من أصول منهج السلف السُّكوت عما سكتَ الله تعالى عنه ورسوله ﷺ .
فكل مسألة من مسائل الشريعة – ولاسيما مسائل الاعتقاد – لا يُحكم فيها ، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل ، فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه ، وما ورد بنفيه نفيناه ، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليلٌ ؛ توقَّفنا ، ولم نحكم فيه بشيء ؛ لا إثباتاً ولا نفياً ، ولا يعني هذا أنّ المسألة خلية عن الدليل ، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه ، فالواجب علينا التوقف : إما مطلقاً ، أو لحين وجدان الدليل .
وقد وردت نصوصٌ كثيرة من الكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة والتابعين ، وأئمة السلف وأهل السنة ، بالأمر بالكفّ عما لم يرد في الشرع ، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله ، وأمسك عنه السلف ، وترك الخوض فيما لا علم للإنسان به من دليل أو أثر . ( انظر الموسوعة العقدية ) .
فمن الكتاب العزيز :
1- قال الله تعالى : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء : 36.
قوله ( وَلاَ تَقْفُ ) القَفْوُ : مصدر قولك : قفا يَقْفُو ، وهو أنْ يتّبع شيئاً ، وقَفَوْتُه أَقْفُوه قَفْواً ، وتَقَفَّيْتُه ، أي : اتبعته .
قوله ( كل أولئك ) أي : هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد .
( كان عنه مسئولا ) أي : سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، ويسأل عما عمل فيها .
روى الطبري : عن قتادة قال : لا تقل رأيتُ ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم ، فإنّ الله سائلك عن ذلك كله .
وقال الأخفش في قوله : ( ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ ) أي : لا تتَّبع ما لا تَعلم .
ومعنى الآية : لا تكن تابعاً لما ليس لك به علم ، من الآراء أو الأفكار ، أو المذاهب ، أو الاشخاص ، أو الرُّؤى ، لا تكن تابعاً لشيء منها دون بصيرة وتعقل .
فينهى الله تعالى عن اتباع ما لا علم للإنسان به ، وهى لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقاداً وعملاً ، فلا تعتقد ما لا علم لك به ، ولا تقلْ ما لا علم لك به ، ولا تفعلْ ما لا علم لك به .
قال الشيخ السعدي : ” ولا تتبع ما ليس لك به علم ، بل تثبَّت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك ، إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ، فحقيقٌ بالعبد الذي يَعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله ، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته ؛ أنْ يُعدَّ للسؤال جواباً ، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله ، وإخلاص الدِّين له ، وكفّها عما يكرهه الله تعالى ” انتهى .
2- وقال تعالى ( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )
البقرة : 168- 169 .
قال ابن كثير : ” وقوله: ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) أي : إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة ، وأغلظ منها الفاحشة ، كالزنا ونحوه ، وأغلظُ من ذلك ؛ وهو القول على اللّه بلا علم ، فيدخل في هذا كل كافر ، وكل مبتدع أيضاً”.
وقال الطبري : ” وأَمَّا قَوله : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ ) فهو ما كَانوا يُحَرِّمُونَ مِنْ الْبَحَائِر وَالسَّوَائِب والْوَصَائِل والْحَوَامِي , ويَزعمُون أَنَّ اللَّه حَرَّمَ ذَلك , فَقَال تعالى ذِكْره لهم : ( مَا جَعَلَ اللَّه مِنْ بَحِيرَة وَلَا سَائِبَة وَلَا وَصِيلَة وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وأَكْثَرهمْ لَا يَعْقِلُونَ ) المائدة : 103.
