إنه سلطان العلماء أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السُّلَمي الدمشقي، أحد العلماء العاملين الأعلام، اشتُهر بزهده وجرأته في الله، حتى لقد عُرف ببائع السلاطين، وذلك عندما أفتى أن يباع أمراء المماليك ويُرَدّ ثمنهم إلى بيت مال المسلمين، كما سنذكر بعد قليل.
لكن ما يغيب من جوانب شخصيته عن عامة الناس، أن هذا الرجل العظيم كان عَلَماً في علوم وفنون شتى، كالتفسير وعلوم القرآن، والحديث، والعقائد، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية، والنحو والبلاغة، والسلوك والأحوال القلبية. وكانت له صلة بشيخ زمانه في التصوّف أبي الحسن الشاذلي (علي بن عبد الله المغربي الشاذلي – توفي سنة 656هـ)، وكان كل منهما حريصاً على أن يخلّص التصوّف مما لحق به من شطحات وبدع، وقد قال فيه أبو الحسن: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس عز الدين بن عبد السلام، وشهد العز لأبي الحسن كذلك بأن كلامه قريب عهد بالله!.
ولد العز بن عبد السلام في دمشق سنة 577هـ، وتوفي في القاهرة، سنة 660هـ عن عمر يقارب الثلاثة والثمانين عاماً! ودفن بسفح المقطّم.
وقد نشأ في أسرة فقيرة الحال، فلم يتهيأ له أن يبدأ التعلم صغيراً، إلا أنه حين بدأ التحصيل أقبل عليه بهمة لا تعرف الملل، وفؤاد ذكي، وتطلُّع إلى رضوان الله، ففاق الأقران، وصار عَلَم الزمان!.
قال فيه السيوطي: “ثم كان في آخر عمره لا يتعبّد بالمذهب، بل اتّسَع نطاقه، وأفتى بما أدّى إليه اجتهاده” أي إنه لم يعد متقيداً بمذهبه الأصلي، المذهب الشافعي، بل قد يفتي بمقتضى اجتهاده.
اشتهر بمواقفه العظيمة في إحقاق الحق وإنكار المنكر، لا سيما مع حكام عصره، فبعد وفاة صلاح الدين الأيوبي (589هـ) اختلف خلفاؤه من بعده، وقويت الإمارات الباقية من فلول الصليبيين نتيجة لذلك، وبلغ الصراع مداه أيام العز بن عبد السلام، وذلك بين حاكم دمشق “الصالح إسماعيل بن الكامل” وبين أخيه “نجم الدين أيوب” سلطان مصر (توفي سنة 647هـ)، حتى إن حاكم دمشق حالف الصليبيين، وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلان، ووعدهم بجزء من مصر، إذا هم أعانوه على أخيه نجم الدين أيوب!
وكان العز آنذاك إمام المسجد الأموي ومفتي دمشق، فهاجم السلطان في خطبة من منبر الجمعة، فأمر السلطان بعزله واعتقاله… وحين أُفرج عنه اتجه إلى مصر سنة 639هـ [كان عمره 62 سنة] فرحّب به حاكمها نجم الدين أيوب وولاه الخطابة والقضاء، فراح يدعو إلى التزام السنة ومحاربة البدعة، وإلى نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا يسجل التاريخ مواقف رائعة لهذا الشيخ العظيم، نذكر منها خمسة:
1- أول هذه المواقف كان حين أنكر على حاكم دمشق “الصالح إسماعيل” تحالفه مع الصليبيين وتنازله لهم عن بعض المواقع، وسماحه للناس ببيع السلاح للإفرنج، فأفتى الشيخ بتحريم ذلك كله، وأعلن موقفه على المنبر، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: “والله ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً عن أن أقبّل يده. يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به“. فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لي أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم.
