نزل القرآن الكريم بالسند المتصل إلى رسول الله ﷺ عن جبريل عن رب العالمين، وبهذا النحو تمت روايته جيلا عن جيل بالسند المتصل المتواتر إلى يومنا هذا.
وقد مر هذا السند بمراحل أثناء تطوره، قد نتناولها في وقت آخر، والذي يهمنا الآن هو أن ننبه الدارسين والباحثين في القرآن وعلومه، على وجود سند قرآني آخر، غير السند المتداول المعروف الذي يمر عبر شيخ القراء الإمام ابن الجزري، وهو أمر اكتشفته أو اطلعت عليه أثناء اعدادي لأطروحة الدكتوراه بعنوان: “السند الإقرائي في بلاد شنقيط” ، وفي بداية دراستي للموضوع، وجدت أن جميع من قابلتهم من المتخصصين في علوم القرآن، وشيوخ المحاظر، لا علم لهم بوجود هذا السند، رغم أن بعض شيوخ المحاظر يحمل هذا السند ويعطيه لتلامذته، وهم أيضا جميعهم مقتنعون تماما بأنه لا وجود لسند قرآني لا يمر على ابن الجزري، بل إن بعض الباحثين المختصين ومنهم الدكتور: عبد الهادي احميتو في موسوعته: قراءة الإمام نافع عند المغاربة من رواية أبي سعيد ورش، ينفي وجود أي سند للقرآن إلا في المشرق، قائلا: ” وإلا فإن الإجازة المكتوبة الموقعة من لدن المشايخ المذيلة بأسماء الشهود لا أعرف لها اليوم في علم القراءة وجودا إلا بقية من ذلك في الشرق العربي وخاصة في مصر والجامعة الإسلامية بالمدينة “([1])، ويؤكد مصرحا بانقطاع السند في المغرب فيقول: ” ولقد سألت في كل جهة من جهات المغرب خلال هذه العشر من السنوات التي استغرقها مني انجاز هذا البحث عددا كبيرا من المذكورين بالمعرفة في هذا العلم -علم القراءات- من أهل السبع والعشر، فما وجدت أحدا يتجاوز لي في تسمية أشياخه أكثر من شيخين من أهل القرن الماضي، ولا وقفت على أحد كتب لأحد قرأ عليه شيئا من القراءة أجازه به سمى له فيه من قرأ عليه ، بل ولا وقع لأحد من القراء بال أن يطالب أحدا من المشايخ بذلك، ومضى على ذلك الناس حتى نسوا السند وضاع”([2]). فحسب هذا الباحث السند المغربي ضاع وانقطع، والحق أنه بحمد الله ،إنما انقط في المملكة المغربية فقط، وأنه ما زال محفوظا، وتداولا في موريتانيا إلى يومنا هذا.
كما وجدت ذلك مسلما به عند بعض الباحثين من أهل المشرق، يقول الدكتور عدنان بن عبد الرزاق الحموي العلَبي، في كتابه: المجالس القرآنية في دمشق الشام: “ويعود للإمام ابن الجزري الفضل في نشر القراءات العشر – وهذا لا جدال فيه- معتمدا على القصيدة الطيبة إضافة إلى الشاطبية، حيث انحصرت لديه أعلى الروايات وأصحها، مما تلقاه عن كبار قرّاء مصر والشام، لذلك – وهنا محل الشاهد- فإن أسانيد العالم الإسلامي في القراءة تلتقي عنده”([3]).
هكذا أصبح راسخا عند القوم أنه لا وجود لسند قرآني غير الذي يمر على شيخ القراء الإمام ابن الجزري، وفاتهم أن بلاد شنقيط تلك البلاد النائية ما زالت محتفظة بسند قرآني أصيل ومتواتر.
بداية القصة: عندما حصلت على نسخ من الإجازة – في بداية إعدادي للأطروحة- من بعض المحاظر الشنقيطية في قراءة نافع وفي القراءات السبع، وبعض الإجازات الصادرة من المشرق في رواية حفص وفي القراءات العشر، وبدأت دراسة السند والمقارنة، فوجئت بأن السند الشنقيطي الذي أصله مغربي، لا يمر على أي واحد من أئمة القراءة المشهورين،كالداني والشاطبي وابن الجزري، لم أصدق الأمر أول ، فكيف لا يمر سند الشناقطة والمغاربة بالداني وهو عمدتهم في القراءة بل وفي الرسم، يقول صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع المعروف اختصارا (بابن بري) :
سلكت في ذلك طريق الداني*** إذ كان ذا حفظ وذا اتقان.
وفي القراءات السبع يدرسون متن الشاطبية الذي هو نظم للتيسير في القراءات السبع. فقلت: لا بد من التحقق أكثر لأن الأمر قد يكون خطأ مطبعيا، أو سقطا حصل لبعض رجال السند، فدرج عليه الناسخون، فعمدت إلى جمع عدد لا بأس به من نسخ الإجازات، وحرصت على أن يكون ذلك من عدة محاظر معروفة، وشخصيات، وأن يكون الجمع أيضا من جميع جهات الوطن -التي يعطى فيها السند- فحصلت على ما يربو على مائتين من النسخ، أكثرها في قراءة الإمام نافع، وبعضها في القراءات السبع، وبعضها في رواية حفص، وقمت بمقارنة بينها وبين ما جمعت من نسخ الإجازة الصادرة عن المشارقة، وأكثرها في رواية حفص، وبعضها في السبع، وبعضها في العشر، فتبين لي بعد المقارنة والدراسة أن السند الشنقيطي الذي أصله مغربي سند أصيل متواتر في هذه البلاد، ولا يمر كما قلت على أي واحد من الأئمة الثلاثة المشهورين، الداني والشاطبي وابن الجزري.
وهذا دفعني إلى تتبع هذا السند والبحث عن جذوره، لمعرفة كيف تفرع من السند الآخر؟ أو كيف نشأ؟، فوجدت أنه تفرع من لدن الإمام أحمد بن سعيد بن أحمد بن عبد الله بن سليمان المعروف بابن نفيس أبو العباس الطرابلسي الأصل ثم المصري ت 453 هـ ، وهو إمام حافظ عاصر الإمام الداني 444ه ، وأخذ عنه القراءة عدد من أئمة القراءة المعروفين، فاختاره المغاربة سنده كما يقول الدكتور عبد الهادي احميتو:” لما امتاز به من العلو وقلة الوسائط.- ولتسلسله بالأئمة من أول السند إلى منتهاه “وليكون في ذلك زيادة حفظ لكتاب الله الذي تعهد بحفظه.
فما القيمة العلمية لهذا السند؟ وهل له وجود في مكان آخر من المغرب العربي غير موريتانيا؟ ثم هل يوجد في العالم الإسلامي سند آخر للقرآن غير هذين السندين؟ أسئلة تتنظر من يجيب عليها بالبحث العلمي الجاد.
[1] – الدكتور. عبد الهادي احميتو – قراءة لإمام نافع عند المغاربة من رواية أبي سعيد ورش مقوماتها البنائية ومدارسها الأدائية إلى نهاية القرن العاشر الهجري. 4/456
[2] – المصدر السابق.
[3] – المجالس القرآنية في دمشق الشام: أهميتها وفضلها، تاريخ نشأتها، مناهجها في التحفيظ، آثارها. ص:221 نقلا عن: مجلة كلية الشريعة و الدراسات الإسلامية 2012 vol.30 Issue 30, pp.215-263. الناشر :جامعة قطر : كلية الشريعة و الدراسات الإسلامية.