تخيّل معي هذا المشهد: سيارةٌ غرزت عجلاتها في رمال الصحراء. لم يكد السائق يترجل منها حتى بدأ رجالٌ يظهرون من كل حدبٍ وصوب. بهمة رجلٍ واحد، دفعوا السيارة إلى بر الأمان. لم يسألوا عن اسم، ولم ينتظروا شكرًا. انتهت المهمة في دقائق، وعاد كلٌ إلى طريقه.
هذه هي “الفزعة”؛ ذلك الاندفاع التلقائي النبيل. إنها الشفرة الوراثية لمجتمعنا، التي تترجم مبادئ “التكافل” إلى فعلٍ فوري. ينظر البعض إلى هذه الظواهر باعتبارها مجرد سلوكيات تقليدية، لكنها في الحقيقة شكلٌ متجذرٌ وعميقٌ من “رأس المال الاجتماعي”؛ أي شبكة الثقة والقيم المشتركة التي تمكّن المجتمع من حل مشاكله. إنه محرك التنمية الحقيقي، الكامن تحت السطح.
رأس المال الاجتماعي: بلغةٍ نفهمها
تزخر ثقافتنا بممارساتٍ تؤدي نفس الغرض الذي تتحدث عنه النظريات الحديثة. فـ “المجالس” و”الديوانيات” هي مصانع طبيعية للثقة، و”صلاة الجماعة” ولقاءات “الفريج” (الحي) تجمع القلوب وتوحد الصفوف بشكلٍ يومي.
الوجه الآخر للعملة: الجَمْعْة وتكافل النساء: وكما أن للرجال “مجالسهم” و”فزعاتهم”، فإن للنساء شبكاتهن الاجتماعية القوية التي لا تقل أهمية. لقاءات الجارات الصباحية أو المسائية (ما يعرف بـ”الجمعة”)، وشبكات الدعم الفوري التي تنشأ في مناسبات الولادة أو المرض أو العزاء، هي شكل آخر عظيم من أشكال رأس المال الاجتماعي. إنها “مصانع الثقة” النسائية التي تحفظ تماسك الأسر وتتناقل الخبرات التربوية والصحية. إن إغفال هذا الدور هو بمثابة النظر إلى المجتمع بعين واحدة، فرأس المال الاجتماعي نسيج يغزله المجتمع كله، رجالاً ونساءً.
قوة العفوية ومخاطرها
لهذه الآليات الثقافية قوة هائلة تكمن في عفويتها (السرعة، الثقة، المعرفة المحلية)، ولكن هذا هو مكمن ضعفها أيضًا إذا تُركت على حالها (غياب الاستدامة، احتمالية عدم الإنصاف، محدودية النطاق). التحدي هو أن نطورها لنحافظ على روحها، ونضيف إليها عنصر الاستدامة والشمولية.
من الفزعة إلى المؤسسة: هيكلة الروح بثوب العصر
إن الانتقال المطلوب هو “هيكلة الروح”؛ أي وضع أطرٍ مرنة تسمح لهذه الطاقة بالتدفق بشكل منظم ومستدام، مع الاستفادة من أدوات العصر:
صندوق الحي التكافلي ← “محفظة الحي الرقمية”:
بدلًا من جمع التبرعات العشوائية، يمكن تأسيس صندوق شفاف. واليوم، يمكننا أن نلبس هذه الفكرة ثوب العصر عبر تطبيق بسيط يتيح المساهمة بضغطة زر، ويعرض “لوحة مؤشرات” حية للمصاريف والمشاريع المنجزة، جامعًا بين روح التكافل وسهولة التقنية المالية (FinTech).
بنك المهارات المجتمعي ← “منصة فزعة المهارات”:
المجتمع يمتلك عقولًا وخبرات. يمكننا تطوير هذه الفكرة من مجرد قائمة إلى “منصة فزعة المهارات” (Skill-Faza’a Platform)، وهي أشبه بشبكة “LinkedIn” مصغرة للحي، حيث يعرض كل شخص مهارته التي يتطوع بها، مما يحول المهارات الكامنة إلى شبكة تفاعلية حية ومنظمة.
تطوير دور المجلس ← “المجلس الممتد”:
المجلس هو البرلمان الطبيعي لمجتمعنا. يمكن تطوير دوره ليشمل تخصيص وقت لمناقشة “شأن الحي”. ولضمان استمرارية الحوار، يمكن إنشاء “مجلس ممتد” (Hybrid Majlis) عبر مجموعة تواصل خاصة لأعضائه، تسمح بمتابعة المبادرات، والتصويت السريع على القرارات، ومشاركة المستجدات خارج حدود اللقاء الأسبوعي.
من إطفاء الحرائق إلى تعبيد الطرق
إن أعظم ثروة تمتلكها مجتمعاتنا هي نسيج علاقاتنا وقوة قيمنا. والتحدي هو أن نرى ثقافتنا “كمحرك” للتنمية لا مجرد “زخرفة” لها.
إن الهدف النهائي من “هيكلة الروح” هو الانتقال من “ثقافة رد الفعل” (الفزعة الطارئة) إلى “ثقافة الفعل الاستباقي” (الوقاية والتنمية). فأسمى غاية لتطوير فزعتنا وتكافلنا ليس فقط أن نصبح أسرع في إغاثة من يسقط، بل أن نبني مجتمعًا قويًا يمنع الناس من السقوط أصلًا. أن ننتقل من فزعة إخراج السيارة من الرمل، إلى فزعة تعبيد الطريق لمن سيأتي بعدنا.