يتعلم الإنسان المشي في أول عمره بعد سنة تقريبًا من ولادته ثم يظل يمشي في طول الحياة ويسعى في عرض الأرض إلى أن تحمله قدماه إلى مرقده بعد خطوات يتركها وراءه،فما الحياة إلا خطوات في سبيل و مشي إلى غاية يقترب منها المرء ويبتعد بحسب لياقته الروحية، وقد مثّل هذه المسيرة أحد الشعراء بأبلغ عبارة فقال:

مشيناها خطًى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطىً مشاها

ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها

وعبارة ” مشيناها خطًى” من العبارات الشعرية الموجزة الشهيرة المتداولة،وقد استعارها أحد كتّاب العصر عنوانًا لسيرته الذاتية وهو السياسي السوداني أحمد سليمان المحامي الذي سطّر في كتابه “مشيناها خطى” قصة تحوله من الشيوعية إلى الاتجاه الإسلامي،والعجيب أن المشي كان حاضرًا في كلماته الأخيرة فقد فتح عينيه و نظر إلى زوجته وبصوت خافت قال لها : ” أنا ماشي”،فارتعدت وفضلت أن لا تجيبه حتى لا يكرر جملته القصيرة التي أفزعتها  وبعد جهد أفلحت في تغيير مجرى الحديث ثم بعد أربعة أيام  في مستشفى بأمريكا أعلن الأطباء وفاة أحمد سليمان نتيجة نوبة قلبية عام2009م.

يتعلم الإنسان المشي كطور متقدم من أطوار حركة الطفل ثم يلازمه المشي كسعي يومي في سبيل تحصيل المنافع سواءً أكانت كسبًا ماديًا أو عافية روحية.

والعجيب في أمر المشي أنه تجاوز اعتباره حركة فيزيائية اعتيادية إلى طقس مرتبط بعالم الأفكار،فيخبرنا التاريخ عن تلاميذ أرسطو الذين سموا بالفلاسفة المشائين وذلك لأنه كان يلقي عليهم دروسه وهم يمشون،والفيلسوف الألماني ايمانويل كانت كان معروفًا عنه المشي يوميًا في ساعة محددة لدرجة أن جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم على موعد خروجه الدقيق!

وكان وقت المشي هو وقت التفكير والتقاط الأفكار وتأليفها بالنسبة للفيلسوف روسو وهو القائل:”عليّ أن أمشي لتحفيز وتنشيط نفسي،ولأبقى على صلة مع العالم،من دون المشي ما كنت لأستطيع الكتابة”، وكذلك الفيلسوف نيتشه عرف باعتياده للمشي يوميًا وهو القائل”كل الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي”.

المشي رياضة المبدعين وهو أمر يؤكده الواقع ويوافق عليه العلم حيث وجد الباحثون في جامعة ستانفورد بأن المشي يعزز الإلهام الإبداعي، وكان أينشتاين مواظبًا على رياضة المشي ويذكر الصحفي محمد حسنين هيكل أنه طلب منه إجراء حوار صحفي في بداية الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي فكان الرد بأن المقابلة الصحفية تكون بشرطين أن تكون أثناء ممارسة اينشتاين لرياضة المشي في الغابات المحيطة بجامعة برينستون الأمريكية وأن تكون لمدة ربع ساعة لأنه هذا هو الوقت الذي يسمح به جدول العالم الفيزيائي الشهير.

