على مدار ثلاثة أيام استقبلت الدوحة كوكبة بارزة من الشخصيات القطرية والدولية والعلماء والباحثين والمفكرين، الذين شاركوا في مؤتمر دولي حول “أسئلة النهضة في الذكرى السبعين لكتاب ’شروط النهضة‘ لمالك بن نبي” كان عبارة عن حوار أكاديمي حول مشروع النهضة للمفكر مالك بن نبي، الذي طرح للنقاش في سياق القوانين العالمية (السنن)، التي أدرجها في منهجيته، ودراسته للظواهر الفكرية والثقافية والاجتماعية والحضارية، وهي أفكار لا تزال حاليا مصدر اهتمام واحتفاء في كافة أرجاء العالم العربي والإسلامي.
فعاليات مؤتمر شروط النهضة الذي استضافته كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة بالدوحة، وحضرت جانبا منه الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، جرى في صورة احتفاء بمناسبة الذكرى السبعين لصدور كتاب “شروط النهضة” (1949) للمفكر الجزائري مالك بن نبي ،بمشاركة عدّة وجوه من عالم الفكر والسياسة على غرار زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، ورئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء الماليزي السابق داتو سري أنور إبراهيم، إلى جانب رئيس المؤتمر الدكتور عماد الدين شاهين.
وسعى المؤتمر إلى تقييم شامل ومعمق ومتكامل لكتاب شروط النهضة ،إضافة إلى الحوار العلمي حول مشروع النهضة الحضارية الذي طرحه في إطار الرؤية السننية التي حرص مالك بن نبي على الالتزام بها، وتكريسها في منهجية دراسته”.
وضمن المحاور الرئيسة التي تناولها المشاركون في المؤتمر ،طرح هذا الملتقى العلمي عدّة أسئلة مثل : “كيف بنى مالك بن نبي مشروعه لشروط النهضة الحضارية؟ وما هي مصداقية التشخيص والنتائج والمنهج الذي قدّمه لوضع الأمّة وأزمتها الحضارية؟ وكيف شخّص تجربة الحضارة الإنسانية المعاصرة؟ وما هي النتائج التي توصَّل إليها؟ وهل الحضارة المعاصرة في وضع طبيعي أم أنها في حالة أزمة؟”.
ماذا بقي من مشروع بن نبي؟
والمعروف عن المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905 – 1973)، أنه اهتم في معظم مؤلّفاته، بدراسة أسباب انحطاط الحضارة الإسلامية وكيفية الخروج من الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية، في إطار نقده لما أسماه “القابلية للاستعمار”، وخضوع مخيلة الشعوب المستعمَرة وفكرها للغة ومصطلحات ومفاهيم الاستعمار.
وقد رأى منظموا المؤتمر العودة إلى مشروع مالك بن نبي في النهضة الحضارية والتركيز على أبرز طروحاته وكيفية مقاربتها اليوم، ومن ثم معرفة هل استطاع صاحب “إنتاج المستشرقين” (1968) أن يؤسس لنظرية كلية في فلسفة التاريخ والحضارة وشروط النهضة الحضارية وما معالمها؟ وماذا بقي صالحا من مشروعه؟ وإلى أي مدى اطلعت نخب المجتمعات الإسلامية الفكرية والسياسية والاجتماعية عليه؟ وهل يمكن وضع كشّاف أو معجم معرفي مركز للمصطلحات التي طرحها، وكشف للموضوعات المحورية في فكره يمكن تحويلها إلى دراسات معمّقة على مستوى البحث الجامعي أو البحث المعرفي العام؟
وتركزت عملية الدراسة والبحث والتقييم خلال المؤتمر حول العديد من الأسئلة: كيف بنى مالك بن نبي مشروعه لشروط النهضة الحضارية؟ أي كيف شخص وضع الأمة وحلل أزمتها الحضارية؟ وما هي النتائج التي انتهى إليها؟ وما هي الأدوات المنهجية والمعرفية التي استعملها في ذلك التشخيص وفي الوصول إلى تلك النتائج؟ ما هي مصداقية التشخيص الذي قدمه لوضع الأمة وأزمتها الحضارية؟ وما هي مصداقية النتائج التي انتهى إليها ذلك التشخيص؟ وما هي المصداقية العلمية للمنهج الذي استعمله في ذلك كله؟ هل الحضارة المعاصرة في فكر بن نبي في وضع طبيعي أم أنها في حالة أزمة؟ ما هي مصداقية التشخيص الذي قدمه مالك بن نبي في مشروع شروط النهضة، للأزمة الحضارية الإنسانية؟
هل استطاع مالك بن نبي أن يؤسس لنظرية كلية في فلسفة التاريخ والحضارة وشروط النهضة الحضارية؟ ما هي معالم هذه النظرية الكلية؟ وما هي المصداقية المعرفية لهذه النظرية الكلية؟
ماذا بقي صالحا من مشروع شروط النهضة؟ على مستوى الأفكار والمصطلحات والمنهجية والمشاريع؟ إلى أي مدى اطلعت نخب المجتمعات الإسلامية الفكرية والسياسية والاجتماعية على المشروع الفكري الذي طرحه كتاب شروط النهضة؟ وما هي الجدالات التي أحدثها؟ وإلى أي مدى استفادت منه؟ وما هي العوائق الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية، التي حالت وما تزال تحول دون تعميم الوعي بهذا المشروع والاستفادة منه؟
ماذا ينبغي فعله لتعميم الوعي بهذا المشروع الفكري، على مستوى الجامعات والمؤسسات التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية عامة؟ وهل يمكن وضع كشف أو قائمة للموضوعات المحورية في فكر مالك بن نبي، التي يمكن تحويلها إلى دراسات معمقة على مستوى البحث الجامعي أو البحث المعرفي العام؟
أسئلة وعشر محاور
وقد كان لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي مشاركة في الجلسة الافتتاحية للؤتمر الى جانب الدكتور أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق ، والدكتور أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء الماليزي الأسبق.
