الفنون وسيلة الشعوب للتعبير عن آمالها وطموحاتها، أفراحها وأتراحها، وهي تصوير الفنان لانعكاسات الحياة بتوتراتها ونجاحاتها في وجدانه، وهي ميدان من ميادين الاستخلاف والتعمير، بما هي مواهب ممنوحة من الله عز وجل، وفطرة مركوزة في النفس تنفعل بها أداء واستمتاعا، تحقق إنسانيتها وتسمو بأذواقها وتهفو بها إلى عوالم تسمو فيها النفس وتشف الروح، فكيف تقوم نهضة أو ترقى فكرة أو يسعد مجتمع دون أن يكون للفنون حظ الأولوية في اهتمامه ونصيب الأسد في ثقافته وحضارته!.
لتركبوها..وزينة
وتقوم فلسفة الإسلام في الفن على ازدواجية بديعة بين القيمة المادية والأدبية، بين الفائدة والمتعة، فالزخارف الرائعة والقباب البديعة والمآذن المرتفعة والبوابات الفخمة والسيوف والدروع المزينة كانت تؤدي أدوارا مزدوجة حين ترفع من حس المسلم الجمالي وترفع معنوياته بالإحساس بالانتماء لأمة عظيمة مهابة الجانب، وفي ذات الوقت تعد العدة لمقتضيات الدفاع عن العقيدة والبيضة.
وظل الخط العربي الجميل بتنوع تشكله وإيحاءاته المختلفة انعكاسا لهذا الفن، بل إن التجربة الإسلامية حرصت على المزاوجة بين القيمة الفنية والنفع الحضاري لمنتجها الجمالي، نجد ذلك في فنون النجارة الإسلامية والحدادة والعمل في حلي الزينة ذهبا وفضة وغيرها من المستعملات والأدوات.
فن ملتزم
الفنان المسلم ملتزم بالمرجعية الإسلامية، وأساسها الصدور في تصوراته للكون والإنسان والحياة عن العقيدة الإسلامية، ومن ثم يبدأ الفنان في التفاعل مع الكون وجماله والحياة وعبرها وتحدياتها، من خلال هذه الرؤية التي لا ينبغي النظر إليها باعتبارها قيدا، بل هي أساس ومرجعية وانتماء، ثم لا عليه بعد ذلك أن ينفتح على الحياة ويتوسل لذلك بالرمزيات والجماليات والتعبير المنتظم المحكم شعرا ونثرا ولحنا وإيحاء وتصويرا.
ومن مقتضيات الإلتزام في المفهوم الإسلامي تحقيق “الطاعة”، وهي انضباط بالضوابط الشرعية والتزام بالنصوص، ونفور من المحظورات، إنها تفاعل في وجدان المسلم بين مقتضيات الطاعة ومطلب الإبداع تماما كما أبدع المسلمون نفائس مبهرة في التشكيل والتصوير الفني في نقوش العمارة الإسلامية ونمنمات النمارق والصحون حين ابتعدوا عن التجسيم الآدمي، فكانت الرسوم والتشكيلات التي أبدعوها تأسيسا للفن التشكيلي الذي يحتفي به العالم اليوم.
رسالية الفنون
والفن الإسلامي له غاية ودور في الحياة أسمى من مجرد التسلية وتزجية الأوقات، فلا وقت في حياة الإنسان للعبث، ولا مكان في حياة المجتمعات الجادة للترفه المطلق، صحيح أن الجد ينبغي ألا ينقلب إلى يبوسة تغتال البسمة في نفوس الناس أو تحرمهم الترفيه البريء، لكن ذلك ينبغي أن يكون أحد أدوار هذا الفن من بعد خدمة الحق والخير والجمال، وخدمة القيم ونشر المثل العليا، وإشاعة القيم الرائعة وخدمة الدعوة إلى الله تعالى، ومن ثم سقطت مقولة الفن للفن، أو قل استغلال الفن كوظيفة للإلهاء وسوق الناس في حالة خدر وسدور، ليس الفن إذن ترفيهاً بحتا، وهو يحمل أقصى معاني الجدية، لكنه أيضاً يحمل الراحة للإنسان والتصالح مع ذاته (بعد فردي) وفهمها للتصالح مع التعاليم الإسلامية والدفاع عنها (الجماعية).
إنه لا غنى للمجتمعات التي تريد أن تحافظ على روحها واستقلالها المادي والأدبي من مواجهة النموذج الذي يقدمه المتغلبون حضاريا اليوم للفنون، والذي يمتاز بانفلاته من الضوابط الأخلاقية وقيامه على الخلاعة والخنا، مما أفسد الأذواق ودمر المجتمعات وأشاع الانحراف والفوضى والفسوق.
هذا الالتزام وتلك الرسالية لا تعنيان أبدا أن الفن الإسلامي عمل وعظي، بل إن الفن إذا سقط في المباشرة والنمطية فقد أهم ميزة له وهي الخيال والرمزية والإبداع والإمتاع، وإن من تحديات الفن الإسلامي اليوم إثبات وجوده في عالم بات الفن فيه يخاطب الغرائز البشرية متوسلا بالإثارة والتشويق والكذب والتزوير.
وقد ورثت مجتمعاتنا فنونا جميلة شملت نواحي كثيرة، و قد ألِفها الذوق الجمعي، وهذه الفنون الشعبية هي رمز ثقافة، ومرجعية أمة، وتأكيد على الهوية ومحافظة على الذات الحضارية وتميز وتحقيق للاكتفاء، واحتفاء بالبساطة، وترسيخ للثقافة الخصوصية واللون الحضاري بعيدا عن التسول الثقافي والقيمي.
وإذا كانت علاقة الإسلام بالفن قد أثارت الكثير من النقاش، إلا أنه يمكن القول إنه لا وجود لخصومة بنيوية بين هذه الأشكال وبين الإسلام، ومن المفارقات أن السعي لترسيخ الخصام بين الدين والفن تم رغم أن مجال الاثنين متقارب ومتعلقهما هو الوجدان والشعور، وإن بدرجات متفاوتة، وكما أن “الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح” فإن التمثيل والسماع حسنهما حسن وقبيحهما قبيح، لكن هذا لا يعني أن نمطا معينا لممارسة هذه الأشكال هو التعبير الوحيد الممكن لها، فضلا عن أن يكون هو السليم.
إن كل الأشكال والأساليب الفنية مقبولة ما التزمت المقاصد الشرعية الكبرى، ولم تتعارض مع الضوابط الشرعية المأخوذة من أدلة شرعية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، واحترمت قواعد الأخلاق والأدب.