) يعتقدون أن “أهورامازدا” (Ahura Mazda) بمعنى الإله الحكيم هو الإله الأعظم؛ رغم إيمانهم بأن الحياة صراع بين قوتي الخير والشر؛ إلا أن العاقبة للخير، مما أبقى مفهوم التوحيد مشوها.
2- في اليهودية يؤمنون بإله واحد خالق الكون، والمعبود الحق، وأول أربع وصايا من الوصايا العشر تؤكد أهمية التوحيد، الأول عن وجود الله وحده، والثاني عن عدم اتخاذ إله آخر مع الله، والثالث عن عدم اتخاذ صورة أو تمثيل لله أو عن الله، والرابع عدم التلاعب باسم الله أو تشبيهه بأي شي آخر.
إلا أن “مبدأ العهد والميثاق” (covenant) الذي يؤمن به اليهودية بأنهم شعب الله المختار، وأنهم جميعا ناجون لمجرد هذا الميثاق الذي تم بين الله وبين أبيهم إبراهيم عليه السلام، والمبني على ميثاق عرقي وعنصري لا ميثاق عمل وطاعة جعل التوحيد في الإسلام يغاير هذا المفهوم للتوحيد في اليهودية، ناهيك على قصص كثيرة في التوراة، لا تستقيم مع قوة الله وكماله وتوحيده.
3- ويؤمن النصارى بالتوحيد بناء على الوصايا العشر أيضا، حيث أن التوراة جزء من الإنجيل، والوصايا العشر في التوراة. إلا أن من أجل دعوى اليهود فإن النصرانية جعلت العمل وقبول المسيح أساس الخلاص والنجاح وليس مجرد العنصر أو العرق. ولتأكيد ذلك فإن الله أرسل ولده الوحيد لبيان هذا الأمر. يلاحظ أن طابع التثليث؛ (الله الأب والله الابن، والله الروح القدس، والكل واحد) جعل التوحيد في الإسلام ذو صبغة خاصة ومميزة.
رؤية الإسلام للتوحيد
جاء الإسلام ليقول للناس “وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم” وليقول “قل الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد”. ولعل هذا كل ما يجب معرفته واعتقاده عن التوحيد في الإسلام، إلا أن شرح هذا قد يطول، ويأخذ أشكالا عدة. ومن ذلك التالي:
أ- مفهوم التوحيد في الإسلام هو الاعتقاد بأن الله واحد في علاقة الإنسان وجميع المخلوقات بربه. فالله هو الخالق الوحيد للكون والحياة والإنسان، والله هو المالك والحاكم الحقيقي لهذه الأمور لذلك، والله هو الوحيد الذي يجب أن يعبد؛ لأن العبادة لا توجه إلا إلى من يستحق العبادة وهو الله سبحانه وتعالى.
ب- التوحيد يعني الإيمان بأنه لا إله إلا الله. أي لا خالق إلا الله، ولا كامل إلا الله؛ فهو القادر المالك والذي بيده كل شيء. والتوحيد يعني توجيه الطاعة إلى الله سبحانه وحده. والتوحيد يعني طلب الاستعانة والدعاء من الله وحده.
ت– والتوحيد يعني إثبات كل صفة كمال لله سبحانه وتعالى، ونفي كل صفة نقص عنه عز وجل. في الآيتين السابقتين (“وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم” وليقول “قل الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد“.) تم إثبات وصف الله بالرحمن الرحيم، وأنه الصمد؛ لم يلد ولم يولد وليس كمثله شيء. وغير ذلك مما ثبت في القرآن والسنة.
من التوحيد تقوم حقيقة التدين، إذ يربط القرآن الكريم دوما بين الدين والتدين؛ ربط مخافة الله بالتوحيد، وربط الصلاة والزكاة والصوم والحج والأخلاق والتشريع بالتوحيد.
ج- ويأتي على عكس التوحيد الشرك؛ وهو الاعتقاد بكل ما يضاد التوحيد. ومن الشرك اعتقاد وجود خالقين للكون والحياة والإنسان، ومنه اعتقاد أن غير الله الخالق يستحق العبادة، ومن الشرك اعتقاد أن شيئا من الطاعة يوجه إلى غير الله، ومنه اعتقاد وجود شبيه أو كفؤ لله، ومنه اعتقاد أن الله يتصف بضعف، أو بشيء مما هو من صفات النقص، وهكذا.
مستلزمات التوحيد
يترتب على حقيقة التوحيد الموجزة في سورة الإخلاص، والمذكورة في غيرها من آيات الذكر الحكيم أن الإيمان بالتوحيد يوجب عدة مستلزمات، من ذلك الآتي:
1- ضرورة وجود حقيقتين: الخالق والمخلوق. فالله هو الخالق، وما عداه مخلوق، التوحيد لله، بينما التعددية لغيره؛ فكل ما خطر ببالك والله بخلاف ذلك. الكمال لله، بينما الضعف لغيره، يثبت لله كل صفة كمال، وينزه عن كل صفة نقص، بينما الإنسان متصف بالنقص دائما.
2- ويتفرع من هذا، أن كل ما يحتاجه الضعيف للعيش، أو بسبب ضعفه، أو ليتقوى به؛ لا ينطبق على الله. فيخاطب الإنسان بالبعد المكاني والزماني، ويحتاج الأكل والشرب وقضاء الحاجة والشهوة، ويحتاج التقوية بغيره والتعاون على أعباء الحياء، ويخاطب بالأبوة والبنوة، وغير ذلك من كل ما هو من حاجات المخلوق لضعفه ينزه المولى عن ذلك.