وأَخْبرهُمْ تعالى ذِكْره في هذه الْآيَة : أَنَّ قَيْلهمْ إنَّ اللَّه حَرَّمَ هذا !! مِنْ الْكذب الَّذي يَأْمُرهُمْ بِه الشَّيْطَان , وأَنَّهُ قَدْ أَحَلَّهُ لَهُمْ وطَيَّبَهُ , ولمْ يُحَرِّم أَكْله علَيهم , ولَكِنَّهم يقُولُون على اللَّه ما لا يَعْلَمُونَ حَقِيقَته طَاعَة مِنْهُمْ لِلشَّيْطَانِ , واتِّبَاعًا مِنْهُمْ خُطُوَاته , واقْتِفَاء مِنْهُمْ آثَار أَسْلَافهمْ الضُّلَّالِ وَآبَائِهِمْ الْجُهَّال , الَّذِينَ كَانُوا بِاَللَّهِ وبما أُنْزِلَ علَى رسوله جُهَّالًا , وَعَنْ الْحَقّ وَمِنْهَاجه ضُلَّالًا ; وَإِسْرَافًا مِنْهُمْ , كَمَا أَنْزَلَ اللَّه فِي كِتَابه عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقال تعالَى ذِكْره : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِع مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) “.
3- وقال جل وعلا: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف: 33 .
فجعل القول على الله تعالى بغير علم ، فوق هذه المحرمات كلها .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ” فرتب المحرمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش .
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه ، وهو الإثم والظلم .
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها ، وهو الشرك به سبحانه .
ثم ربَّع ما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه .
ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل: 116-117.
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرامٌ ، ولما لم يحله : هذا حلال ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما عَلِم أنَّ الله سبحانه وتعالى أحلّه وحرّمه ” انتهى . ” إعلام الموقعين ” (1/38( .
4- وقالت الملائكة – وهم الملائكة – عند ربها : ( قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) البقرة :32 .
وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته ، بالأوبة إليه ، وتسليم علم ما لم يعلموه له ، وتبرِّيهم من أنْ يعلموا أو يعلم أحدٌ شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره . ( الطبري ) .
فقوله تعالى : ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) سبحانك : أي : تنزيهاً لك عن أن يعلم الغيب أحدٌ سواك ، وهذا جوابهم عن قوله : ( أنبئوني بأسماء هؤلاء ) فأجابوا : أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ، ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا .
و “ما” في ( إلا ما علمتنا ) بمعنى ” الذي ” أي : إلا الذي علمتنا ، ويجوز أنْ تكون مصدرية ، بمعنى : إلا تعليمك إيانا .
وقوله ( إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) أي : العليم بكل شيء ، الحكيم في خلقك وأمرك ، وفي تعليمك من تشاء ، ومنعك من تشاء ، لك الحكمة في ذلك ، والعدل التام .
وفيه : أنَّ الواجب على من سئل عن علم لا يعلمه ؛ أن يقول : الله أعلم ، أو لا أعلم أو أدري ؟ اقتداء بالملائكة الكرام ، وبالأنبياء ، والفضلاء من العلماء .
5- قوله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) النحل : 116.
أي : ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم ، بقولكم هذا حلال وهذا حرام ، واللام في ( لتفتروا على الله الكذب ) هي لام العاقبة ، ، أي : فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم ، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه .
وأما ما ورد من الأخبار عن النبي ﷺ ، وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية :
1- فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : ” ذَروني ما تركتكم ؛ فإنما هَلَك مَن كان قبلكم ؛ بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ” . متفق عليه .
قال النووي رحمه الله : هذا الحديث من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها النبي ﷺ، ويدخل فيما لا يحصى من الأحكام .
أما سبب الحديث : فقد روى مسلم في صحيحه : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله ﷺ فقال: “أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا “، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا ، فقال رسول الله ﷺ : ” لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم “، ثم قال : ” ذَرُوني ما تركتكم ؛ فإنما هلَك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ،واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيءٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ” .
فقوله “ما نهيتكم ” أي : منعتكم ، والنهي : هو طلب الكف عن فعل الشيء .
” وما أمرتكم ” أي : ما طلبت منكم أن تفعلوه ، والأمر: هو طلب فعل الشيء . ” فأتوا ” أي : افعلوا منه ما استطعتم ، وما قدرتم عليه دون مشقة وعسر . وفيه : سهولة هذا الدين ؛ حيث لم يوجب على الإنسان إلا ما يستطيعه .
” إنما هلك ” وفي رواية ” أهلك ” أي : أوجب العقوبة لهم في الدنيا والآخرة .
كثرة مسائلهم: أي أسئلتهم الكثيرة .