2- وثاني هذه المواقف هو بيعه لأمراء المماليك الذين كان يستعملهم الملك نجم الدين في خدمته وجيشه وتصريف أمور الدولة، فقد أبطل “العز” تصرفاتهم، لأن المملوك لا ينفُذُ تصرُّفُه شرعاً. وقد ضايقهم ذلك، وعطّل مصالحهم، فراجعوه فقال: لابد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتُباعوا فيه، ويردَّ ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي… فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض؟.
وثار نائب السلطان وذهب في جماعة من الأمراء إلى بيت الشيخ يريدون قتله، فلما رآهم ابنه فزع وخاف على أبيه، فما اكترث الشيخ، بل قال: “يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله” أي إن من يُقتَل في سبيل الله يكون على مرتبة عالية عند الله، لم أَبْلُغْها!.
وغضب الملك نجم الدين أيوب من هذه الفتوى وقال: ليس هذا من اختصاص الشيخ، وليس له به شأن!.
فلما علم “العز” بذلك عزل نفسه عن القضاء، وقرر العودة إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان.
وجاء من هَمَس في أذن الملك: متى ذهب الشيخ ذهب مُلكُك. فخرج الملك مسرعاً ولحق بالشيخ، وأدركه في الطريق وترضّاه، ووعده أن ينفّذ حكم الله في المماليك كما أفتى الشيخ. فرجع العز ونفّذ الحكم!.
3- والموقف الثالث كان مع الملك نجم الدين أيوب نفسه، فقد ذكر السبكيّ في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، إلى القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه! فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى ذلك؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات! فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون؟!
وقد أمر السلطان بإقفال الحانة فوراً. ثم سأل الشيخَ أحدُ تلامذته: أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا؟! فقال الشيخ: استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ!.
4- والموقف الرابع دوره في معركة المنصورة: جاء العز إلى مصر مستاءً من خيانة حاكم دمشق، فراح يدعو إلى الجهاد ضد الصليبيين وضد التتار، وتعرضت مصر آنذاك إلى حملة صليبية جديدة سنة 647هـ = 1249م في جموع كبيرة، يقودها لويس التاسع ملك فرنسا، فاستولوا على دمياط ثم اتجهوا إلى القاهرة حتى وصلوا إلى المنصورة، حيث دارت معارك هُزم فيها الإفرنج وأُسِرَ لويس التاسع وكبار قواده، وحبسوا في دار ابن لقمان.
وكان العز في قلب هذه المعركة، اشترك فيها بلسانه ويده، وقد كانت حرباً شعبية في المقام الأول، قام فيها الشعب بدور بارز.
5- والموقف الخامس دوره في حرب التتار وموقعة عين جالوت: كان العز رجلاً فرغ من شهوات الدنيا كلها، فدان له الملوك، وأطاعه الشعب.
وكانت بغداد آنذاك عاصمة الدولة الإسلامية وحاضرة الدنيا، لكنها سقطت بأيدي التتار سنة 656هـ، ودمرت بغداد، نتيجة ضعف الخليفة وتآمر الوزير ابن العلقمي، وألقيت المخطوطات والكتب في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه، وانبعثت جيوش هولاكو كالجراد، ولم يبق من ديار الإسلام إلا مصر، وماذا تعمل مصر أمام هذا الزحف الأصفر؟!.
وكان من قدر الله أن أُجلي الشيخ العز من دمشق إلى مصر، كما ذكرنا، { وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} فراح يُذْكي روح الإيمان والجهاد في شعب مصر، ويذكّر الولاة بواجبهم تجاه ربهم ودينهم، وتجاه حرمة الأرض المسلمة.
وكان الملك نجم الدين أيوب قد توفي سنة (645هـ – 1249م) قُبيل معركة المنصورة، وتولى بعد ابنه توران شاه الذي اغتيل بعد شهور، وانتهى حكم الدولة الأيوبية، وآل الأمر إلى المماليك فحكم عز الدين إيبك فترة قصيرة ثم نور الدين علي.