3- ومن أهم مستلزمات التوحيد مساواة جميع البشر أمام الخالق، فلا يحق لإنسان دعوى خصوصية معينة مع الله دون غيره من البشر؛ إذ لا محاباة عنده، ولا فضل لإنسان على آخر بسبب مكان الميلاد أو اللون أو العرق أو النسب، لأن الله خالق الجميع، وتفسر التعددية كظاهرة من سنن الكون لحكمة الابتلاء. وإنما التفضيل بالطاعة. فالأكثر طاعة لله، وحبا له، وخضوعا وإذعانا له فالأكثر قربا إلى الله وفضلا على غيره، فالخيرية ليست عرقية أو نَسبية، بقدر ما هو مقاس بتلبية الغاية من الخلق وتحقيق مراد الله، فخيركم خيركم لأهله، وأحب العباد إلى الله وأقربهم منه أنفعهم لخلقه.
4- ومن هنا تسقط دعوى “العهدة والميثاق الإبراهيمي” وقضية شعب الله المختار، والذي اعتبر مأخذا على التوحيد في اليهودية. ولا أرى داعيا لبيان بطلان تفسير “خير أمة” تفسير اليهود “الميثاق الإبراهيمي”، فلا ينال عهد الله الظالمين إن كان يهوديا أو من أمة محمد. ولا حاجة أيضا إلى إثارة بعض النعرات الجاهلية غير المستقيمة المبثوثة في بعض كتب الفقه، مثل الإمامة واشتراط القرشية، وقضية الكفاءة في الزواج بمعيار عرقي وعصبية جاهلية.
أهمية التوحيد في الإسلام
لعله قد اتضح من البيان السابق أهمية التوحيد في الإسلام، ويمكن الإشارة هنا إلى أهمية التوحيد كالتالي:
1- التوحيد هو الفرق الأساسي بين الإسلام وباقي الأديان. فأغلب أديان العالم الحية تؤمن بوجود إله؛ وتنطلق من الإيمان بقوة عظمى؛ إلا أنها تنتهي في النهاية بالشرك. ولعل السبب هو طول الزمن، وما اعترى الدين من تصحيف أو تحريف، أو سوء تفسير من رجال الدين.
2- التوحيد مفتاح الدخول في الإسلام، يعقبه الإقرار بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فلا إله إلا الله أولى خطوات استحقاق جواز الإسلام.
3- وعد الله عبادة بإمكانية غفران الذنوب جميعا إلا ذنب الشرك، والذي يعتبر أكبر ظلم. أجل، فمن الظلم أن تجعل لله ندا وقد خلقك وحده، ومن الظلم أن تعبد غيره وقد خلقك. يقول تعالى: “إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” وقال أيضا على لسان لقمان: “يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم”.
من أهم مستلزمات التوحيد مساواة جميع البشر أمام الخالق، فلا يحق لإنسان دعوى خصوصية معينة مع الله دون غيره من البشر
4- يقرر القرآن دوما أن التوحيد دعوة جميع الرسل من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم النبيين محمد بن عبد الله. يقول تعالى: “وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.” وقال عز وجل على لسان الرسل: “يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.”
5- ومن التوحيد تقوم حقيقة التدين، إذ يربط القرآن الكريم دوما بين الدين والتدين؛ ربط مخافة الله بالتوحيد، وربط الصلاة والزكاة والصوم والحج والأخلاق والتشريع بالتوحيد.
6- يجد المتتبع أن الكتب التي تتناول موضوع الإيمان في الإسلام أعطيت مصطلحات مثل العقيدة، أو العقائد، أو علم الكلام أو الفقه الأكبر، أو أصول الدين..إلخ، ومن أهم مصطلحات دراسة الإيمان في الإسلام مصطلح التوحيد، وقد عنون بذلك عدة كتب مهمة. وأطلق على جميع أبواب العقيدة المختلفة من أجل أهمية التوحيد في الإسلام.
أقسام التوحيد
يجدر بالذكر أيضا أن التوحيد هو ما تقرره سورة الإخلاص، وغيرها من آيات الذكر الحكيم. إلا أن محاولة بيان المقصود من سورة الإخلاص مثلا، بربطها بغيرها من آي الذكر الحكيم وبغيرها من الأحاديث النبوية الشريفة وتأكيد كل ذلك بأقوال العلماء، دون نسيان ما يجري في المجتمع يجعل من التوحيد بابا كبيرا، ومن هذا الباب الكلام عن أقسام التوحيد.
ومن هنا يقف المتتبع إلى أن الكثير من الكتب تقسم العقيدة إلى: ربوبية: الإقرار بوجود خالق وحيد للكون، وألوهية: أي اتخاذ هذا الخالق إلها معبودا وحده دون غيره، ويطلق عليه أحيانا توحيد عبادة، والأسماء والصفات: أي تسمية الله ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص، أو وصف الله كما وصف نفسه به، ووصفه به نبيه ﷺ.
أخيرا يجب أن تكون غاية عمل الباحث هو شرح التوحيد دون التطرق إلى مسميات الفرق، ولا بذكر اسم معين من أعلام الإسلام، ولا مصدر معين من مصادر العقيدة، خشية التصنيف، علما أن هذا نموذج من نماذج تقديم الإسلام إلى عامة المسلمين، ولعل تناول فروع هذه الجزئيات من بعد يولد أكثر من رأي، وهذا ببساطة سبب ميلاد الفرق الإسلامية، والجدير أن يقدم الإسلام بناء على المتفق عليه لا المختلف في فروعه.