وقوله ” واختلافهم على أنبيائهم ” أي : عصيانهم لهم ، ومخالفتهم أمرهم .
فبين النبي أن من أسباب هلاك الأمم السابقة : كثرةُ أسالتهم التي بغير حاجة ولا ضرورة .
واختلافُهم على أنبيائهم ؛ أي : اختلافًا يُؤدّي إلى كفر أو بدعة ؛ إذْ الاختلاف يؤدي إلى التفرّق ، ومقصود الشارع عكسه .
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما : جاء رجل إلى النبي ﷺ ، فقال : يا رسول الله ، أي البقاع خير ؟ قال: لا أدري ، فقال: أي البقاع شر ؟ قال : لا أدري ، فأتاه جبريل عليه السلام ، فقال له : يا جبريل أي البقاع خير ؟ قال : لا أدري ، قال: أي البقاع شر ؟ قال: لا أدري ، قال: سلْ ربك ، قال : فانتفض جبريل عليه السلام انتفاضة ؛ كاد يصعق منها محمد ﷺ ، فقال: ما أسأله عن شيء ، فقال الله جل وعلا لجبريل : سألك محمد ؛ أي البقاع خير ؟ فقلت : لا أدري ، وسألك : أي البقاع شر ؟ فقلت : لا أدري ، فأخبره أنّ خير البقاع المساجد ، وأن شر البقاع الأسواق ” . رواه الطبراني وابن حبان والبيهقي ، وصححه الألباني .
ففي هذا الحديث : توقف النبي ﷺ عن الجواب بغير علم ، وكذلك توقف معلِّمه جبريل عليه السلام عن الجواب بغير علم ، حتى سأل الله تعالى عن ذلك .
وفي هذا تأديب للمؤمنين بذلك ، ألا يقولوا شيئاً بغير علم .
3- وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه : عن رسول الله ﷺ قال : ” إنّ الله تعالى فَرضَ فرائض فلا تضيّعوها ، وحدَّ حُدوداً فلا تعْتدوها ، وحرّم أشياءَ فلا تنتهكوها ، وسَكتَ عن أشياءَ – رَحمةً لكم غير نسيانٍ – فلا تَبْحثوا عنها ” .
رواه الدارقطني (4/183) والطبراني ( 22/589) والحاكم ، والبيهقي (10/12-13) وهو حديث حسن ، حسّنه النووي كما في الأذكار (505) ، والحافظ أبو بكر بن السمعاني في ” أماليه ” ، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/221) وابن كثير في تفسيره (1/405) ، وقال الألباني في تحقيق الإيمان لابن تيمية (43) : حسن بشاهده .
4- ونحوه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : عن النبي ﷺ قال : ” ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ ، وما حرّم فهو حرامٌ ، وما سكتَ عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإنّ الله لم يكنْ لينسى شيئاً ، ثم تلا هذه الآية : ( وما كان ربُّك نسيا ) مريم : 64 .
وقد أخرجه البزار في ” مسنده ” (123) وقال : إسناده صالح . والحاكم (2/375) وقال : صحيح الإسناد ، والألباني في السلسلة الصحيحة (2256).
5- ونحوه عن أبي عثمان عن سلمان رضي الله عنه قال : سئل رسول الله ﷺ عن السمن والجبن والفراء ، فقال : ” الحلال ما أحلَّ اللهُ في كتابه ، والحرامُ ما حرَّم الله في كتابه ، وما سكتَ عنه فهو مما عفا عنه “.
خرّجه الترمذي وابن ماجة ، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي (1726) وقال في المشكاة (4156) : صحيح موقوفا ، يمكن تحسينه بشاهده مرفوعا .
فهذا الحديث الشريف من الأحاديث النبوية الجامعة ، ففيه استيعاب لأحكام الشريعة الإسلامية ، وتوضيحٍ لهذا الدين وحقيقته ؛ ولأجل ذلك ؛ أولى العلماء هذا الحديث اهتماما بالغا ، بدراسته واستخراج معانيه .
قال أبو بكر السمعاني : ” هذا الحديث أصلٌ كبير من أصول الدين ، وحكي عن بعضهم أنه قال : ليس في أحاديث رسول الله ﷺ حديثٌ واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه ، من حديث أبي ثعلبة . قال : وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال : جمع رسول الله ﷺ الدين في أربع كلمات ، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة .
