من المعروف أن المصارف الإسلامية تستقبل الودائع والحسابات الاستثمارية المختلفة وتستثمر معظمها في مشاريع اقتصادية تنموية طويلة ومتوسطة الأجل، تقوم على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة، ومن الصعب التنبؤ بنتائج هذه المشاريع وهو ما قد ينتج عنه تذبذب غير متوقع في حجم السيولة في هذه المصارف. ويختلف الأمر بالنسبة للمصارف التقليدية التي تقدم القروض – في معظم أنشطتها- وتسترد أقساطها وفوائدها على مراحل محددة، وبالتالي فمن السهل توقع وتقدير التدفقات النقدية الداخلة.
ولا يمكن للمصارف الإسلامية علاج مشاكل السيولة كما تعالجها المصارف التقليدية؛ التي قد تودع فائض السيولة لدى أي مصرف مقابل فوائد معروفة، كما قد تلجأ – إذا احتاجت للسيولة- إلى المصرف المركزي كمقرض أخير أو إلى أي مصرف تقليدي آخر وتدفع مقابل ذلك فوائد محددة. وتأسيسا على كل ما سبق فمخاطر السيولة تطرح تحديا كبيرا للمصارف الإسلامية وتفرض عليها الاحتفاظ برصيد كبير من النقدية تحسبا لأي طارئ، بينما يختلف الأمر بالنسبة للمصارف التقليدية.
وتنشأ مخاطر السيولة في حالتي العجز والفائض، وغياب الإدارة الجيدة لهذه المخاطر يؤثر دون شك في سمعة المصرف وربحية أصحاب الأموال؛ ويحدث العجز في السيولة عندما تزيد التدفقات النقدية الخارجة أو تنقص التدفقات النقدية الداخلة أو هما معا، وقد يترتب على ذلك عجز المصرف عن الصمود أمام مسحوبات العملاء الطارئة، وسداد الالتزامات تجاه الغير في مواعيدها، وتقديم القروض…، الشيء الذي يمكن أن يهز سمعة المصرف ويحرمه من بعض الفرص الاستثمارية، كما قد يسبب توجه بعض العملاء لسحب المزيد من مدخراتهم أو – حتى- الانتقال لمصرف آخر. وقد يفرض ذلك على المصرف تسييل بعض الأصول وتكبد خسائر غير متوقعة. أما الزيادة في رصيد النقدية عن المستوى المطلوب،فتتجسد في زيادة التدفقات النقدية الداخلة أو نقص التدفقات النقدية الخارجٍة أو هما معا، ويترتب عليه تعطيل جزء من الأصول الموجودة لدى المصرف، كان من المفترض أن تستثمر وتدر عوائد على أصحابها، وهذا التعطيل قد يعرض قيمتها للانخفاض بسبب التضخم النقدي، أو بسبب الزكاة إذا حال عليها الحول، وكل ذلك سيؤدي في النهاية لعدم تحقق الربحية التي كانت متوقعة، ويصيب أصحاب الأموال بإحباط يصعب توقع القرارات التي يمكنهم اتخاذها على إثره.
ويقتضي الحد من هذه المخاطر تحقيق التوازن المطلوب بين السيولة والربحية، وهما أمران متعارضان إلى حد ما؛ فالسيولة ضرورية لاستمرار الوفاء بالالتزامات الآنية، والربحية ضرورية لتنمية أموال المساهمين وأصحاب الودائع الاستثمارية وتتطلب الاستثمار في الأصول الأقل سيولة لأنها أكثر ربحية من الأصول السائلة وشبه السائلة.
