يحلو لكثير ممن انتهى من المرحلة الجامعية أن يلتحق بالدراسات العليا، والمشارب فيها مختلفة، فهناك من يرى أنها ( وجاهة اجتماعية)، وأن الالتحاق بالدراسات العليا يعطيه مكانة اجتماعية كبيرة بين الناس، بل ربما يلقب نفسه بـ (الدكتور)، وهو ما زال في السنة التمهيدية التي تسبق الماجستير، وبعد أن يعلن لمجتمعه ( الواقعي والافتراضي) يبدأ الناس ينادونه بالدكتور، ويحلو للأخ الباحث أو الأخت الباحثة ذلك (اللقب الحلو)، وهو ما زال في أول خطوة للدراسات العليا، وهل سيكمل أم لا، فالعلم عند الله تعالى.
أتذكر حين كنت طالبا في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، كنت حريصا على حضور المناقشات العلمية للماجستير والدكتوراه الخاصة بقسم الشريعة، لأني كنت أنوي الالتحاق بالقسم بعد التخرج.
وفي يوم مناقشة الأستاذ الدكتور صلاح الدين سلطان، أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، والأمين السابق للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وقبل المناقشة بنصف ساعة تقريبا، كانت الكلية تقيم حفل إنجاز لاتحاد الطلاب، وتكلم بعض الأساتذة عن صلاح الدين سلطان، وكان آنذاك مدرسا مساعدا بقسم الشريعة الإسلامية ، وظلوا يشيدون بجهوده في الجامعة والكلية، وكان المتحدث هو الدكتور شفيع السيد أستاذ الأدب والنقد، فكان يقول (الدكتور صلاح سلطان)، فرد عليه أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي – رحمه الله- عميد الكلية والمشرف على رسالة الدكتور صلاح قائلا: لا تقل دكتورا، نحن لم نناقشه بعد، فرد الدكتور شفيع قائلا: ما هي إلا سويعات ويحصل على اللقب، فرد الدكتور بلتاجي: نحن سنناقشه، وما دمنا لم نناقشه ولم تعلن النتيجة فلا يستحق اللقب حتى انتهاء المناقشة وإعلان النتيجة. فقال الدكتور شفيع مداعبا الدكتور بلتاجي: يا سيادة عميد الكلية، أنتم الفقهاء تتكلمون بالجزم والحزم، ولكن نحن أهل البلاغة نتكلم بلغة أخرى، هناك ما يعرف عندنا في البلاغة بما يسمى ( على اعتبار ما سيكون)، فضحك الجميع..
تعجبت كيف بالأستاذ المشرف الذي من المفترض أن يدافع عن طالبه هو من يعترض أن يلقب طالبه بالدكتور قبل المناقشة بنصف ساعة، إنه درس في احترام الأعراف الأكاديمية التي لا تحابي أحدا، حتى ولو كنا معجبين به.
ومن الباحثين – وهم ليسوا بقلة – من يحرص على الدراسات العليا لأنه سبيل إلى تحسين المعيشة، فهو يطمح في تغيير وظيفته خاصة من لم يعين في الهيئة التدريسية بالجامعة، فينتقل من العمل معلما أو باحثا إلى أن يكون مدرسا بالجامعة..
ومن الباحثين من يلجأ إلى الدراسات العليا لتؤهله للارتقاء الوظيفي وتحسين وظيفته التي هو فيها، فيرتقي إلى رئيس قسم أو مدير وما شابه هذا..
وندرة من الباحثين من يسلك سبيل الدراسات العليا ليتعلم وينهل من كتب العلم على الطريقة الأكاديمية، لأنه يرى قصورا في الطريقة التقليدية مع ما فيها من مزايا..
ومنهم من يحاول الجمع بين الحسنيين، فيطلب العلم حبا فيه، وطلبا لثوابه، باعتباره مقصدا أصيلا، وإن جاءت منفعة دنيوية من ورائه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء..
على أن النية من الدراسات العليا لها تأثير كبير على مستقبل الباحث فيها، فشتان بين من يطلب العلم لأجل العلم، وبين من يطلبه للوجاهة الاجتماعية، ليضيف حرف الدال قبل اسمه، حتى قال قائلهم مشيرا إلى أهمية الدكتوراه لكسب العيش: (بعد الدال ينصلح الحال).
