لا يطلق كثير من المتخصصين على الأحكام الشرعية زمن الرسول ﷺ مصطلح ( الفقه) ، بل يطلقون عليه ( زمن التشريع)، وذلك راجع لعدة أسباب، من أهمها:
- الأول: أن النبي ﷺ كان هو من يتولى كل المسؤوليات الدينية، من الحكم والقضاء والإفتاء والتشريع.
- الثاني: أن مساحة الاجتهاد في زمن النبي ﷺ كانت قليلة؛ لأن الغالب أن الأحكام فيه كانت مبنية على الوحي، وإن لم يمنع ذلك من اجتهاد النبي ﷺ في كثير من الوقائع، والفقه في تعريفه يرجع إلى معرفة الحكم الشرعي عن طريق الاجتهاد.
- الثالث: أن غالب الأحكام الفقهية كانت ترجع إلى الكتاب والسنة، وأن مصادر الاجتهاد في المرحلة كانت قليلة، حسب رأي العلماء، وإن رصدت أدلة للاجتهاد في ذلك الزمن، لكنها لم تظهر بالصبغة التي انتهى إليها الدرس الأصولي.
ولم يفارق النبي ﷺ الحياة حتى قد تم التشريع وكمل الدين، كما قال الله تعالى: {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
الثروة الاجتهادية زمن الرسول
وقد توفي النبي ﷺ، وقد ترك لنا المصدرين الرئيسين في الاجتهاد والتشريع والتربية وغيرها، وهما القرآن الكريم كلام الله تعالى، وسنته ﷺ، التي تعد تفسيرا للقرآن بوجه عام، وشارحة له، مبينة لمبهمه، فالسنة من وجه، هي وحي كالقرآن، ومن وجه آخر هي خادمة للقرآن الكريم.
كما أن النبي ﷺ ترك لنا ثروة هائلة من الأحاديث النبوية، يستفاد منها في مجال الاجتهاد الفقهي ومعرفة الحلال والحرام.
فعن أبي زرعة – – أنه قيل له: ” أليس يقال: حديث النبي – ﷺ – أربعة آلاف حديث؟ ” قال: ” ومن قال ذا؟ قلقل الله أنيابه! هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله – ﷺ -، قبض رسول الله – ﷺ – عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة، ممن روى عنه وسمع منه، وفي رواية: ممن رآه وسمع منه “، فقيل له: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه؟ قال: ” أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كل رآه وسمع منه بعرفة “. مقدمة ابن الصلاح = معرفة أنواع علوم الحديث – ت عتر (ص: 298).
وقد نقل عن البخاري قوله: حفظت من الصحاح مائة ألف حديث، ومن غير الصحاح مائتي ألف.
ولا شك أن هذه المحصلة الكبيرة من الأحاديث النبوية تعين الفقيه المجتهد على استنباط الأحكام الفقهية من تلك الأحاديث التي تعد بالآلاف.
التصرفات النبوية
كما ظهر في هذا العصر ثروة هائلة من تصرفات الرسول ﷺ وأفعاله، وقد تناولها الأصوليون قديما وحديثا، وأطلق عليها البعض حديثا اسم (السنة التشريعية والسنة غير التشريعية)، وقد تناول هذا المبحث عدد من الأصوليين، كالعز ابن عبد السلام وتلميذه القرافي، وممن توسع فيها من المعاصرين الطاهر ابن عاشور – رحمه الله-، وكتبت فيها كتابات عديدة ورسائل جامعية وبحوث محكمة.
ولاشك أن الحديث عن أفعال الرسول ﷺ وتصنيفاتها المتعددة، أو السنة التشريعية وغير التشريعية فتح آفاقا كبيرة في مجال الاجتهاد الفقهي في المسائل زمن الرسول ﷺ، بل وفي زماننا، من حيث الاستفادة منها باعتبارها جزءا من منهج الاجتهاد.
