“المنطق” هو العلم الموضوع لدراسة اللفظ ودلالاته والعلاقة بينها. واللفظ عند المناطقة إما مفرد كزيد، أو مركب كقلمُ زيدٍ. والمفرد إما كلي وإما جزئي. الجزئي: ما يمنع تصور مفهومِه من وقوع الشِركة فيه، “لا يصدق إلا على معين”، كبعلبك والإنجيل والقرآن والإسلام. والكلي: ما لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه “لا يصدق على معين” كعالِم، وسيارة، وكتاب. ولفظَا “الثقافة” و”الدين” مفردٌ لا مركب، ومفهومهما كلي لا جزئي. إذ تصدق “ثقافة” أو “عُرف” على الثقافة اليونانية والعربية والإفريقية. وتصدق كلمة “دين” على البوذية والهندوسية وغيرها.

يضاف إلى هذا أن العلاقة بين الكُليات: “لفظين كلِّيَيْن” في علم المنطق إما:

  1. اختلاف تام وتباين، مثل: كتاب ودولة، فمهوم الدولة لا كمفهوم الكتاب.
  2. وإما ترادف وتساوٍ، مثل إنسان وبشر، ومثل ضاحك وناطق.
  3. وإما عموم وخصوص مطلق، مثل الفقيه والعالم فكل فقيه عالم وليس كل عالم فقيه، ومثل الذهب والمعدن.
  4. أو عموم وخصوص وجهي، مثل الأسوَد والحيوان، والطير الأبيض.

ما العلاقة بين الثقافة والدين؟

الدين هو “أكبر إيمانٍ في حياة الإنسان وما يترتب على ذلك الإيمان من عمل وسلوك”. ويُقصد بأكبر إيمان الإيمانُ الذي يفسر سرّ الوجود “الإنسان والكون والحياة”، وما يأتي جوابا لـ “من أنا، ولماذا خُلقتُ وما المصير؟” والذي يجاب عنه في الإسلام بأني عبد الله، خلقني للعبادة والاستخلاف، والجنة أو النار المصير. حيث يتولّد من “أكبر إيمان” النظرة التقديسية. ويقصد بما يترتب على ذلك الإيمان من عمل العبادات بأنواعها والأخلاق والسلوكيات. يدل على أن الدين إيمان وعمل أولاً قوله تعالى: ﴿‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَعَمِلُوا ‌الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 82]. وثانياً حديث جبريل الطويل المشهور. وثالثا واقع كل الأديان.

الربانية والإنسانية من خصائص الدين

هناك ثنائية النظرة إلى الدين، إذ أصله وحي لكن يطبقه الإنسان في حياته، فهُما وجهان لعملة واحدة. يُعرَف الجانب الإلهي في الدين بــ “الربانية”، وهو الأصل، ويسمى الجانب البشري بــ “الإنسانية” وإن كانت الأخيرة مزيجة بين الإنسانية والربانية. فكأني أقول الدين وحي والدين ثقافة؛ وحي بانطلاقه من تعاليم إلهية سامية، وثقافة في تبنيها الكثير من طرائق الناس في الحياة وإن لم يأت في ذلك وحيٌ؛ بشرط عدم تضاربه مع النص. يصح هذا الكلام على الأقل في الأديان السماوية إن لم نرد التعميم على جميع الأديان.

مفهوم الثقافة

ما يفهمه الناس اليوم من كلمة “الثقافة” ليس ما كانت العرب تستخدم الكلمة له، فهي في العربية قديما دالة على الذكاء والفطانة وعلى الظفر والتمكّن من الشيء، بينما هي الآن تعني العادات والتقاليد والأعراف والعلوم المتصلة بذلك، والحضارة المنبثقة منها، أي طرائق الناس في الحياة بجميع أبعادها. فقد يكون من عادة الناس لبس إزار ورداء، أو بنطلون وقميص، والعادة هي التي تحدد السفر بالخيول والجمال أو السيارات والطائرات، والعادة هي الضابط في الزواج في سن مبكر أو لا.

