في واقع مجتمعاتنا العربية ظواهر مستعصية وخطرة، مستعصيةً لأنها تمارس باسم الدين فيمنحها ذلك قدسية زائفة تمنع من طرحها أمام سؤال الإصلاح، وخطرةً لما تسببه من الأزمات التي تحول بين مجتمعاتنا وبين النهوض، وتحول حياته ـ أحيانا ـ إلى سلسلة مشاكل نفسية وثقافية تنعكس بطريقة شائهة على علاقاتنا الاجتماعية.
وقد زاد الطين بللا، عدم توازن الرؤى التي حاولت مقاربة المسألة، حيث اتسمت بالتطرف المؤسَّسِ على ردة فعلٍ، وقد كثر الجدل بين الفريقين المتطرفين، وارتفعت أصواتهما فغطت على صوت العقل المتوازن والدين الصحيح، لذلك أصبح لزاما على المصلحين أن يطرحوا المسألة من جديد بمقاربةٍ تقوم على دراسة الخلفيات والأساطير المؤسسة لها، وتحديد مستوى علاقتها بالدين الصحيح.
وحتى تتجلى أبعاد الصورة، سأحاول نقاش إحدى هذه الظواهر المتسلطة، ألا وهي مسألة (عضل الأبوين لبناتهن بناء على اعتبارات قبلية أو جغرافية وعرقية)، مع الاعتراف بدءا بالتفاوت النسبي الحاصل في وجود هذه الظاهرة من دولة إلى أخرى، ولن يتجاوز هذا النقاش مستوى إثارة المسألة ، إذ الحسم القطعي في ظاهرة اجتماعية معقدة ينبغي أن يسبقه سبرٌ واسع لأبعاد المشكلة وحفرٌ عميق في تاريخها ونظر متأنٍ في ارتباطاتها أو انفصالاتها الشرعية.
لكن الأغرب في هذه الظاهرة الاجتماعية، هو تجاوزها إلى عضل الأبناء (الرجال) أيضا ـ رغم أن الابن حين يبلغ تنتهي الولاية عليه من أبيه ـ حيث يكثر أن يقف الوالدان ـ بنية حسنة ـ عقبةً في طريق زواج ابنهما بمن رضيها أنيسة بيته وأم أبنائه
هل العضل جائز؟ الإجابة هي: لا، فالله سبحانه وتعالى يقول:( فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف)، والنصوص الشرعية متوافرة في هذا المعنى وكذا أقوال العلماء، لكن ما هو تعريف العضل؟، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: “ومعنى العضل : منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك ، ورغب كل واحد منهما في صاحبه”، وقد أجمع العلماء على تحريمه”
ولا يمكن هنا أن نقول بحماس مستعجل، ينبغي أن نسأل النصوص الشرعية ونتبع الإجابة!، إذ لكل فتوى ـ كما يقول الشاطبي ـ طرفان: شرعي(النصوص والمقاصد) وواقعي(تفاعل المجتمع المسلم مع الدين، وظروف المستفتي أو المستفتى له)، ولكن ـ في المقابل أيضا ـ لا يمكن أن نقدس العرف والعادة فيما يرجع بالضرر الشرعي (البحث عن مسارب غير شرعية مثلا في حالة العضل التعسفي) على الفرد أو المجتمع، إذ القاعدة الفقهية تقول: إن العادة كالشرع ما لم تخالفه.
إن الشارع الحكيم يفترض الرشد في الولي، بل يجعله أحد شروط صحة ولايته، كما يفترض أن الولي يتوخى ـ بالضرورة ـ مصلحة موليَّتِه، ولذلك يعطيه حق النظر في أرجحية رأيها فيمن تتزوجه، ولكنه لا يترك هذا الحق مطلقا بل يضبطه بشرط قابل للقياس والاحتكام، (الزواج بكفء)، والكفاءة الراجح اعتبارها هي كفاءة الدين، أما غيرها من الكفاءات (النسب ـ الوطن ـ العرق) فملغًى حال التنازع.