أين هذا من قول النبي ﷺ عند أبي داود والترمذي: ” وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر”؟
فهل الذي يسلك سبيل الدراسات العليا طلبا للدنيا أو الوجاهة الاجتماعية أو الترقي الوظيفي، هل ترى أن الملائكة تقترب منه في هذا المقام فضلا من أن تضع أجنحتها رضا بما يصنع؟ وهل ما يصنع هو من الرضا عند الله وعند ملائكته والصالحين من عباده؟؟ وهل يستغفر له أحد في الكون؟ وهل هو بغشه وسرقته وريث رسول الله والأنبياء في طريقهم ودعوتهم؟
وفي برنامج علمي فوجئت بتهنئة شخص حصل على الدكتوراه، وكان على رأس البرنامج العلمي، فظننت أنه تحصل على الدكتوراه في الإدارة أو في أي تخصص، ولم يدر في خلدي أنه في الشريعة، فحين سألته بعد التهنئة عن تخصصه، فقال: في الدراسات الإسلامية، فقلت ما شاء الله، لقد أصبحنا زملاء، وما عنوان رسالتك؟ فقال: رجاء يا دكتور، لا تذكرني بالتعب الذي أصابني، فعرفت أنه ممن كتبت له رسالة الدكتوراه، إنه لا يعرف عنوان رسالته، فقلت له بنية غير صافية: أنا أسألك عن العنوان فقط، ما هو؟ فقال: بعد التعب لا أريد أن أتذكر أي شيء؟ فأكملت سؤالي غير البريء: وما التعب الذي حصل لك؟ قال: لقد سافرت من العاصمة إلى المدينة التي فيها الجامعة، وركبت السيارة مدة ثلاث ساعات أو يزيد….
أي خداع وغش يحصل في بلادنا، لأجل الحصول على شهادات مزورة، حتى يقال للرجل: يا دكتور، أو للمرأة: يا دكتورة؟؟ إنه لقب مذموم، إن كان هذا سبيل الدكتوراه، فبئست الدكتوراه هذه… بل لا أراني مغاليا إن قلت: إن أمثال هؤلاء الذين يشترون رسائلهم بجهد الآخرين منافقون، بل بئس الطالب والمطلوب، ما قدروا العلم حق قدره، فلبئس ما كانوا يعملون..
إن الدراسات العليا في بلاد غيرنا خطوة نحو التقدم، يختار الطالب طريقه حتى يخدمه دينه وأمته ووطنه، يسدون ثغرات حقيقية في جميع المجالات والمعارف، وينبني عليها اتخاذ قرارات تجاه الدول الأخرى ، أو يعالجون بها إشكالات ومشاكل داخلية، أما في ديار الإسلام الذي جاء يرفع راية العلم منذ كلماته الأولى بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ .الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ .عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1 – 5]، فإن الدراسات العليا متعددة المشارب والمآرب، منها الصالح ومنها الطالح، وكثر طالحها على صالحها..
إن قيمة الإنسان بما يحسن لا بما يملك من أوراق لا تساوي الحبر الذي كتب به، إنني لا أتكلم عن جودة التعليم ولا عن سوء المستوى الأكاديمي، ولا عن رسائل (القص واللصق)، بل أتكلم عن الغش والغشاشين الذين يصدق فيهم قول الله تعالى: { وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]..
إن قيمة المرء في الحياة ليست بما معه من شهادات جامعية أو فوق الجامعية من الماجستير والدكتوراه أو ما بعدها، إنه بما يحسن من صنعة يتقي الله فيها، وينفع بها نفسه وأسرته ووطنه وأمته والإنسانية جمعاء، كم من عظماء لم يكونوا دكاترة، وكم من مخترعين لم يدخلوا جامعات من الأساس..