وفي أثناء ذلك وصل السيل التتري الجارف إلى عين جالوت قرب بيسان، وصار الأمر بحاجة إلى معركة فاصلة، فعندئذ عَزَل الولاةُ ملكَهم الضعيف نور الدين علي وولَّوا مكانه البطل القوي المتمرس بالحروب قطز، وسمّوه الملك المظفر. وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يلزم لمواجهة التتار وأن بيت المال بحاجة إلى أموال الشعب ليتمكن من الجهاد، ووافقه جُلّ الحاضرين على جباية الضرائب لهذا الأمر، ولم يذْكروا ما عند الأمراء من أموال.
وعندئذ تكلم العز فقال: “إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وبشرط أن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحُليّ، ويقتصر الجند على سلاحهم ومركوبهم، ويتساووا والعامة…”
وكانت الكلمةُ كلمةَ عز الدين، وراح يعبّئ النفوس، ويشحنها بالإيمان، ويحرّض المؤمنين على القتال، وخرج الجيش من مصر على أكمل استعداد، وبلغوا بيسان في الوسط الشرقي من فلسطين في رمضان 658 هـ، واستمرّ الشيخ يُذكي روح العزيمة، ويذكّر بنصر الله، وعظيم فضل الجهاد والمجاهدين، ومكانة الشهيد عند الله. وكانت المعركة الهائلة التي حارب فيها جيش الإسلام تحت صيحات: “الله أكبر. واإسلاماه”… واندحر جيش التتار في عين جالوت.
وأما عن الشخصية العلمية للشيخ العز فقد قال فيه الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي: “وقرأ الأصول والعربية، ودرّس وأفتى وصنّف، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطَّلَبةُ من الآفاق، وتخرّج به أئمة، وله التصانيف المفيدة، والفتاوى السديدة. وقال فيه ابن الحاجب: إنه أفقه من الغزالي!.
وألقى دروساً في التفسير، وله تفسير كامل للقرآن الكريم، كما قام باختصار تفسير المارودي: “النكت والعيون”، وألَّفَ في متشابه القرآن كتابه “فوائد في مُشْكل القرآن.
ومن خلال قراءتك لمؤلفات العز في التفسير تلاحظ طول باعه في علوم اللغة والمعاني والبيان وكثرة استشهاده بأشعار العرب، مقتدياً في ذلك بحبر الأمة عبد الله بن عباس الذي قال: إذا أشكل عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر فإنه ديوان العرب.
سمع الحديث من أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير علي بن عساكر محدّث دمشق ومؤرخها، ودرس الفقه على الإمام فخر الدين بن عساكر، وأخذ الأصول عن العالم الأصولي الكبير سيف الدين الآمدي (551- 592هـ)، وسافر إلى بغداد وتتلمذ على علمائها الكبار.
وقد تخرَّج على العز بن عبد السلام طلاب كثيرون، منهم شيخ الإسلام ابن دقيق العيد مجدّد القرن الثامن (محمد بن علي بن وهب القشيري: 625- 702هـ)، وهو الذي لقّبه بسلطان العلماء، ومنهم جلال الدين الدشناوي الزاهد الورع شيخ الشافعية بـ”قوص” في صعيد مصر، ومنهم المؤرخ أبو شامة المقدسي…
ومن مؤلفاته العظيمة كتاب “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” وهو أول ما كُتب خارج المذهب الحنفي، في بيان القواعد التشريعية، وهي عِلم يمثل صلة الوصل بين الفقه وأصول الفقه، ويوضح المبادئ التي يقوم عليها التشريع الإسلامي.
وفي هذا الكتاب يعتمد العز على نظرية أن التشريع كله ينبني على تحقيق مصالح الناس، ويثبت هذه النظرية عبر المئات، بل الألوف من المسائل.
هذا كله مع أن ما خلّفه العز من آثار سلوكية في العلم والزهد والجهاد… كان أعظم مما خلّفه من كتُب!.