ويرتكب المجتمع جُرمًا كبيرا حين يمنع الفتيات من الزواج بمن يرغبن فيه إذا كان مَرْضِي الدين والخلق، ذلك أن هذا التحكم التعسفي يدفعهن إلى أحد خيارين مُرَّين:
ـ إما أن تذعن الفتاة لرأي الأبوين، حرصا على سمعتها الاجتماعية، ولكن تبقى باندفاعها العاطفي نحو من تحب، فيبحثان عن مسارب غير شرعية لتصريف ذلك الارتباط العاطفي الجامح، وهو ما ينعكس على أخلاق وقيم المجتمع، وهي الحالة الأكثر نظرا للسطوة الشكلية للسلطان الاجتماعي.
ـ وإما أن تجاهر برفضها لقرار الأبوين غير المؤسس على شرع ولا حق، فتذهب للقاضي مثلا لكي يزوجها، ، فيؤدي ذلك إلى نشوء كيانات أسرية كارهة للمجتمع وناقمة على علاقاتها الاجتماعية القريبة، من جهة، ومنبوذة من المجتمع الذي لا ينصف أصحاب هذه القرارات الجريئة، من جهة أخرى.
إن هذه الاحتمالات القاتلة والمؤذنة بمواصلة نزيف مجتمعنا العربي كانت ملاحظةً من قبل الشرع، فقد قال النبي ﷺ:( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)، وتنكير كلمتي(فتنة ـ فساد) يفتح المعنى على كل أنواع الفتن وفنون الفساد المحتملة، وأظهر ما فيها هو ارتكاب الفاحشة من المتحابين الممنوعين باطلا من زواج شرعي، أو منازعة الأبوين عند القاضي وما قد يؤديه من تجاوز في حق الأدب معهما
وقد لا ينتبه الأبوان أن ابنهما لو فعل ما يريدان فتزوج مجبوبتهما لا محبوبته، أنهما بذلك يبنيان أسرة مفتوحا بابها على الطلاق البائن أوالصراع الدائم، وغياب السعادة، حيث يسهم الرباط العاطفي بين الزوجين في تأجيل وإنهاء كثير من المشاكل الزوجية، التي تنهض في ظل انعدامه.
لكن الأغرب في هذه الظاهرة الاجتماعية، هو تجاوزها إلى عضل الأبناء (الرجال) أيضا ـ رغم أن الابن حين يبلغ تنتهي الولاية عليه من أبيه ـ حيث يكثر أن يقف الوالدان ـ بنية حسنة ـ عقبةً في طريق زواج ابنهما بمن رضيها أنيسة بيته وأم أبنائه، ويغيب عن الأبوين المشفقين أن ذلك قد يدفع ابنهما لترك الزواج وسلوك طريق المعصية، حيث لا يرى امرأة جديرة بالحب غير محبوبته الممنوع منها، وقد قال قيس بن الملوح:
وَكانَ نِساءُ الحَيِّ مُذ كُنتِ بَينَهُم ….مِلاحاً فَلَمّا غِبتِ صِرنَ قِباحا
وقد لا ينتبه الأبوان أن ابنهما لو فعل ما يريدان فتزوج مجبوبتهما لا محبوبته، أنهما بذلك يبنيان أسرة مفتوحا بابها على الطلاق البائن أوالصراع الدائم، وغياب السعادة، حيث يسهم الرباط العاطفي بين الزوجين في تأجيل وإنهاء كثير من المشاكل الزوجية، التي تنهض في ظل انعدامه.
إنه على الأبوين أن يعرفا أن أبناءهم خلقوا لزمان غير زمانهما الذي شبا فيه وشكل شخصيتيهما،وأن له أولويات ووجهات نظر وعواطف قد لا تتفق مع ما يريدانه له، وأن قصارى جهدهما ينبغي أن لا تتجاوز، نصحا ورأيا سديدا، ومن ثم دعاء بالتوفيق والبركة فيما يختاره الله لولدهما،
إنه من المهم أن يعرف الأبوان أنه ليس من حقهما الشرعي إرغام البنت على شريك لا تريده، ولا منعها من آخر يتفقان معها على كفايته الدينية والخلقية، وأبعد من ذلك منع ولدهما من الزواج بمرضية دين وخلق، كما من المهم أيضا أن نبين للأبناء أن الاستقصاء في أخذ الحق من الوالدين مناف لخفض جناح الذل لهما.
لكن المسؤولية الكبرى تقع على المصلحين من فقهاء وعلماء ودعاة تغيير، أن يوضحوا للأبوين حدودهما و للأبناء واجبهم ، وأن يفكوا العلاقة الزائفة بين هذه العادات الجائرة وبين الدين العدل المنصف.