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وليم شكسير، الأديب الإنجليزي، والأخوات رايت، مخترعا الطائرة، وتوماس أديسون الذي سجل (1003) اختراعا، منها المصباح الكهربائي، وجريجور مندل، مؤسس علم الوراثة، وميخائيل كلاشينكوف، صاحب ابتكار السلاح الفردي، ومايكل ديل، مؤسس شركة ديل من أفضل 500 شركة على مستوى العالم، و ونستون تشرشل، أحد أبرز شخصيات الحرب العالمية الثانية وحاصل على جائزة نوبل في الآداب، وجيمس واط، الذي ينسب إليه (الواط الكهربائي)، وماركوني مخترع المذياع، والكاتب المصري محمود العقاد الذي رفض الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة، والشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي، وليو تولستوي أبو الأدب الروسي، وغيرهم كثير.
إننا في عالمنا العربي مولعون بالدراسات الجامعية، خاصة النظرية، ثم مولعون بالدراسات العليا، لأننا مولعون بالمظاهر دون الجواهر، إننا في الحياة علينا أن نسلك ما نجيده من الأعمال مهما كان، كل في مكانه، وفي وظيفته التي يجيدها، سواء كانت داخل أسوار الجامعة والمؤسسات التعليمية أم خارجها في المصانع والشوارع أو غيرها، فكل يخدم بعضه بعضا، تلك قسمة الله بين خلقه، كما قال سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32]..
ولا أدري أمن رحمة الله أم من خطأ كسبنا أن كثيرا من المتعلمين حتى الذين يتحصلون على الدراسات العليا لا يجدون ما يكفي حاجاتهم في بلاد كثيرة، في الوقت الذي نجد فيه كثيرا ممن لم يكملوا التعليم الجامعي في رغد من العيش، وقد صدق قائلهم:
لو كانت الأرزاق تجري على الحجا = = لهلكن إذن من جهلهن البهائم
إننا لم ننجح كثيرا في تحويل معارفنا إلى مشاريع نافعة لمجتمعاتنا ولأنفسنا، يكفينا الله تعالى بها حاجاتنا وحاجات من نعول..
لكن العجيب في المجتمعات المسلمة القديمة أنه لم يكن هناك ربط بين العلم والوظيفة، فغالب العلماء لهم وظائف مستقلة عن طلب العلم، فالتكسب له طريق في الدنيا لطلب الحلال، والعلم مقصود به وجه الله والدار الآخرة، ولما انتقل العلم سبيلا للتكسب أصابنا ما أصابنا من الخور والضعف وقلة الإنتاج المحلي، وانتشار ثقافة الاستهلاك، والإسراف في استعمال الموارد، فكنا عالة على غيرنا، ولولا ما وهب الله تعالى المنطقة العربية من الثروة الباطنية كالبترول والغاز والمعادن وغيرها، لكانت منطقتنا من أفقر بلاد العالم، بل هي كذلك في بعض الدول العربية مع ما فيها من ثروات وخيرات، والقارة السمراء ( أفريقيا) أكبر دليل على ذلك..
إن العلم سبيل إلى النهضة والرقي، قبل أن يكون سبيلا للتفاخر والتكابر، كما أنه سبيل إلى مرضاة الله، كما ورد في الحديث:” ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله به طريقا إلى الجنة”.
لكنه من المؤكد ليس بتلك النوايا التي ظهرت من التباهي والتفاخر، وقد حذر النبي ﷺ من تحول بوصلة العلم من ابتغاء وجه الله ونفع الناس إلى تفاهات النفس البشرية، فبدلا من أن يكون العلم طريقا إلى جنة الله، ربما كان طريق إلى عذاب الله ، كما ورد في صحيح ابن ماجه وغيره بسنده عن النبي ﷺ: ” من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار.
إن من الحكمة أن يكون أصحاب الدراسات العليا واعين لدورهم في مجتمعاتهم، وأن تولي الحكومات التعليم العالي اهتماما أكبر، وأن تخصص له ميزانية أكبر، وأن يربطوا بين التعليم وخدمة المجتمع، وأن لا يقحم من لا يحسن البحث العلم نفسه في هذا المجال، وله أن يحقق نجاحاته فيما يحسن، وأن يكون لكل منا أثر حسن في مجتمعه، كل في مجاله..