أولا: النص القرآني والتأسيس للتنوع العلمي
النص الإسلامي كأساس للبحث النفسي
من الموضوعية القول بأن تأسيس مناهج البحث النفسي عند المسلمين قد اعتمد ابتداء وغاية على معطيات النص الإسلامي، والمتضمن للقرآن الكريم كلام الله، والحديث الشريف كلام نبيه ﷺ . وبموازاة مع المعطى النصي فقد كان يوجد المعطى الواقعي الذي مثله الشخص النبوي في حد ذاته، وآثاره على صحابته في مجال الوجدان والسلوك،نظرا لما تضمنه شخصه الكريم في صورته الباطنية والظاهرية من دلالات وإشارات وأنوار استكشافية قد تضرب في أعماق النفس البشرية بكل أبعادها وحدودها، بظواهرها وبواطنها، بأعراضها وجوهرها.
الاستدلال بالشخص النبوي
إذ أن الاستدلال بالشخص النبوي كأصل لمناهج البحث النفسي عند المسلمين، قد يفيد من حيث التحقيق معنى علميا أساسيا في الدراسات النفسية،وهو الجانب العملي أو الميداني كما قد يتجلى لنا نموذجه التطبيقي من خلال حنظلة،الذي يمثل تأسيسا علميا في فقراته لمنهج البحث النفسي بكل عناصره الموضوعية والفاعلية، ذات الميزة التأثيرية والتحويلية الدالة على حركية المبحث النفسي عند المسلمين، وأنه ليس مجرد نظر أو فلسفة تجريدية صورية فقط،وإنما هي تجريدية حركية ومحركة، لأنها ذات أساس عقدي بالدرجة الأولى.كما أنها ليست ذات طابع ميداني عابر وعفوي،وإنما قد تعتمد على الميدانية المستمرة والممارسة المتكاملة للملاحظة الداخلية والخارجية.
التطبيق الميداني
بالإضافة إلى هذا، فالممارسة قد كانت تهم الإنسان في واقعه النفسي من حيث هو إنسان، وليس في صورة حيوان يخضع لتجارب الأفعال المنعكسة،أو لمنطق الكبت والاندفاع الغريزي غير المضبوط، أو بلغة مجملة قد يتفاعل مع المادة بأعراضه وجواهره تفاعل ضرورة لا افتعال، كما يطرحه أغلب الماديين من الباحثين في المجال النفسي حديثا.
عصر ما قبل التدوين
ولئن كان المسلمون الأوائل قد مارسوا البحث النفسي الفعال في بداية التاريخ الإسلامي تمثيلا جماعيا وعمليا تطبيقيا وذوقيا، بكل ما تحمله كلمة تطبيق من معنى و لقرب عهدهم بالمطبق الأول للتربية والعلاجات النفسية في الإسلام الذي هو رسول الله ﷺ، فإن الأجيال التي ستأتي فيما بعد ستعرف نقصا ملحوظا في هذا الإدراك، كما سبقت الإشارة إليه في النص الحديثي الدال على ذلك.
هذا النقص يمكن إرجاعه إلى عدة أسباب، على رأسها التوسع العمراني والتهافت على المغريات المادية وما يطبع المدنية من انشغالات بالظواهر والمظاهر الحسية والتأنق الخارجي وما إلى ذلك .
فالملاحظ على الجيل الأول أنه بالرغم من عمق الوعي النفسي لديه لم يكن ذا تأليف ملحوظ في المجال النفسي، بل في شتى المجالات العلمية،وهذا ما يعرف بعصر ما قبل التدوين .
وحينما بدأ التدوين فقد كان تدوينا للنص الديني في صورته الحديثية وتفسير ألفاظه ومعانيه القرآنية.فكانت الحياة الإسلامية كلها ليست سوى التفسير القرآني كما يقول علي سامي النشار: “فمن النظر في قوانين القرآن العملية نشأ الفقه،ومن النظر فيه ككتاب يضع الميتافيزيقا نشأ الكلام، ومن النظر فيه ككتاب أخروي نشأ الزهد والتصوف والأخلاق، ومن النظر فيه ككتاب الحكم نشأ علم السياسة، ومن النظر فيه كلغة إلهية نشأت علوم اللغة …وتطور العلوم الإسلامية جميعا، إنما ينبغي أن يبحث في هذا النطاق. في النطاق القرآني نشأت ، وفيه نضجت وترعرعت، وفيه تطورت وواجهت علوم أمم تؤيدها أو تنكرها في ضوئه”[1].
