يعد احتكار  “أسرار المهنة” صفة ملازمة لأصحاب الحرف والصناعات منذ فجر البشرية إلى يوم الناس هذا، فما تزال الدول والشركات حريصة على تأمين ما تعتبره سر تميزها الذي تتفوق به على مثيلاتها، كما تعتبر سرقة تلك المعلومات جرما قانونيا موصوفا بالاعتداء على “حقوق الملكية الفكرية” يستحق صاحبه الزجر والعقوبة.

وكانت الأنظمة السياسية تسعى لاحتكار المعرفة من أجل تثبيت أركان السلطة، لأن المعرفة عدوة الاستبداد، ولكنه مع الزمن تطورت هذه الفكرة إلى أن طالت مختلف المؤسسات التي ظلت حريصة على إبقاء أسرار عملها خارج إطار التداول، واستمر هذا الهاجس رغم ثورة المعلومات المعاصرة التي لم تبق على غامض إلا كشفته وأشاعت تداوله بين الناس، وهو هاجس وجيه من عدة نواح، لأن الفكرة هي أساس التميز فإذا عرفت الفكرة التي تقوم عليها أي مسألة فقد فقدت تلك المسألة ميزتها التنافسية.

ولعل ما يسمى بـ”حروب السايبر” هي النموذج المعاصر لفكرة احتكار المعلومة الضاربة في القدم، حيث أصبح من الأركان التي لا يستغني عنها بناء أي مؤسسة قسم خاص بالأمن المعلوماتي، سواء في ذلك المؤسسات العسكرية أو السياسية أو العلمية، بل وأصبحت للأمن المعلوماتي مؤسساته الخاصة التي تستثمر في توفير خدماته لغيرها من المؤسسات، وقانونه الخاص الذي يحدد العقوبات المترتبة على سرقة معلومات أو أفكار الآخرين واستخدامها دون إذن قانوني.

ولاحتكار أسرار المهنة أبعاد تاريخية اجتماعية حيث كانت تحافظ على النظام الطبقي الإقطاعي القائم خصوصا في الغرب الذي شاعت فيه بشكل كبير في قرونه المنصرمة، وقد نبه عبد الوهاب المسيري في كتابه “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” إلى ارتباط فكرة احتكار أسرار المهن بذلك البعد الطبقي فقال:

“وكانت كل طبقة أو فئة تضطلع بوظيفة محددة تحاول قدر استطاعتها احتكارها والإبقاء على أسرار المهنة بعدم إتاحة الفرصة للآخرين للحصول على المعلومات. ومن هنا، كان الجيتو اليهودي وغير اليهودي يؤدي وظيفة أساسية إذ كان يتيح الفرصة لأصحاب المهنة أو الفئة الواحدة أن يمارسوا حياتهم ومهنتهم بعيداً عن أعين الآخرين الذين قد يطلعون على هذه الأسرار.

وكانت الجماعة اليهودية باعتبارها جماعة وظيفية تمثل هذه الظاهرة بشكل أكثر حدة؛ فالجماعة الوظيفية يستند وجودها بأسره إلى وظيفتها وإلى أسرار المهنة، فإن عُرفت هذه الأسرار خارج نطاقها انتفى أساس وجودها نفسه. ولذاكان بعض اليهود يستبعدون الأغيار، كما كان البعض منهم يحتكرون الوظائف الاقتصادية والمالية ويحاولون بطبيعة الحال الحفاظ على هذا الاحتكار لأن في نهايته نهايتهم”

لكنه رغم ذلك فإن بعض الموهوبين ظل يدفعهم الشغف بالمعرفة إلى المخاطرة بأنفسهم من أجل الوصول لتلك الأسرار المهنية وقد شهد العصر الحديث أمثلة من ذلك، يأتي في مقدمتها أبو القنبلة الباكستانية العالم النووي عبد القدير خان الذي استطاع بذكائه وإصراره أن يتعرف على أسرار صناعة القنبلة النووية وبناء مفاعل كاهوتا وهو ما دفع ثمنه غاليا من عمره وسمعته.

وقد قام أحد أبناء القيروان في القرن الثالث الهجري بعمل مشابه، حيث استطاع بكثير من الحيلة أن يسرق أسرار مهنة الطلاء العراقي التي كان خبراؤها يحرصون على احتكارها ولا يسمحون بتسرب أي معلومة عنها، لكن هذا الرجل اللغوي استطاع بذكائه وحيلته أن يسرق تلك الأسرار ويذهب بها إلى القيروان ويشيعها هناك، فمن هو سارق الطلاء العراقي؟

ذكر الزبيدي في كتابه “طبقات النحويين واللغويين” أن إسماعيل بن يوسف اللغوي المشهور بـ”الطلاَّء” هو صاحب تلك القصة الطريفة المعبرة، واسماعيل هذا كما يقول عنه الزبيدي”كان من ذوي العلم بالعربية، وكان غاية في علم النجامة”، وكان أول من أدخل الطلاء العراقي القيروان، وتلطَّف في علمه بالعراق، وقصته كما رواها الزبيدي هي:

قال أبو بكر: أخبرني بعض القرويين قال: كان أهل العلم بصناعة الطلاء بالعراق يضِنُّون بصناعتهم، وكان إسماعيل بن يوسف قد لازمهم وخدمهم، فكانوا يُخرِجون إليه وإلى أصحابه من التلاميذ العقاقير للدّق مختلطة، فتحيَّل إسماعيلُ بن يوسف للمبيت في خِزانة العقاقير، وأعد فَرَسْطونًا صغيرًا، فبات ليلته تلك يزنُ كلَّ عقِّير هنالك، فلما كان من الغد أُخرِجت إليهم العقاقير للدّق والطّلاء، واستعملوا ذلك، ثم رجع إسماعيل بن يوسف من الليلة القابلة، فعاود وزن عقاقير الخِزانة، فعرف ما نقص كلّ عِقِّير منها، فعلم أنه المأخوذ للاستعمال في ذلك النهار، فكتب ذلك كلّه، ثم استعمله، فقامت له الصناعة.

وفي فترة متقاربة مع عصره ناضل رائد الخط العربي محمد بن مقلة (272 – 328) من أجل رفع الاحتكار عن فن الخط الذي كان الناس يعتبرونه علما وهبيا إلهيا، وبذل في سبيل ذلك يده التي قطعت عقوبة له على أشياء خطها لا ترضي الخليفة، وقد أنشأ مدرسة لتعليم الخط كي يرفع بها سلطة احتكار المعرفة التي كانت سائدة للخط في زمنه رغم معارضة السلطة الحاكمة لذلك، وأن خصومه جعلوا من عمله العلمي هذا مدخلا للوشاية به عند السلطان والزج به في غياهب السجن.