ماذا لو أن أحدنا اختار أن يكون ضمن صفوة الناس يوم الدين؟ من أبرز نماذج الصفوة في ثقافة الإسلام، أولئك السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؟ أو ماذا لو اختار أحدنا أن يكون ضمن أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، كما قال عنهم رسول الله :” يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ” (صحيح البخاري).

لا شيء يمنع الإنسان أن يختار وجوده ضمن صفوة هو يرغب بالانضمام إليها، لكن الذي يمنع هو عدم بذل الأسباب أو تحقيق الاشتراطات المطلوبة للانضمام. وهي اشتراطات – لو تأملناها – لوجدنا أنها لا تكلفك كثيراً، بل لا تحتاج إلى أي توصيات أو وساطات من أحد. لكن مع ذلك، يقل الساعون إلى تلك الصفوات البشرية يوم القيامة.

للصفوة معايير خاصة

إن الصفوة أو النخبة في أي مجتمع، هم خيار الناس في ذاك المجتمع، ومن الطبيعي أن تلك الخيرية لها معاييرها الخاصة، التي تختلف من مجتمع إلى آخر أو ثقافة وأخرى. لاحظ مثلاً أن الذين خرجوا إلى غزوة بدر الكبرى من الصحابة، لم يتجاوز عددهم الثلاثمائة وبضعة رجال، في الوقت الذي كان عدد الصحابة من المهاجرين والأنصار بالمدينة أكبر من ذلك بكثير، وكان قد خرج أولئك النفر الثلاثمائة لمهمة محددة، لكنها تغيرت في لحظة معينة حرجة لحكمة أرادها سبحانه.

يقول العلماء إن أولئك البدريين، الذين أطلق عليهم هذا الاسم فيما بعد، كانوا صفوة الناس يومذاك، مثلما كانت الملائكة التي نزلت في المعركة، من خيار أهل السماء في تلك الفترة، وما كان اختيار الرسول لأولئك الثلاثمائة ليكونوا في مهمة اعتراض قافلة قريش، إلا لحكمة إلهية سيعلمها الناس بعد حين من الدهر قصير.

المهمة التي بدت يسيرة بادئ الأمر، تطورت لتكون مواجهة عسكرية مع قريش، دون أي استعداد نفسي أو بدني لازم لقتال لاشك أنه سيكون عنيفاً. فيه دماء وآلام ومصاعب لا تتحملها سوى نفوس مصطفاة معينة، فكانوا هم البدريين.

البدريون من صفوة البشر

البدريون الذين اصطفاهم الله لمهمة التفريق بين الحق والباطل وكسر شوكة الشرك والكفر في أولى المواجهات، كافأهم الله بعد ذلك بشيء يتمناه كل مسلم، كما جاء في الصحيح، حين عاتب الفاروق عمر، حاطب بن أبي بلتعة، لأنه أخبر قريشاً بخبر تجهيز الرسول لغزو مكة، فسأل أن يضرب عنقه لأنه نافق، فقال له الرسول – :”إِنّهُ قد شهد بدراً، وما يدرِيك، لعل اللَّهَ أَن يكون قد اطَّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

هكذا كان حال من اصطفاه الله ليكون من البدريين، الذين كانت لهم فضائل كثيرة ذكرها العلماء، ليس لشيء سوى أنهم شهدوا معركة فاصلة لم تكن من تنسيق وترتيب وتقدير البشر، بل من خالقهم عز وجل. وضمن هذا السياق أو الاصطفاء الإلهي، فقد اصطفى الله سبحانه عباداً له قبل أهل بدر، ذكرهم في القرآن وهم { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران:33- 34). ولم يتم الاصطفاء، دون شك، إلا لأن لهم فضلا وصفات معينة أوصلتهم إلى تلك الدرجة العالية الرفيعة.

من هم الصفوة في ثقافة الإسلام ؟

كيف هو الوضع عند البشر في مسألة الاصطفاء؟ سنجد على المستوى البشري، أن صفوة الناس في مجتمع معين، إنما هم أصحاب انجازات تحققت على أيديهم، وكانت لها آثار إيجابية على المجتمع بشكل عام، بغض النظر عن ماهية تلك الإنجازات. إلا أن مجتمعهم اختارهم واصطفاهم لذلك. وقد نرى العلماء في مجالات العلوم المتنوعة، هم صفوة مجتمع معين، دون اعتبار نقطة الإنجازات. فيما يختار مجتمع ثالث صفوة أبنائه ممن هم أصحاب فكر وثقافة، بغض النظر أيضاً عن طبيعة أفكارهم وثقافاتهم. وربما مجتمع رابع يرى أن نواب البرلمانات مثلاً هم صفوته.. وهكذا بحسب كل مجتمع وثقافته.

في ثقافتنا الإسلامية، ظهر مصطلح أهل الحل والعقد. وقد كانوا أهل علم ورأي وحكمة. أولئك الذين كان يتم اختيارهم من عموم الشعب لتمثيلهم في أمورهم العامة، حيث ظهر أول ما ظهر في انتخاب أهل العقبة الثانية نقباءهم الاثني عشر، ثم استمر الأمر وتطور إلى يومنا هذا، ليكون على شكل برلمانات أو مجالس شورى أو ما شابه.

إن مسألة الصفوة والاصطفاء، هي تذكير للنفس ودعوتها، لترتقي بصاحبها كي يكون ضمن صفوة يختارها هو بنفسه لا يختاره الآخرون.. وفي هذا قد تتساءل وتقول: كيف؟

قد يجتهد أحدنا في عمله الدنيوي رغبة في أن يكون ضمن صفوة وخيار المجتمع، سواء بحسب إنجازاته العملية أو شهاداته العلمية، أو بحسب المعايير التي اتفق الناس في مجتمعه عليها ليكون ضمن صفوة أو نجوم المجتمع، سواء كان الأمر رسمياً على شكل انتخابات برلمانية وما شابه، أو كان الأمر عرفياً تتفق غالبية الناس على رموز وأسماء معينة بينهم، واعتبارهم صفوة مجتمعاتهم ونجومها، يفتخرون بوجودها بينهم..

ذكر الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر : “ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا ومذ سلكوا ما وقفوا‏، فهمهم صعود وترق‏،‏ كلما عبروا مقاماً إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا”.

غاية كل مسلم

هذا هو الأمر الجدير بأن يكون غاية كل مسلم من وجوده في هذه الحياة. هذا الاصطفاء الذي أعنيه وأدعو إليه. أن يجتهد المرء منا ليكون ضمن تلك الصفوة البشرية التي أبرز الشارع الكريم صفاتها وسبل الانضمام إليها.

من منا لا يرغب أن يكون ضمن الذين يصطفيهم الله يوم القيامة ليكونوا تحت ظل عرشه الكريم؟ ومن منا لا يرغب أن يكون ضمن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟ ومن منا لا يرغب أن يكون ضمن الزمرة الأولى الداخلة إلى الجنة مع خير البشر محمد – – تتلقاهم الملائكة يومئذ بتحية الإسلام، أن { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } (الرعد: 24)

لا شك أن النفوس التوّاقة لمثل هذه المجموعات البشرية المصطفاة يوم القيامة، هي نفوس عالية الهمة، لا تشغلها أو تنشغل بتقديرات دنيوية هنا أو هناك، وإن ارتفعت وارتقت وتفاخر الناس بها، لأن شغلهم الشاغل تلك التقديرات الأخروية، إذ لمثل تلك الغايات والتقديرات، يتنافس المتنافسون.