الحداثوي العربي إنسان مصاب بهزيمتين، هزيمةٍ حضارية وهزيمةٍ نفسية، وقد تشكلت شخصيته منهما، فأنتجت هزيمته أمام الحضارة الغربية حالةً حادةً من العبودية الفكرية والعاطفية، وأنتجت هزيمته أمام نفسه حالةً سائلةً من فلسفة الانحراف الأخلاقي الذي لم يستطع مقاومته ذاتيا، وسأحاول تشريح هاتين الهزيمتين في علاقتهما بفكر الحداثوي ومواقفه.
يمثل التوجه الحداثي لدى الشباب العربي أحد وجهي ردة الفعل الحادة على الواقع المتردي للأمة، فقد نتجت عنه السلفية المتطرفة والحداثوية المتسيبة، الفرق بين السلفي المتطرف والحداثوي المتسيب هو أن أحدهما قام بردة الفعل من موقع الثقة في الحضارة الإسلامية التي ينتمي إليها، فحمل السلاح لاستعادة مجدها، والآخر قام بردة الفعل من موقع الانبتات الحضاري والوله المرضي بحضارة الغرب، فسعى لهدم أسسها وتقويض بنائها، فالحداثوي في النهاية سلفي بلا قيم حاكمة.
يحتقر الحداثوي العربي المسلمين ويكره الإسلام، لا لأنه وجد في عقيدته ما ينكره العقل أو وجد في شريعته ما يأباه الواقع، ولكن لأن الإسلام -حسب نظره- منتج غير غربي، فهو دين لا يستحق أي احترام ما دام ليس دينا للأسياد، والعبد هواه تبع لهوى سيده.
والدليل على أن موقفه ليس من الدين هو أنه مع كرهه للإسلام واحتقاره للمسلمين يحب المسيحية ويحترم المسيحيين، وحتى اليهودية واليهود، ويتفهم أن يكون قدوته في العلم والثقافة متدينا مسيحيا، ولا يعبأ بالعبث العقلي الذي يطوي عليه المسيحي جوانحه من خلال عقيدة التثليث، فهو يحبها ويحترمها لأن معتنقيها غربيون زُرْقُ العيون وشُقْرُ البَشْرَةِ ولديهم سيولة نقدية وحياة إباحية، وهو مصاب بهوى الغرب وبعقدة الضعف أمامه.
الغريب في هذا الموقف هو التناقض الذي يمارسه الحداثوي من خلاله، فهو لا يستنكر أن يكون المثقف أو العالِم الغربي متدينا بالمسيحية أو اليهودية أو الهندوسية، وذلك لأن الانتساب للغرب -بالنسبة له- كفارةٌ لما وراءه من الخرافات والأساطير، ولكنه لا يتفهم أن يكون العالم أو المثقف العربي ملتزما بالدين الإسلامي، فالأول بالنسبة له عالم له جوانب روحية ولثاني مثقف ظلامي. رغم أن تاريخ الديانتين (الإسلام والمسيحية) مع العلم وموقفهما منه مختلف، فالإسلام شجع العقل والفكر والعلم، والمسيحية ما تزال إلى اليوم محبوسة بقوة القانون خلف جدران الكنيسة لأنها قائمة على رفض العلم والعقل والفكر.
هذه عقدة تصيب بعض ضعاف النفوس في فترات تراجع الأمم التي ينتمون إليها، وليست خاصة بالمسلمين وحدهم، فقد كانت موجودة لدى الغرب تجاه المسلمين في القرون الأولى، ومن أولئك الراهب الإنجليزي روجر بيكون الذي كان يرى أن تفوق العرب مسألة قدرية لازمة، وأن الله لم يؤت الحكمة للاتين وإنما آتاها للعرب واليهود والإغريق، فقد ترجم عنه أحمد حسن الزيات في مقالة له قوله: “إن الله يؤتي الحكمة من يشاء، ولم يشأ أن يؤتيها اللاتين، وإنما آتاها اليهود والإغريق والعرب”.
ليست -إذن- معركة الحداثوي في دوافعها الحقيقية مع الدين باعتباره جوابا على الأسئلة البدهية في الوجود (ما؟ ومن؟ ومم؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟) لأنه -غالبا- لا يمتلك الأدوات المعرفية لذلك، لكنها -في العمق- مع التدين، وهي مسألة -في نظري- ذات بعد أخلاقي نفسي بحت، وليست لها أي مرجعية فلسفية فكرية، وما يدبجه الحداثويون من التنظير حولها هو إثارة غبار للتعمية، وليس وراءه من الفكر الرصين حبة خردل.
وإذا حاولنا تحليل هذه الهزيمة في نفس الحداثوي العربي فسنجدها تقوم على خلقين هما: الجبن وضعف الإرادة، فالحداثوي العربي شخص لم يستطع دفع ضريبة الالتزام الأخلاقي، التي يطالبه بها الدين، فانهزم أمام شهواته، ولم يستطع فهم الأسباب المركبة للواقع المتردي في المجتمعات العربية فأحال كل المشكلة على الدين الذي انهزم أمامه في معركة الإصلاح الذاتي.
هناك قضية أخرى تحتاج تفسيرا، وهي حالة السعار المجنون تجاه المقدسات والمسلمات في الدين الإسلامي، وهي المظهر الأبرز لسلوك هؤلاء، ولعل في علم نفس الإجرام ما يساعد على تحليلها، فأول ما يفكر فيه المجرم هو إخفاء دليل الإدانة، فمن الطبيعي أن يسعى الحداثوي المنهزم أمام نفسه وأمام حضارة للطعن في العقيدة والشريعة التي تقف دليل إدانة أبدي على خطل رأيه وسعيه.
ومن ناحية أخرى يمكن أن يفسر بأنه إجابة مشوشة وغير واعية على أسئلة الفطرة الخفية في أغوار النفس، والفطرة لا تهدأ عن الضجيج إذا لم تجد الإجابة الكافية المتمثلة في هدايات الوحي، ويأخذ ضجيج الفطرة في أغوار النفوس مظاهر عديدة، فالبعض يلجأ إلى إغراق نفسه بالشهوات والمتع لينسى وخزها في ضميره، والبعض يلجأ إلى الفلسفة ليبني مسوغات يوهم نفسه أنها إجابات على أسئلته القلقة.