اجتهاد الرسول
ولعل من أغرب القضايا – في رأيي- والتي ناقشها الأصوليون عن زمن الرسول ﷺ، مسألة: هل وقع الاجتهاد من الرسول أم لا؟ وهل الرسول مجتهد أم لا؟
وبعيدا عن خلافاتهم ممن يثبت له الاجتهاد، أو ينفيه عنه، أرى أن الخلاف فيه لفظي لا ينبني عليه عمل، فمن رأى أن النبي ﷺ يباشر الجواب عن السؤال؛ أثبت له الاجتهاد، ومن رأى أنه مؤيد بالوحي؛ نفى عنه الاجتهاد، وهو خطأ.
وعلى كل، فالذي يترسخ عندي أن النبي ﷺ هو رأس الاجتهاد في هذه الأمة، كيف وقد أقر الفقهاء والعلماء أن تلامذته من الصحابة منهم من كان مجتهدا، وقد كان النبي ﷺ يدرب الصحابة على الاجتهاد، فكيف يكون الطلاب مجتهدين، والذي علمهم الاجتهاد غير مجتهد؟!
قواعد الاجتهاد في العصر النبوي
كما ظهرت في العصر النبوي عدد من الأصول والقواعد التي تتعلق بالاجتهاد، مثل العمل بالمصالح، والتيسير ورفع المشقة، ومن سمات هذا العصر التدرج في التشريع، كما امتاز هذا العصر بالنسخ، فلا نسخ بعد رسول الله ﷺ، كما امتاز بقلة التكاليف الشرعية، خاصة مع النهي عن كثرة السؤال، وتورع الصحابة وخجلهم من رسول الله ﷺ أن يسألوه كثيرا، وكذلك مراعاة الواقع.
بل أزعم أن كل أدلة الاجتهاد الرئيسة كانت موجودة في العصر النبوي، باستثناء الإجماع، لأنه لا إجماع مع وجود النبي ﷺ، فهو المجتهد الأول للأمة، ولم يكن بحاجة إلى استشارة الصحابة، وإنما كان يستشيرهم حتى يعلمهم الشورى، وعليه يحمل الجمع بين الآيتين، قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقوله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
فالقياس ثبت أن النبي ﷺ استعمله، وكذلك المصالح، والاستحسان، حتى قيل في أنواعه: استحسان بالقرآن، واستحسان بالسنة، وكذلك الاستصحاب، وسد الذرائع، بل إن قول الصحابي، قد وجد في العصر النبوي، حين كان يسارع الصحابة بالاجتهاد، بقول أو فعل، ثم يقرهم النبي ﷺ أو يبين لهم الخطأ في الاجتهاد، كما في فعل عمرو بن العاص – رضي الله عنه- حين صلى وهو جنب، فعن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي – ﷺ-، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29] فضحك رسول الله – ﷺ-، ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود.
وكإقراره على موقف سلمان الفارسي عن أبي الدرداء رضي الله عنهما، فعن أبي جحيفة – رضي الله عنه – قال: آخى النبي – ﷺ – بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، [ص:315] فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال له: كل، فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال: سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي – ﷺ -، فذكر ذلك له، فقال النبي – ﷺ -: «صدق سلمان» أخرجه البخاري والترمذي.
ولم يكن النبي ﷺ ينتظر الوحي في كل ما يسأل عنه، فإن كان عنده علم به أجاب فورا، فإن لم ينزل وحي، فهو تأييد لجواب النبي ﷺ واجتهاده، أو ينزل الوحي يصوب له، كما في أخذ الفداء من الأسرى في غزوة بدر.، وتحريم شجر مكة ثم الرجوع عن ذلك، والاستغفار المشركين حتى نزل القرآن ينهاه. وقوله للمرأة الخثعمية:” أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أما كان يقبل منك؟”. قالت: نعم. قال:” فدين الله أحق”. وقوله لعمر حين سأل عن القبلة:” أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟” وغير ذلك كثير.
والحق عندي أن زمن التشريع هو زمن التأسيس للاجتهاد، وكان أرقى العصور اجتهادا.