بينما كنت غارقا في أعماق كتاب (تاج العروس) للزبيدي، رن هاتفي وجاءني صوت أحد الزملاء: أين أنت؟ فأجبته: في المقبرة. لم يفهم محدثي ما قصدته، ولا يستطيع في الواقع أن يفهمه، إذ كنت أحيله على مقال قرأته قبل أيام للكاتب الهولندي سيس نوتيبوم عنوانه: “القاموس باعتباره مقبرة”.
يذهب الكاتب الهولندي نوتيبوم في مقاله المثير إلى عقد مقارنة بين المقابر والقواميس لدرجة أنه يرى أن القادم من قراءة قاموس قديم يرجع للواقع بشعور من يدخل بلدا أجنبيا، وكما نلتقي في المقبرة برفات يعود لآلاف السنين مثلا، أو نرى شارة ضريح لإنسان لم يعد إيقاع اسمه مستخدما اليوم، نلتقي في القواميس بكلمات نسمعها لأول مرة وأسماء آلات لم تعد مستعملة وأحيانا مهنها اختفت معها، كما نلتقي باستعمالات كان استخدامها يدل على أناقة صاحبها وتحضر أسلوبه، لكنها في نظرنا اليوم جافة ومتخلفة.
لكن إذا استصحبنا وصف نوتيبوم القاسي للقواميس بأنها مقابر فإننا يمكن أن نستجلي الأبعاد الإيجابية لدراسة المقابر باعتبارها جزء ذاتنا الذي انفصلنا عنه أو انفصل عنا لدواع اجتماعية وانثروبولوجية، لكنه ما يزال يؤثر في جزءنا الحي المتحرك، فالمقابر هي جذورنا المتصلة بالفروع الحية، وبدون الجذور تفقد الفروع نقطة البدء التي هي طرف المعادلة الذي يؤشر إلى الأمام.
تصور مثلا أننا لا نعرف شيئا عن الذين ماتوا عبر القرون المتطاولة، وأن كل آثارهم المادية والمعنوية ذهبت معهم، وبدأ خلق جديد مبتور الذاكرة، بلا مقابر، أي معنى ضئيل سيبقى لحياتنا، لا شك أن الحياة ستكون بائسة جدا، فالتاريخ الذي نستدل منه للحاضر ونجعله إحدى عجلات سيرنا نحو المستقبل هو مقابر قابعة في الأرض أو في الذهن أو بين دفات الكتب.
إنما يستشعر قبورية القواميس (بالمعنى السلبي للقبر) من ينظر إلى التاريخ باعتباره أجزاء لا مترابطة، أما من ينظر إليه باعتباره سلسلة حلقات تشكل في امتدادها العمودي مدى التطور الحاصل والتطور المنظور، كما تتشكل في تشابكها الأفقي سلسلة بؤر التكثيف على مختلف المستويات التي تهم الإنسان، القواميس بهذا الاعتبار هي التاريخ البشري في مادته الخام، ما يقوم به المؤرخ هو صياغة بعض تلك المادة الخام في سبيكة منطقية نسميها التاريخ الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو النفسي أو الجغرافي لأمة ما في مرحلة زمنية محددة، القواميس إذن هي إرشيف حياتنا قبل أن يصاغ في مقالة تاريخية، فهل يمكن إذن أن نستغني عن التاريخ؟
الأمر الذي لا يفهمه كثير منا هو أن المعاجم ليست كتب لغة بالمعنى السطحي للغة، بل هي أكبر من ذلك، ربما كان الخليل يقصد من وراء تسمية معجمه بـ”العين” دلالات أوسع من مجرد الإحالة على أول حرف بدأ به، إذ المعاجم هي عيننا الباصرة والفاحصة للماضي والحاضر والمستقبل، وربما كان ابن منظور واعيا بدلالة عدوله عن التسميات التي سبقته حينما عنون موسوعته الجامعة بـ”لسان العرب”.
حينما نأخذ أي مادة معجمية من كتاب (العين) باعتباره أول معجم عربي بل أول معجم لغة في العالم يخضع لذلك الترتيب الرياضي الذي ابتدعه الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت170هـ)، سنجد أن تلك المادة تحدثنا عن أمور كثيرة، اللغة السائدة في فترة معينة، العادات المسيطرة على المجتمع من خلال مسمياتها، الحِرَف وأدواتها، وكذا مستويات الخطاب بين النخبة والعامة إلخ.
أخذت عشوائيا مادة (عدل) في كتاب العين، وزيادة على معاني (العدل) المختلفة هناك معلومات أخرى تمكن دراستها في مجالات معرفية مختلفة، فمثلا تعريف (العِدْلان) بأنهما ” الحملان على الدّابّة، من جانبين”، له قيمة كبيرة في التاريخ لوسائل النقل المستخدمة في ذلك الزمن، وستدرك الأجيال القادمة قيمتها حينما تُطَوِّرُ التقنية وسائل النقل إلى مستويات أبعد بكثير مما نراه الآن، ويتقادم عهد البشرية مع الدواب كوسائل نقل.
ولحديثه عن معنى (العَدَوْلية)، بأنها “ضربٌ من السّفن نُسِبَ إلى موضعٍ يقال له: عَدَولاة، أُمِيتَ اسمه”، لحديثه هنا قيمة كبيرة في التأريخ لعلاقة العرب بالبحر ومدى امتداد مضاربهم إلى حيث يرون السفن ويصفونها، وإشارة إلى أسفارهم خارج الصحراء وغير ذلك من أمور يمكن استنباطها من إيراد القاموس لمثل هذه المفردات.
الحديث الذي يدور اليوم حول تاريخية المعاجم العربية وأنه ينبغي تحديثها حتى تواكب الزمن صحيح إذا فهم على وجهه الأسلم، وهو أن نفرق بين المعاجم التي تهدف إلى مواكبة التداول اللغوي وبين المعاجم التي تهدف للتأريخ الدقيق للمفردات، ومن ثم التأريخ للأمة التي توضع بلغتها، الأول ضرورة واقعية عملية يلزم التصدي لها بما يناسب من معاجم تسعف المتحدث والكاتب بالمفردات المناسبة لما يريد التعبير عنه، أما الثانية فهي مشروع حضاري يهدف إلى حفظ الأمن القومي اللغوي لأي أمة، وفي هذا السياق يندرج مشروع “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”.
لم يكن الكاتب نوتيبوم يريد بمقاله أن يلغي أهمية المعاجم، -أو هكذا فهمت- ولكنه كان يعيد الاعتبار لها بطريقة مثيرة، هذا ما يمكن الاستدلال عليه من خلال حديثه الشجي عن “أمزجة الكتب” وعن ذلك الأسى الذي يصيبها من الإهمال، وهو هنا يعني القواميس المهجورة “الكتب تحب أن تقرأ، وتشتاق إلى اليد التي تتناولها، وإلى الأصابع التي تطوي صفحاتها إذا أهملتها لمدة طويلة”.
بم يشعر رف المعاجم والقواميس في مكتباتنا العربية، ما هو مزاج تاج العروس حين تبقى مجلداته الخمسة والثلاثون يضغط أعلاها على أدناها دون أن تلمسه يد ولو من أجل أن تنفض عنه غبار الفصول الأربعة؟ وماذا سيقول الخليل حين يعلم أن معجمه (العين) الذي أفنى فيه زهرة عمره يعد اليوم أحد أموات مقبرة القواميس المهجورة!