لكن يا ترى ما الذي يغلّب إذا امتزج الدين بالثقافة أو الثقافة بالدين؛ يعني هل الضرب للتربية عادة أم دين، وهل دفع المهر دفعة واحدة أم تقسيمها إلى مقدم ومؤخر عادة أم دين، وهل العادة اليوم في الأغلب بتعدد الزوجات أو الاقتصار على واحدة، وهل الثقافة بالدين اليوم ممتدة أم قصيرة، وهل أسلوب الحياة تتغير بالعادة والعلم أم بالدين، وهل الأكل جماعة أو فرادى عادة أم دين؟

كل دين ثقافةٌ وليس كل ثقافة دينا

أو بالأحرى ” الممارسات الدينية عادة وثقافة”. اتباع التعاليم الدينية لإصلاح حال الناس ولإسعادهم، والعكوف على ممارستها وتكرارها في حياة الناس؛ يجعله مستحقا لإطلاق لفظ “ثقافة” و”عادة”، فيكون الدين ثقافةً متبعةً يعرف به المتدين فرداً وجماعة. وهذا لا يعني هيمنة الثفافة على الدين، ولا أن الثقافة هي الأصل، بل بيانٌ أن ما يعرف به الفرد ويمتاز به المجتمع بحكم تكراره هو الثقافة، سواء كان الدين أصله أم الخبرة البشرية والتراكم التاريخي، فالأذان والصلوات الخمس والتراويح والعيدين والجمعة ولباس المرأة المسلمة وغيرها من الثقافة، وكذا الصليب والقلنسوة اليهودية والجبة البوذية الجمراء إلخ.. مصطلح الأديان للثقافة هو الحُرمات، والشعائر والطقوس، وهي من أهم عناصر الدين.

وعليه، يصح نسبة الثقافة إلى دين معين أو عرق ما، فيقال الثقافة الإسلامية والثقافة النصرانية، والثقافة الإفريقية والثقافة الإغريقية. ومن هنا يُفهم تعريف القواميس العربية قديما الدينَ لغةً بأنه العادة والشأن، رغم أن الأصل في الدين هو الإيمان، ويصير العمل معه عادة وشأناً بحكم هذا الإيمان الموجب لتكرار العمل. إذ السلوك دوما منبثق من التصور ومبني عليه. إن صحّ هذا الكلام فالتعبير العلمي المنطقي للعلاقة بينهما هو: “بينهما عموم وخصوص مطلق” فكل دين ثقافة وليس كل ثقافة دين. ولعل هذا هو الأصل في تحديد علاقة الدين بالثقافة وفق المفهوم السابق ذكره.

العلاقة بين الإسلام والدين وبين الإسلام والثقافة

من الجدير لفت النظر إلى أن ما مضى بيانٌ للعلاقة بين كلّيين: “الدين والثقافة”. أما لو نظرنا إلى الإسلام وهو مفرد وجزئي، وإلى الثقافة أو الدين (كلاهما مفرد وكلي)، فالعلاقة هي علاقة عموم وخصوص مطلق أيضا. وذلك أن العلاقة بين الجزئي والكلي وفق ما يقرر علم المنطق يكون إما:

  1. تباين: مثل بغداد والإنسان، ومثل قلم وحيوان.
  2. عموم وخصوص مطلق: مثل الإسلام والدين، الإسلام والثقافة.

الإسلام جزئي لا كلي لأن مفهومه الاصطلاحي ينطبق على التعاليم الإلهية التي نزلت على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، دون غيره. والدين ينطبق على كل ما هو تصوّر وعمل، والثقافة تطلق على كل ما هو عادة وهوية وتقاليد: المدنية منها أو الدينية أو التاريخية المتراكمة. فكل إسلام دين، وليس كل دين إسلام. وكل إسلام ثقافة، وليس كل ثقافة إسلام.

أخيرا علاقة لفظ الدين الكلي بمصطلح الثقافة الكلي هو العموم والخصوص المطلق، وعلاقة مصطلح الإسلامي الجزئي بلفظ الدين الكلي أو بمصطلح الثقافة الكلي هو علاقة عموم وخصوص مطلق كذلك بناء على التعاريف السابقة لهذه المفردات الثلاثة. إلا أن من العجيب أن يرى بعض الباحثين ترادفاً بين الدين والثقافة. فيكون الدين ثقافة، وتكون الثقافة دين. فيقال الدين الإسلامي أو ديانة الإسلام بمعنى الثقافة الإسلامية، والدين البوذي أي الثقافة البوذية إلخ..

من هؤلاء الباحثين كليفورد غيرتز Clifford Geertz (1926 – 2006)، في كتابه the Interpretation of Cultures أو تفسير الثقافات، وكذا ويلفريد كانتويل سميث Wilfred Cantwell Smith ( 1916-2000) في كتابه The meaning and End of Religion.

ولعله لا إشكال في تفسير الدين بالثقافة من باب الترادف، إذا تم التخريج بــ:

  1. إطلاق الجزء على الكل، فبعض الدين ثقافة –عرف-.
  2. بممارسة المتدين الدائمة للدين يجعله عادة وثقافة تتكرّر.
  3. القواميس العربية أعطت الدين معاني الثقافة: العادة والشأن.