وقد دار الحوار حول أسئلة كيف تنهض المجتمعات والأمم وتحقق ريادتها وإشعاعها الحضاري؟ و كيف تفقد المجتمعات والأمم نهضتها الحضارية وتدخل في ليل الغثائية والتبعية الحضارية المهينة؟ و لماذا فقدت المجتمعات الإسلامية نهضتها الحضارية؟ وما تبعات ذلك؟ وكيف تستعيد هذه المجتمعات نهضتها الحضارية من جديد؟
وناقش المشاركون عشرة محاور، هي: سؤال الإيمان، وسؤال المنهج، وسؤال المصطلح، وسؤال الذاكرة/ التاريخ، وسؤال الثقافة، وسؤال الحرية، وسؤال الوحدة، وسؤال التنمية، وسؤال المستقبل، وسؤال العلاقة بالحضارة الغربية.
ومن بين الأوراق المشاركة: “أطروحة شروط النهضة على خط السننية الشاملة” لـ الطيب برغوث، و”أمراض الثقافة الإسلامية في سؤال نهضة عند مالك بن نبي” لـ محمد عبد الحليم بيشي، و”نظرية الثقافة عند مالك بن نبي: قراءة في جدلية العلاقة بين نظام الأفكار وشروط النهضة” لـ أبو بكر إبراهيم.
إلى جانب ورقة بعنوان “شروط نهضة المرأة في الحضارة الإسلامية في ضوء كتاب بن نبي” لـ صالحة عبد الله، و”مشروع النهضة في فكر بن نبي وتمثلاته لدى النخبة الجامعية الجزائرية” لـ طاهر سعود، و”جوانب اقتصادية في فكر بن نبي” لـ محمد علي الفنيش، و”هل توجد شروط النهضة في السياسة الدولية اليوم؟” لـ عبد الله الأحسن.
رحمة بن نبي: والدي سابق لعصره
وفي حديث لها على هامش المؤتمر، قالت رحمة بن نبي، ابنة المفكر الراحل مالك بن نبي، إن مشروع والدها لم يفهم في وقته لأنه كان سابقا لعصره، فكان على سبيل المثال من أوائل الذين تحدثوا عن العولمة والحضارة الإنسانية في وقت مبكر، كما أن الواقع السياسي للاحتلال الفرنسي -الذي كتب بن نبي أفكاره في ظله- كان قد زرع في عقول الكثير من الجزائريين الشعور بالدونية، فسعى بن نبي إلى إقناعهم بأن “القابلية للاستعمار” ليست سوى مرض قابل للعلاج.
وأبدت الدكتورة رحمة -التي قدمت ورقة عن شروط النهضة في ما بعد الحداثة– تفاؤلها بأن يفهم فكر والدها من قبل الجيل المعاصر، ولا سيما أن أفكاره قد تجاوزته ولم تعد مرتبطة بشخصه، بل أصبحت أفكارا مستقلة تلقى رواجا في معظم أرجاء العالم الإسلامي.
وعلّق الدكتور أحمد مجاهد عمر حسنه، رئيس جامعة حمد بن خليفة، على المؤتمر بقوله: “هذا المؤتمر هو فرصة ملائمة لجامعة حمد بن خليفة وكلية الدراسات الإسلامية للاحتفاء بالذكرى السبعين لنشر هذا الكتاب، الذي بشّر بولادة مشروع فكري كبير. وقد قيّم الحاضرون السبل التي يمكننا من خلالها تطبيق مشروع بن نبي، في ظل ظروفنا الحالية، لتحقيق التقدم الحضاري المنشود”.
وأضاف الدكتور حسنه: “تحرص جامعة حمد بن خليفة على توفير منبر لفهم الدراسات المعاصرة من خلال منظور تاريخي. ومن جهتها، تستثمر كلية الدراسات الإسلامية بالجامعة في عملية التجدد والتطور الإسلامي، وجهود الإصلاح في المنطقة وخارجها”.