إذن، فلم يكن هناك سوى النص الديني والتدبر فيه. وعن هذا التدبر أخذت التآليف تبرز على الساحة الإسلامية في شتى العلوم، من فقهية وكلامية ولغوية وتاريخية …غير أن الذي سيصبح ذا علاقة وطيدة بالمسائل النفسية كدراسة مركزة ومقصودة هو ما تكفل به علماء الكلام وأهل التصوف، قد يليهم الفلاسفة المسلمون على مستويات محدودة في منهج نظري محض، وقياس قد يتسم بالتقليد لأساليب اليونان في أغلب الاستدلالات والتعبيرات .
ثانيا : الفقه الإسلامي والاعتبار النفسي في صياغة الأحكام
الفقه والجانب العملي
إذن، فالفقه بطبيعته مقصدا وغاية قد كان يهتم في الدرجة الأولى بالجانب العملي للمجتمع، وتقنين المعاملات بين أفراده.ولهذا فهو ذو طابع اجتماعي بالدرجة الأولى،يناقش فيما صدر عن الإنسان ظاهرا ومدى مطابقته لأحكام الشريعة من حيث الإباحة أو المنع والكراهة .
المراعاة النفسية
لكن وبرغم ذلك لم يغفل الجانب النفساني في السلوك الإنساني[2] وذلك عند تحديد المسؤولية الجزائية ومستوياتها،كالنظر في الأهلية ومراحلها والحجر وأسبابه،وتحديد الجنون ومراتبه لإصدار فتوى في الموضوع ، وكذا الحضانة وشروطها وما إلى ذلك مما قد تراعى فيه الحالة النفسية للمكلف وغير المكلف[3]،وبالتالي مراعاة المناسبة[4] بين الحكم الفقهي والواقع النفسي للشخص موضوع الفتوى أو الحكم.
غير أن هذه المراعاة في الحقيقة لم تمثل دراسة منهجية خاصة بمعرفة النفس وتحليل ظواهرها على نطاق واسع. إذ أن الأحكام الفقهية ذات الصيغة النفسية لم تكن سوى مدعمات للفتوى الفقهية ومعللات لها. وإن كانت في بعض الأحيان قد تأخذ صورة الدراسة الممنهجة على أمل الوصول إلى نتيجة علمية في المجال النفسي،كتعليل بعض الأحكام الفقهية بالتفسيرات النفسية[5]. لكنها ستبقى في إطار الملاحظات الجزئية والخاصة بهذا المجتهد الفقيه أو ذاك.
مرحلة “سد باب الاجتهاد”
بالإضافة إلى هذا التقليص من المباحث النفسية في المجالات الفقهية بحكم طبيعة الموضوع الفقهي وتخصصه الرسمي فإن علم الفقه بدوره سيعرف تقلصا ظرفيا على مستوى مده التاريخي. مما يعني تقلص كل ما يمكن أن يكون استئناسا أو أداة ثانوية ومدعمة للفتاوى وما إليها،وذلك في فترة ما يعرف بمرحلة “سد باب الاجتهاد” .
إذ أن باب الخلاف وطرقه قد سد كما يقول ابن خلدون:”لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد،ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله من لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين،وحظروا أن يتداول تقليدهم فيه من التلاعب،ولم يبق إلا نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول، واتصال سندها بالرواية،لا محصول اليوم للفقه غير هذا، ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده…”[6]
كما أن نفس الوضع سيؤول إليه علم أصول الفقه، نظرا لوفرة التأليف في الموضوع، ولتقارب الآراء، بل الأدلة وتكرارها وصوغها للأبواب التي يتضمنها هذا العلم ، بحيث قد أصبح اللجوء إلى الاختصار[7] والتلخيص هو الميزة التي تطبع أسلوب المؤلفين فيه،وذلك بعد أن صار علم أصول الفقه مكتمل الفروع،فيه الكفاية للتوظيف كمنهج لاستنباط الأحكام.