ولن تتحقق المواءمة بين السيولة والربحية إلا بخلق بدائل متفقة مع الشريعة الإسلامية يمكن الحصول عن طريقها على السيولة عند الحاجة، ودون تكبد خسائر كبيرة، وكذا توفير بدائل شرعية لاستثمار الفوائض النقدية لهذه المصارف. ولا شك أن المصارف المركزية تتحمل جزء من المسؤولية، فهي – في أحيان كثيرة- تكون جزء من المشكلة بدل أن تكون جزء من الحل، لأنها – على سبيل المثال- تفرض على المصارف الإسلامية والتقليدية – على حد سواء- دفع الاحتياطي القانوني في حين أن طبيعة هذه المصارف وبنية الأموال الموجودة لديها تختلف؛ فنصيب الأسد من أموال المصارف الإسلامية إنما هي حسابات استثمارية يشترك أصحابها مع المصرف في الربح والخسارة ولا يضمنها المصرف إلا في حالة التعدي أو التفريط، في حين أن جميع حسابات المصرف التقليدي إنما هي في حكم عقد القرض وبالتالي فالمصرف التقليدي ضامن لها سواء كانت حسابات استثمارية أو جارية، كذلك فأن الغالبية العظمى من أموال المصارف التقليدية إنما هي من حسابات جارية لا يدفع المصرف مقابلها أي فوائد, ولذلك فمن العدل أن تفرض المصارف المركزية الاحتياطي القانوني على المصارف الإسلامية كنسبة من الحسابات الجارية دون الحسابات الاستثمارية لأن تعطيل جزء مهم من أموال المودعين المستثمرة في صيغة مضاربة أو مشاركة أو غيرهما سيؤثر لا محالة في ربحية هؤلاء وسيؤدي لمشاكل في السيولة.
كذلك فإن المصارف المركزية – في أغلب الأحيان- لا تقوم بدورها كمقرض أخير إذا ما تعلق الأمر بالمصارف الإسلامية، نظرا لأن الصيغة المتوفرة تقليديا هي صيغة ربوية، وكان من الأجدر إيجاد صيغة أخرى تمكن المصارف الإسلامية من الحصول على السيولة دون الوقوع في الربا المحرم شرعا، كأن تقبل هذه المصارف المركزية تمويل المصارف الإسلامية عند الحاجة بإحدى الصيغ المشروعة (المضاربة، المرابحة،…).
وفي ظل تجاهل معظم المصارف المركزية لهذا الموضوع، فعلى المصارف الإسلامية ألا تبقى مكتوفة الأيدي، خاصة أن التعاون والتنسيق بينها كفيل بوضع حد لكل المخاطر الناجمة عن فائض السيولة أو العجز فيها؛ وذلك بعقد اتفاق على توفير السيولة للمصرف المحتاج لها، سواء بصيغة القرض الحسن أو بوديعة استثمارية. كما يمكن أن تتفق هذه المصارف على أن التعاون مع المصرف المتضرر من فائض السيولة ليستثمر فوائضه في الفرص المتاحة لدى شركائه من المصارف الإسلامية الأخرى وهكذا…وبما أن المشكل الأكثر تكرارا لدى المصارف الإسلامية هو زيادة فائض السيولة، فسيكون للتعاون بين المصارف المتضررة من ذلك دور مهم، خاصة إذا ما قررت توجيه تلك الفوائض لإنشاء مشاريع استثمارية مشتركة بصيغة المضاربة أو المشاركة وحولت المخاطر إلى فرص.
من جهة أخرى فإن تنويع المحافظ الاستثمارية للمصارف الإسلامية والتوجه أكثر نحو المشروعات طويلة ومتوسطة الأجل، يمكن أن يحد من مشاكل السيولة، خاصة أن بعض هذه المصارف اختار المشروعات قصيرة الأجل خوفا من المخاطر وطمعا في استعادة الأموال في فترة وجيزة مع عوائد – قليلة- لكنها شبه مضمونة.
ولا شك أن المؤسسة الإسلامية الدولية لإدارة السيولة ستلعب دورا مهما في التخفيف من مشاكل السيولة في المصارف الإسلامية، خاصة أنها بدأت منذ فترة في إصدار صكوك قصيرة الأجل، وتقع هذه المؤسسة في ماليزيا، وقد تم إنشاؤها بالتعاون بين البنك الإسلامي للتنمية وعدة مصارف مركزية منها المركزي القطري.