ثم قال : فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأنّ من أدّى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدّين ، لأنّ الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث ” انتهى .
وصدق رحمه الله ، فإننا إذا نظرنا إلى هذا الحديث ، وجدنا أنّ النبي ﷺ قد حدّد لنا معالم هذا الدين ، فعبّر عن شرع الله تعالى بألفاظ أربعة : الفرائض ، والمحارم ، والحدود ، والمسكوت عنه ، وهذه الألفاظ ترسم لنا التصوّر الصحيح للمنهج الذي ينبغي أنْ يسير عليه المسلم في حياته .
فأول أمرٍ يتناوله الحديث : بيان موقف المكلّف من الفرائض ، بالمحافظة عليها وعدم التفريط في أدائها ، فقال : ” إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها ” والفرائض : هي الواجبات الشرعية التي أوجبها الله على عباده وألزمهم بها ، في الكتاب والسنة ، ومنها ما يكون واجبا على كل أفراد الأمة ، وهو ما يسمّى : بالفرائض العينيّة ، ومنها ما هو واجب على الكفاية ، أي : إذا قام به من يكفي ؛ سقط الإثم عن الباقين .
فهذه الفرائض – بنوعيها – واجبة على كل مكلّف مادام مستطيعا ، فإذا ورد الأمر من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلّم ؛ فلا يجوز ردّه أو عدم الاستجابة له ؛ لأن هذا هو مقتضى إيمان العبد بالله ورسوله ، كما قال الله تعالى في كتابه : ( وأطيعوا الله ورسوله إنْ كنتم مؤمنين )الأنفال : 1 ، فهذه الطاعة هي هي عنوان العبودية والتسليم لحكم الله وشرعه .
والثاني : قوله ” وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ” وهذا فيما يتعلّق بالمحرّمات ، فقد أرشدنا النبي ﷺ إلى تركها فقال : ” فلا تنتهكوها ” ، فدعا إلى ترك المعاصي بجميع أنواعها ، وإنما عبّر هنا بلفظ الانتهاك ؛ ليبيّن حال من يقارف المعاصي من تعدٍّ وعدوان على أحكام الله عزوجل ، فأتى بهذه اللفظة للتنفير عن كل ما نهى الله عنه .
ولما كان مدار التكليف كله على فعل المأمور وترك المحذور ، والتقيد بأحكام الشريعة ، والالتزام بما ورد فيها ، والوقوف عند حدودها ، وعدم تجاوزها ، أكد النبي ﷺ ذلك بقوله: ” وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ” ، وهي الأمر الثالث .
والحدود لفظة وردت في مواضع كثيرة من الكتاب والُّسنة ، ولها مدلولات كثيرة بحسب ما تتعلق به ، ففي الأوامر : يكون الوقوف عند حدود الله ، بعدم الخروج عن دائرة المأذون به إلى دائرة غير المأذون ، وأما فيما يتعلّق بالنواهي ، فيحرم مجرّد الاقتراب منها ؛ لأن الله تعالى إذا حرّم شيئاً ، حرّم كلَّ ما يؤدي إليه ، وتلك هي خطوات الشيطان التي جاء التحذير منها في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ) النور : 21.
أما الأمر الرابع : وهو موضع الشاهد من الحديث ، فهو قوله ” وسكت عن أشياء – رحمة لكم غير نسيان – فلا تبحثوا عنها ” فإذا كان هذا هو موقف المسلم تجاه ما ورد بيانه في الشريعة ، فما هو موقفه تجاه ما سكت عنه الشرع ولم يوضح حكمه ؟ وللجواب عن هذا نقول : إذا لم يرد نصّ في حكم مسألة ما ، فإننا نبقى على الأصل ، وهو الإباحة .
وهذا هو السكوت المقصود في قوله : ” وسكت عن أشياء – رحمة لكم غير نسيان – فلا تبحثوا عنها ” فهو سكوت عن إظهار حُكْمه ، ومقتضاه أن يكون باقيا على أصل إباحته ، وليس معنى هذا جواز الابتداع في الدين والزيادة فيه ، بحجة أنه مسكوت عنه ؛ فإنَّ الابتداع ليس مسكوتا عنه ، بل هو محرّم كما دلّت الأدلّة على ذلك .
6- وخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه ﷺ ، وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل ، فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) الأنعام : 145 ، الآية ، وهذا موقوف .
ومما سبق : يتبين لنا معاني تلك الألفاظ الأربعة ، والتي ترشدنا إلى القيام بحقوق الله ولزوم شريعته ، مع العفو عما سُكت عنه ، فدخل الدين كله في تلك الكلمات القليلة الجامعة المانعة .
7- وفي الحديث : ” إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ..” . رواه البخاري (6064(
قولُه : ” إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ” قَال الْخطَّابِيُّ وغيرُه ليسَ المُرادُ تَرْكَ الْعمَلِ بالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكامُ غالِبًا ، بلِ الْمُرَادُ تَرْكَ تَحْقيقِ الظنِّ الَّذي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ به ، وكذَا ما يَقَعُ في الْقلْبِ بغيرِ دلِيلٍ ، وذلك أَنَّ أَوائلَ الظُّنُونِ إِنَّما هي خَوَاطرُ لا يُمكنُ دَفعها ، وما لَا يُقْدَرُ علَيهِ لا يُكَلَّفُ به .
وقَال عِيَاضٌ : اسْتَدَلَّ بِالْحديثِ قومٌ علَى مَنْعِ الْعَمَلِ في الْأَحْكَامِ بالِاجْتِهاد والرَّأْيِ ، وحَمَلَهُ الْمُحقِّقُون علَى ظَنٍّ مُجرَّدٍ عنِ الدَّلِيلِ ليس مَبْنِيًّا على أَصْلٍ ولا تَحْقِيقِ نَظَرٍ .
8- وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ” مَنْ عَلِم فليقل ، ومَنْ لم يَعلم فليقل : الله أعلم ، فإنَّ من العلم أنْ يقول لما لا يعلم : لا أعلم ؛ فإنَّ الله قال لنبيه ﷺ : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) ص : 86 .
9- وترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام من “صحيحه” : باب : ما يكره من كثرة السؤال ، ومن تكلف ما لا يعنيه ، وقوله تعالى : ( لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) المائدة :101، وباب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )الإسراء: 36 .
10- عن أبي إسحاق قال : سألت الأوزاعي فقال : اصبر نفسك على السنة ، وقف حيث وقف القوم ، وقلْ بما قالوا ، وكفّ عما كفوا عنه ، واسلك سبيل سلفك الصالح ؛ فإنه يسعك ما وسعهم . رواه اللالكائي .
11- وسأل رجل أبا حنيفة رحمه الله : ما تقول فيما أحدثه الناس في الكلام في الأعراض والأجسام ؟ فقال : مقالات الفلاسفة ، عليك بالأثر وطريق السلف ، وإياك وكل محدثةٍ فإنها بدعة . ذم الكلام للهروي .
12- وقال الشعبي : عليك بآثار من سلف وإنْ رفضك الناس ، وإياك وآراء الرجال ؛ وإنْ زخرفوها لك بالقول .
وقال أيضا : ما حدّثوك به عن أصحاب محمد ﷺ فخذه ، وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش .
13- وقال إبراهيم النخعي : لو بلغني أنهم – يعنى الصحابة – لم يُجاوزوا بالوضوء ظُفراً ؛ لما جاوزته به . أخرجه الدارمي .
14- وقال شيخ الإسلام رحمه الله : ” ما لم يرد به الخبر ؛ إنْ علم انتفاؤه نفيناه ، وإلا سكتنا عنه ، فلا نثبت إلا بعلم ، ولا ننفي إلا بعلم …
فالأقسام ثلاثة : ما عُلم ثبوته أُثبت ، وما علم انتفاؤه نفي ، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سُكت عنه ، هذا هو الواجب ، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته “. انتهى .
15- وقال ابن عبد الهادي رحمه الله : ” ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنة ، لم يكنْ على عهد السلف ، ولا عرفوه ولا بيّنوه للأمة ، فإنَّ هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا ، وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر “. الصارم المنكي (ص427)