الفقهاء والمجال النفسي
ولئن وجدنا بعض الفقهاء يبرزون قبل هذه الفترة أو بعدها،وستكون لهم مؤلفات معتبرة وخاصة بالمجال النفسي،فإن ذلك سوف لن يكون سوى إعادة تركيب أو نظم للأفكار التي وردت عن المتقدمين من الفقهاء والمتكلمين والصوفية وحتى الفلاسفة.
بالإضافة إلى هذا، فقد نجد شمولية الالتزام بمذهب من المذاهب الأربعة، وخاصة الحنابلة الذين سيبرز منهم بشكل مهم في هذا المجال بعض الفقهاء كابن تيمية وابن قيم الجوزية.
فابن تيمية سيجمع آراء من سبقه ويرد على من لم يوافقه في اتجاهه الفكري نقدا وتحليلا. وفي هذه الردود سيدرج آراءه النفسية، بل مقتبساته، وخاصة في كتابيه: “علم السلوك والتصوف” وكذلك كتاب “المنطق” و”درء تعارض العقل والنقل” الذي قد نجد فيه إعادة لعدة أفكار كان قد طرحها في الفتاوى، أو كتاب”منهاج السنة” وغيره.
وأما ابن قيم الجوزية، فسيقتفي مسلك أستاذه،غير أنه قد كان أكثر منحى تخصصيا منه، بسبب أنه قد ألف كتابا مركزا، درس فيه موضوع الروح دراسة مستفيضة ومركزة نوعا ما.
هذا الكتاب هو المعنون ب “الروح” ، والذي قد جمع فيه بين الأدلة الشرعية والآراء الفقهية والكلامية والفلسفية والصوفية، مما جعل منه مرجعا للبحث النفسي في الفكر الإسلامي بسبب إيراده لشتى الأدلة والآراء الخاصة بالروح، وأنواع النفس وطبيعتها وعلاقتها بالجسد وما إلى ذلك، في صورة استقراء وتتبع جدي لمختلف الآراء،غير أنه قد يطبعه التقليد المذهبي في أغلب الأحيان،وخاصة في الاعتماد كثيرا على آراء ابن تيمية وكذلك ابن حزم باعتباره فقيها ظاهريا من خلال ما عرضه في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل” كما سنعرض لمنهجه فيما بعد.
هذا التقليد كان قد أخذ في أغلب الأحيان طابع الاستدلال العقلي على جوهر النفس وتحديد طبيعتها.لكن التقليد في معرفة النفس على مستوى ضبط أحوالها مع إبداء بعض التحليلات الخارجية بحسب التوجه المذهبي فإنه سيبرز بصورة أكثر في كتاب ابن قيم الجوزية “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين” تعرض فيه إلى مسائل التوحيد والسلوك الروحي، كما خاض في تحليل مصطلحات ومعاني صوفية: كالفناء ودرجاته،وحقيقة المحو والإثبات، والتجريد و التفريد…
معرفة النفس
وأيضا فلقد ركز على أهم ركن من أركان الملاحظة الداخلية وهي: المحاسبة، فتعرض لأركانها ونبه على أهم قاعدة في الاستكشاف النفسي عند أهل التزكية وهي سوء الظن بالنفس، كما يقول ابن قيم الجوزية: “وأما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويلبس عليه فيرى مساوئ محاسن والعيوب كمالا… ولا يسيء الظن بالنفس إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه”.
ويستشهد كثيرا بأقوال العارفين في القضايا النفسية، كما في نقله هذا “قال بعض العارفين : كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة. فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة”[8].
فهذه المصطلحات ومعانيها كلها قد توظف في منهج معرفة النفس لدى أصحاب مدرسة التزكية، ولهذا فإننا سوف لا ندرج آراء ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية عند عرض البحث في طرق ضبط النفس واستكشاف أحوالها وسلوكها اكتفاء بآراء المدرسة.