إن الإنسان في حياته لا يسير على وتيرة واحدة، بل يطرأ عليه في مراحل حياته تغيرات، هذه التغيرات قد لا يشعر بها، ولكنها موجودة بالفعل.
وهذه التغيرات قد تكون للأحسن أو للأسوأ، فتغير من ملامح حياته ومن تكويناته النفسية.
وقد أوقفنا المصطفى -صلوات ربي وتسليماته عليه- على هذه القضية المهمة فقال: “إن لكل عابدٍ شِرَّة، ولكل شِرَّة فَتْرة“([1]).
و”الشرّة -بالكسر وتشديد الراء: الحِدّة، والمراد بها في هذا الحديث: أن العابد يبالغ في العبادة في أول أمره، فكل مبالغ يَفتُر وتَسكُن حِدّته ومبالغته في أمره بعد حين”([2]).
فالبعض في شرخ صباه يستقيم حاله؛ فيترفع عن شهواته وملذاته، ويزاحم الشيوخ في عباداتهم، وتراه سريع التأثر بالموعظة، فيرق فؤاده، ويقشعر جلده، ويسيل دمعه.
فذاق لذة القرب، ونعم بعذوبة المناجاة، قال سهل بن عبد الله: “من نظر إلى الله قريبًا منه بعد عن قلبه كل شيء سوى الله، ومن طلب مرضاته أرضاه الله، ومن أسلم قلبه تولى الله جوارحه”([3]).
ثم بعد الاجتهاد والنشاط والحدة يأتي الفتور والكسل والخمول، فتنقلب رقة القلب إلى القساوة، ويجمد ماء العين بعد جريانه، وتغلب الغفلة على اليقظة.
قال أحمد بن أبي الحواري: “ما ابتلى الله عبدًا بشيء أشد من الغفلة والقسوة”([4]).
والإشكال ليس في الغفلة والفتور العارضين، بل إذا دامت الغفلة، وانقلب الحال وتبدل؛ فصارت العبادة شكلاً بلا روح، والقرآن مجرد صوت يترنم به، ومقارفة الشهوة أمر يستهان به، وأتى الذنب على الذنب بلا نزوع.
فهنا مكمن الخطر، وعين الداء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ: “إن المؤمن إذا أذنب كانت نكته سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله -عزّ وجلّ- في القرآن: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]“([5]).
ومن حسن فطانة العقل ورجاحته أن يكون دائم المراجعة لنفسه؛ ليقف على مداخلها ومخارجها، ويعرف دهاليزها ودروبها، وبذلك يكون قد أمسك بناصيتها فلا تفوت عليه شاردة ولا واردة.
يقول -تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] قال الطبري: “إن الذين اتقوا الله من خلقه، فخافوا عقابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ﴾ يقول: إذا ألمّ بهم طيف من الشيطان من غضب، أو غيره مما يصد عن واجب حق الله عليهم تذكروا عقاب الله وثوابه ووعده ووعيده، وأبصروا الحق فعملوا به، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم وتركوا فيه طاعة الشيطان.
وأما قوله: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ فإنه يعني: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان.
عن ابن عباس: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ يقول: إذا هم منتهون عن المعصية، آخذون بأمر الله، عاصون للشيطان”([6]).
والأيام التي تمر على النفس وهي في حالة جيدة يجب أن تراجع وتدرس بعناية، حتى إذا أصابها الملل أو شعرت بشيء من الانتكاس عادت فقومت اعوجاجها، وهذا هو جمال الذكرى واستيحاء الماضي، فهو سراج منير في غياهب ودياجير الظلام.
والماضي له عطر وشذى خاص، بل له حلاوة لا يعرفها إلا من حرمها، ومن الخطأ الكبير ألا يكون الإنسان ذا حساسية مرهفة لماضيه الجميل، يعود إليه وقت الأزمات ولحظة التقلبات.
وهذه ليست دعوة للانغلاق على النفس، والعيش في ظلال ماضٍ اندثر وباد، ولكنها دعوة للتجدد والنهضة من الكبوات. فهو يأخذ من ماضيه الجميل قبسًا يستضيء به لمستقبله.
فمرحبًا بإنسان ذي عواطف جياشة متدفقة في عصر مادي نسي فيه نفسه، واهتم أو انشغل بالحياة المادية التي لم تزده إلا قسوة وغلظة.
والإنسان دائمًا ما يبحث عن القدوة، ويتلمس الأشخاص الذين يقتدي بهم، ويسير على خطاهم، ويقتفي أثرهم، وله في نفسه القدوة، يوم أن كانت مجتهدة في العبادة، قابضة على الدين، مستمسكة بالمنهج القويم.
فيجعل نفسه يوم نشاطها هي المعيار الذي يحاول الوصول إليه مرة أخرى.
والإنسان تتقلب عليه الأنفس الثلاث: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء.
فخير الناس من غلبت نفسه المطمئنة على سائر أحواله، وشرهم من غلبت نفسه الأمارة بالسوء على سائر أحواله.
ولم نقصد بالرجوع إلى النفس أي نفس، بل هي النفس المطمئنة، التي اطمأنت إلى جوار ربها والقرب منه، وأنست بعبادته ومناجاته.
فإن مر بك يوم كانت هذه النفس ساكنة بين أضلعك، فالزم هذه النفس، وإياك والتفريط فيها، فإن عزّ عليك إمساكها، فلا تفرح بفراقها، واعمل على وصلها والرجوع بها.
وهذا هو سر المحاسبة للنفس حتى لا يترك الحبل على الغارب فتتوه فتندم ولات ساعة مندم، ولنتذكر قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله -عزّ وجل“([7]).
([1]) جزء من حديث أخرجه أحمد في “المسند”، ح(6477)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”.
([2]) المفاتيح في حل المصابيح بتحقيقي، (3/435).
([3]) حلية الأولياء، (10/202).
([4]) الرسالة القشيرية، (1/68).
([5]) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(7939)، )، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده قوي”.
([6]) تفسير الطبري، (13/333-337) باختصار.
([7]) أخرجه الحاكم في مستدركه، (4/280) من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه، وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، ووافقه الذهبي.