الأدباء أيضًا اتخذوا من المشي جادة يلتقون فيها بمعاني مبتكرة،ومن الأمثلة الشهيرة في العصر الحديث ما سطره الأديب جبرا إبراهيم جبرا عن يومياته البغدادية وسكنه وذهابه وإيابه بشارع الأميرات حيث عنوان هذا الجزء من سيرة حياته بـ (شارع الأميرات) في إشارة إلى الحضور اللافت لعادة المشي في يومياته،وبيان ما نتج من مشاريع ثقافية فردية ومشتركة أثناء التمشي في هذا الشارع، ونرى جبرا في كتابه هذا يقول عن الأبعاد الثقافية للمشي :”لا أشك في أن كل حضارة في التاريخ شهدت أناساً يُعرفون بالمشائين، من شأنهم أن يحبوا السير على القدمين كرياضة بدنية ورياضة عقلية معاً، ويجعلون الأولى وسيلة لتنشيط الثانية، فتنطلق أفكارهم وهم يسيرون المسافات اثنين اثنين، أو أكثر، وقد يقصرون سيرهم على مسافة داخلية محدودة، في حديقة أو بستان، يقطعونها روحةً وجيئةً، طلباً للمزيد من الأفكار التي يناقشونها من شؤون العقل والعاطفة والمسلكة الإنسانية، ويدركون في مناقشاتهم المشاءة ما قد لا يتوصلون إليه وهم قاعدون في حجراتهم”.

ومن التمظهرات الثقافية للمشي تعبيره عن الاحتجاج والرفض وهو معنى مناسب لحركة المشي التي هي تجسيد للحرية حرية الانتقال والحركة ومجانبة السكون والقعود، ولذلك تبين طرق المدينة وشوارعها الحدود والقيود الرمزية التي تحكم الحيّز العمراني المخطط بخلاف دروب الصحراء التي تتيح لكل سالك أن يخطّ دربه ويرسم طريقه بالاتجاه الذي يرتئيه والمدى الذي يريده،وفي جانب التعبير بالمشي والمسيرات على الأقدام يبرز الزعيم الهندي غاندي كمثال على ذلك حيث قام بقيادة مسيرات جماعية تمثل ما يمكن أن يسمى المشي الجماعي تعبيرًا عن أسلوبه في المقاومة السلمية للاحتلال الانجليزي والوصاية المفروضة على الهند حينذاك،وسميت تلك المسيرة بـ”مسيرة الملح” لأنها كانت تهدف إلى إلغاء  ضريبة الملح التي فرضها الإنجليز عبر احتكار الملح وبيعه للهنود ثم ظل غاندي يمشي ويواصل المشي حتى تحقق حلمه باستقلال الهند.

إن اقتران المشي بالتأمل والصفاء الذهني  أمر ظاهر ولعله أصبح في حكم المستقرّ عند غالب الناس ويشهد بذلك ممارسة كثير  من الناس للمشي خروجًا من جمود البال ونضوب القريحة وسعيًا إلى اقتناص فكرة شاردة ربما لا تظهر للعيان إلا في الهواء الطلق أو في آفاق الحركة وتغير المكان.

وأما عند الأدباء فإن المشي طقس معتاد وعادة متأصلة لدى كثير من الكتاب،ومن أهم أسباب ذلك أن المشي يبعث على التأمل ويشكل الأجواء المناسبة للإبداع الأدبي،فالكثير من الأفكار البديعة لا تحضر  على طرف القلم وإنما تخطر بين الخطوة والخطوة فيستحيل المشي إلى حركة فكرية يتوقد فيها الذهن ويستثار الوجدان.

وصار من المألوف إطلاق مصطلح “ثقافة المشي” على هذه الممارسة الرياضية وإن كان المقصود الأصل الوعي بالفوائد الصحية الجسدية فإن الدلالات الحضارية والأبعاد الثقافية ظاهرة في أنماط المشي التي تشكل جزءًا يستدل به على المستوى الثقافي للماشي،وتبين جزءًا من الشخصية النفسية له، فأنواع المشي تتباين ما بين الجد الذي يصل لدرجة السعي بكل حمولات الكلمة من دلالات الرسالية والاجتهاد والتحرك نحو غاية سامية،وما بين التسكع بكل حمولات الكلمة من العبث والتيه والسير على غير هدى ولا هدف،وبين السعي والتسكع تتفاوت الخطوات والمنجزات،وتأخذ الأقلام درجتها في ممشى الكتابة الطويل.