من جهته، قال رئيس اللجنة المنظمة الدكتور بدران بن لحسن إن هدف المؤتمر هو إحياء الأسئلة التي شغلت المصلحين والمجددين من رواد الفكر الإسلامي في القرن الماضي، وهي أسئلة التخلف والنهوض. واعتبر بن لحسن أن أطروحة بن نبي تتميز بتشخيصه الواقعي لمختلف المقاربات التي طرحت لدى الأمم بشأن النهضة، فضلا عن اقتراحه مشروعا يتجاوز حدود الدول القومية والصراعات المذهبية ولا يكتفي باتخاذ ردود الفعل على المشاريع الغربية.
وأضاف أن الرؤية الحضارية لدى بن نبي تنظر للحضارة برؤية كلية ولا تهمل التفاصيل الجزئية، وأنه اهتم بالولاء للإسلام بطريقة نقدية فكان يرى أن التاريخ الإسلامي على الرغم من كل ما فيه من الفضائل تكمن فيه أيضا العديد من الأسباب التي تكرس تخلفنا.
استكشاف ونواة مشروع
واقترح الدكتور عماد الدين شاهين رئيس المؤتمر “تبني مشروع النهضة، وأن تكون مدن الدوحة واسطنبول وكوالالمبور وتونس نواة له، والدوحة نقطة الانطلاق، وعقد مؤتمر للنهضة كل عام أو عامين، من أجل تطوير برامج تطبيقية للنهضة يتم من خلالها إدماج الشباب وهيئات المجتمع المدني والأهلي”.
وأضاف: “تسعى رؤية كلية الدراسات الإسلامية إلى إيجاد صلة بين الأفكار الإسلامية والواقع، وتطوير حلول تطبيقية للتحديات التي تواجهها المجتمعات المسلمة اليوم. ومن هنا، فنحن في غاية السعادة لاستقطاب كبار العلماء لمشاركة معرفتهم بآراء بن نبي في مجال الفكر الإسلامي، والبناء عليها من أجل تطوير هيكلية معاصرة تسمح بنهضة جديدة.
وعلى الرغم من أن المشروع الفكري والحضاري الفريد من نوعه قد برز في منتصف القرن العشرين على يد عملاق الفكر الإسلامي مالك بن نبي، إلا أن الكثير من الذين حضروا مؤتمر الدوحة، خاصة الشباب منهم، استكشفوا فكر بن نبي وأعماله من خلال الأوراق البحثية التي قدمها علماء كبار حول مسائل الإيمان، والمنهج، والمصطلح، والذاكرة، والتاريخ، والثقافة، والحرية، والوحدة، والتنمية، والمستقبل، والعلاقة مع الحضارة الغربية.
ويطمح المنظمون أن يكون هذا المؤتمر بداية لفتح فضاء واسع للعلماء والمفكرين الباحثين لمدارسة هذا المشروع الفكري لمالك بن نبي والقيام بعمل تقييمي استشرافي، يقيم مشروع النهضة وأطروحته، ويستشرف آفاق تطويرها والانتقال بها إلى مستوى مستقبلي ينقل أمتنا من التناول الجزئي العشوائي لمشكلات نهضتها إلى التناول السنني العلمي القائم على إعمال سنن الله في الآفاق والأنفس والتاريخ لإحداث نقلة في واقع مجتمعاتنا الاسلامية نحو تحقيق السيادة والاستقلال والريادة الحضارية واستعادة دورها الحيوي في المجتمع الدولي.
يذكر أن جامعة حمد بن خليفة جامعة متعددة التخصصات، ترتكز على أسس الابتكار، والتميز، والإنسان، والشراكة، وتدفعها الشراكات الاستراتيجية، وبرامج الدراسات العليا، مما يوفر لطلابها تجربة تعليمية شاملة.
وقد تأسست هذه الجامعة، وهي عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، عام 2010 كجامعة بحثية، لتساهم في تطوير دولة قطر والمنطقة بأسرها، فضلا عن تدعيم مركزها وتأثيرها العالمي.
ومن خلال موقعها في المدينة التعليمية، تلتزم جامعة حمد بن خليفة ببناء القدرات البشرية وتعزيزها، عبر التجارب الأكاديمية الثرية والمناهج المبتكرة والشراكات الفريدة. وتقدم مجموعة من البرامج الأكاديمية متعددة التخصصات في المرحلة الجامعية وفي الدراسات العليا من خلال كلياتها، كما توفر فرصا فريدة في مجالي البحوث والمعرفة من خلال معاهدها ومراكزها البحثية.
وتعمل كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة كمركز للدراسات الإسلامية المعاصرة، حيث تستضيف بانتظام مفكرين محليين وإقليميين ودوليين للمساهمة في الوصول إلى فهم أعمق لمختلف الجوانب الإسلامية.