كثيرا ما يتساءل بعض النخب والمثقفين: هل كل شيء في الدين يجب أن يخضع  للحل والحرمة؟ هل خنق الدين الإنسان بحيث لا يستطيع أن يتحرك إلا بعدما يسأل عن الفعل الذي يريد فعله، هل هو حلال أم حرام؟

أليس من الأجدر أن يكون الإنسان حرا في تصرفاته وسلوكه وأفعاله، فلا يسأل عن كل شيء إلا إذا اشتبه عليه شيء أو حصل منه شيء، حتى يشعر بحريته؟ وأن هذه النظرة تجعل الناس يحبون الدين أكثر، بدلا من أن يكرهون التدين؟

والحق أن هذا الاعتراض فحواه في محله، ولكن من قال إن الدين يخنق الإنسان بالتكاليف؟!

إن الله سبحانه وتعالى في تشريعه جعل مساحة الحرية أوسع بكثير من مساحة الأوامر والنواهي، وهذا يعني أن الإنسان حين النظر في سلوكه وتصرفاته سيجد أن الحرية التي أعطاها الله له أكثر بكثير جدا من الأوامر والنواهي.

وإن عبقرية الفقه الإسلامي تتجلى فيما يعرف بـ( الحكم التكليفي)، الذي يجعل مليارات من أفعال البشر التي يصعب حصرها يمكن تصنيفها تحت خمس خانات،  فقط، هي: الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة، فمليارات الأفعال والأقوال كلها ترجع إلى خمسة أحكام.

وإن استطعنا أن نحصي الأحكام الشرعية، وأن نضع لها نسبا مئوية، لوجدنا أن نسبة الحرام هي النسبة الأقل، فالممنوع والمحظور في الشريعة قليل، ثم يأتي بعده الواجب، فالأوامر في الشريعة تمثل نسبة مئوية قليلة، ثم يأتي المكروه في المرتبة الثالثة، ثم المستحب في المرتبة الرابعة، ويمثل كل من الحرمة والوجوب والكراهة والاستحباب مجتمعة نسبة أصغر بكثير جدا من المباح الجائز، بحيث قد يمثل المباح قرابة ثمانين بالمائة (80%) أو يزيد.

وقد قرر الفقهاء والعلماء أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد النص بالتحريم، وهذا يعني أن المجتهد إن جاءت قضية معاصرة، فلا يبادر بالحكم تحريما، بل يبقيها على الإباحة الأصلية، لأن الأصل عدم التكليف، إلا إذا ظهر له دليل يدل على التحريم أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة، فالمسائل النازلة قد تأخذ حكما من الأحكام الخمسة حسب الاجتهاد، إلا إن الأصل فيها على الإباحة والجواز.

وقد قسم الفقهاء الفقه إلى عدة أقسام رئيسة، هي: العبادات، والمعاملات، والآداب والعادات.

وأكثر الفروض يتعلق بقسم العبادات، لأنه ينظم علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى، وحظ العبد في الدنيا ليس فيها ظاهرا، وإن كانت العبادات ليست خلوا عن مصالح العباد، وإن كان مقصودها الأعظم هو التعبد.

أما المعاملات فهي مبنية على مصالح العباد، ولم تفصل الشريعة فيها تفصيلا دقيقا كما فصلت في المعاملات، فالغالب فيها قواعد عامة يجب مراعاتها، لأن صور المعاملات تختلف من زمن لآخر، ولكن هذا لا يعني أن مطلق المعاملات قواعد، بل فيها فروع منصوص عليها لا يجب تجاوزها ولا الاجتهاد فيها، كالبيوع المحرمة والفاسدة، وكالأشربة المحرمة وكالحدود والجنايات، على أن كثيرا من صور المعاملات القديمة أو حتى المعاملات الحادثة يجب الاجتهاد فيها من جديد، ولا يشترط في كل مسألة جديدة أن يكون لها أصل قديم، وإنما الاجتهاد فيها يكون من نصوص الكتاب والسنة والاجتهاد العام.

أما قسم الآداب، فهو من المشروع المباح الذي يقل فيه الوجوب والحرمة، بل غالبه يدور بين الاستحباب والإباحة، والمقصود بهذا القسم بيان الصبغة الإسلامية على أحوال الناس وعوائدهم، حتى لا تكون عادات محضة، أو هي الأمور التي تمثل محاسن العادات والأخلاق، كآداب المعيشة، وآداب الحكم والقضاء، وآداب الحياة العامة وآداب المعاملة مع المسلم وغير المسلم ونحو ذلك.

أما القسم الرابع، فهو مما يتعلق بالعادات، كالسفر والتداوي والزينة والألبسة والأشربة ونحوه، وهو مبني على عادات الناس وأعرافهم، مع وجود الإرشادات التي لا تحول العادات إلى أسباب لمضرة الإنسان والمجتمع.

وحتى تعرف حقيقة ( الحرية الفقهية) وأن الفقه لم يضيق على الإنسان، بل على العكس، وسع عليه كثيرا جدا، فعلى كل إنسان أن ينظر في أفعاله وسلوكياته في يوم واحد، وليحاول أن يسجل أفعاله وتصرفاته كلها، ولينظر كم نسبة الواجب الذي أوجبه الله عليه في هذا اليوم، وكم نسبة الحرام فيه، وكم نسبة المباح فيه، فإنه سيصل إلى نتيجة مفادها أن المباح هو الأصل في سلوك الإنسان وتصرفه.

وإذا أيقن المسلم أن الغالب في تصرفاته وأفعاله على الإباحة، أحب الله والإسلام، وعلم ما قرره الله تعالى في كتابه على عباده: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وليوقن ما وضعه الله تعالى في كتابه من القاعدة الذهبية في الأحكام، وذلك في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، أو ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم من قوله كما في البخاري ومسلم: ” إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة.

وهذا المعنى ( من الحرية الفقهية) فقهه علماء الأمة، وعبروا عنه، ومن ذلك قول الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان (1/ 158): «جمع الله عزّ وجلّ في هذه الشّريعة بين كونها حنيفيّة وكونها سمحة. فهي حنيفيّة في التّوحيد. سمحة في العمل”.

بل إن الحرية والتيسير من شعائر هذه الأمة التي تميزت بها عمن كان قبلها من الأمم، كما قال ابن كثير– رحمه الله-  في تفسيره (2/ 254): “إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاء بالتّيسير والسّماحة. وقد كانت الأمم الّتي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم فوسّع الله على هذه الأمّة أمورها وسهّلها لهم”.

بل من عظمة التشريع أنه كلف المسلم أقل مما يمكن له فعله، كما قال الزّمخشريّ- رحمه الله تعالى-:«إنّ الله عزّ وجلّ لا يكلّف النّفس إلّا ما يتّسع فيه طوقها ويتيسّر عليها دون مدى غاية الطّاقة والمجهود فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلّي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشّهر ويحجّ أكثر من حجّة”.

والخلاصة أن نظرية التشريع قائمة على ( الحرية الفقهية)، وأن الحرية هي أوسع مساحة من غيرها، بل لا تكاد تحصى الحرية الممنوحة من الله تعالى لعباده من كثرتها وفرطها، وإن الوجوب والحرمة لهما أقل المساحات في التشريع.