مقدمة: أهمية اللعب عند الأطفال في تنمية الإبداع
إذا شاهدت طفلك يومًا يحول صندوقًا من الورق المقوى إلى مركبة فضائية، ثم لاحظته في وقت آخر يلعب بطريقة مبتكرة ومختلفة عن أقرانه، فهذا يدل على وجود بذور الإبداع متأصلة فيه. تشير الأبحاث إلى أن العديد من الأسر والبرامج المدرسية والأنشطة الصفية تمنح وقتًا للشاشة مقدمًا على المساعي الإبداعية غير المنظمة الضرورية لنمو الطفل. إلا أن تنمية الإبداع ليست مجرد مرح ولعب، بل هي مسار حاسم في التنمية الصحية والنفسية للطفل. توضح الدراسات التربوية والنفسية أهمية اللعب في حياة الطفل، حيث يتم تطوير جزء كبير من القدرة العقلية والإبداعية خلال مرحلة الطفولة المبكرة من خلال اللعب، مما يجعله محورًا أساسيًا في العملية التعليمية في رياض الأطفال.
زراعة الإبداع عند الأطفال: طرق فعّالة لتعزيز الإبداع
وفي السطور القليلة القادمة سنتوقف عند محطّات مهمّة لزراعة الإبداع عند الأطفال، عبر طرائق عديدة يمكن تطبيقها من قبل الأهل بسهولة، منها:
1. ألعاب التظاهر واللعب الخيالي
ألعاب التظاهر، أو ألعاب التمثيل، هي من أكثر أنواع اللعب التي يجيدها الأطفال في الفناء الخلفي. يطلق الباحثون عليها “اللعب الخيالي”، حيث يبدأ الأطفال بهذا النوع من اللعب لأنه لا يحتوي على قواعد محددة سلفًا ويعتمد على التظاهر والتقليد. تُظهر الأبحاث أن الألعاب التمثيلية تساعد الأطفال على تنمية شخصياتهم وتجعلهم أكثر سعادة وتكيفًا في حياتهم المستقبلية.
2. فنون الإبداع: الرسم والموسيقى والنحت
الرسم الحر يعكس أفكار الطفل بطريقة مرسومة بكل حرية وتلقائية. عندما يستخدم الطفل فرشاة الرسم أو يعزف آلة موسيقية، فهو يعبر عن نفسه بطريقة لا تستطيع الكلمات التعبير عنها. ويعتبر الخبراء أنّ فنوناً مثل الموسيقى والرسم والنحت (بالمعجون) عند الأطفال الذين لم تتطوّر لديهم بشكل كامل مهارات اللغة، وسائل إعلام قوية لاستكشاف الطرق التي يرى بها الطفل العالم. كما تسهم هذه الفنون أيضاً في تنمية المهارات الحركية الدقيقة والعضلات عند الطفل، ومنها على سبيل المثال تعلّم إمساك قلم الرصاص جيّداً، أو الضرب على مفاتيح البيانو بأصابعه.
3. الألعاب الحرفية: بناء المكعبات والبازل والمعجون
يوصي الخبراء الأهل بضرورة البحث عن الألعاب واللوازم التي تعزّز العديد من المهارات التعاونية والجسدية، وعدم التركيز على فئة واحدة منها، لأنّ التنمية يجب أن تكون في العديد من الجوانب المختلفة. ومن الألعاب التي يمكن تأمينها لتحقيق هذا الهدف، كتل البناء (المكعّبات)، البازل والمعجون التي تساعد جميعها في إيقاظ التفكير الإبداعي للطفل والاستمتاع بنشاطه، سواء كان وحده أو مع أصدقائه.
4. دفاتر التلوين وصناعة الألعاب
ومن المساعي السهلة التي يمكن تنفيذها من قبل الأهل، شراء دفاتر التلوين الرخيصة نسبيّاً وتوزيعها كلّ فترة على الأطفال لخلق الإبداع. لا يجب أن تشترى جميع المستلزمات التي يستخدمها الأطفال في اللعب، بل يمكن مساعدتهم لصناعتها بأنفسهم. فالإتيان ببعض علب الحبوب وحاويات السمنة المعدنيّة، ثمّ الطلب من الأطفال الرسم عليها وتزيينها لعرضها في غرفة الجلوس أو غرفتهم، يساعد كثيراً على تعزيز شخصيّة الطفل وثقته بنفسه.
اللعب: عبث أم إبداع؟
يذكر الجابر (2007) أن بعض الألعاب تساعد الطفل في استكشاف ذاته والعالم المحيط به، مما ينمي لديه مهارات فردية واجتماعية وعلمية وإبداعية. وفقًا لـ (جان بياجيه)، صاحب النظرية النمائية للطفل، اللعب هو الوسيلة الأولى للتعلم ومحفز لنمو الطفل ونشاطه العقلي، مما يعزز الذاكرة والإدراك والتخيل والكلام والانفعال والخصال الأخلاقية.
وتؤكد النظريات والدراسات النفسية منذ قديم الزمان أن اللعب لا يعتبر عبثاً بل هو المرحلة الخصبة واللبنة الأساسية لدعم جميع مجالات النمو والتطور لدى الأطفال وخاصة التطور العقلي والمعرفي. وللعب الأطفال فوائد متنوعة ومهمة مثل الفوائد العقلية، الإبداعية، الجسدية والنفسية، وباستخدام الطفل لجميعَ حواسه فإن قدرته على التركيز تتطور، ومن ثَمَّ يتطور فهمه وإبداعه. فتنمية الإبداع باللعب أمر حتمي، حيث يدفع الطفل إلى التفكير ضمن سلسلة من النشاطات العقلية عندما لا يعرف ما يجب فعله، بالتالي فان اللعب عنصر أساسي في نمو عقل الطفل وإثارة تفكيره .
ويُعدُّ اللعبَ- أيضا- أداة مساعدة لتفاعل الطفل مع البيئة ومحفزا للإبداع؛ فعندما يمارس الطفل اللعب الإيهامي يبتدع الحوار ويختار الأدوار بنفسه، فيقوم تارة بأدوار التسلط أو الخضوع كما في دور الوالد والرضيع، ويقوم تارةً أخرى بأدوار أبداعية كدور الطبيب والمريض أو حتى دور المعلم والطالب، وبالتالي يتعلم الطفل السلوك الاجتماعي الملائم لكل موقف، ويتوسع خياله، وتظهر إبداعاته، فالطفل من خلال اللعب يعبر عن حاجاته ورغباته وقد يعكس جانباً من حياته الواقعية.
دمج الألعاب في العملية التعليمية وتنمية المهارات الاجتماعية
من الضروري دمج الألعاب وتنويعها ضمن الحصص الدراسية، مثل الألعاب الفنية واللغوية والرياضية. تصنيف الألعاب حسب ميول الطفل يساعد في تنمية الذكاء والإبداع، مثل لعبة “التمثيل” التي تحفز الطفل على اختيار مفردات جديدة وتزيد من روح المنافسة، أو لعبة “النهايات المفتوحة” التي تشجع الطفل على اكتشاف حلول إبداعية للمشكلات، عن طريق إيجاد البدائل التي بدورها تساعده على حسن اتخاذ القرارات.
وللعب من جهة أخرى دور كبير في تنمية المهارات الاجتماعية، ففي الألعاب الجماعية يتعلم الطفل النظام، ويدرك قيمة العمل الجماعي، ويؤمن بالمصلحة العامة، وإذا لم يمارس الطفل اللعب مع الأطفال الآخرين، فإنه يصبح أنانيا، ويميل إلى العدوانية، ويكره الاندماج في الجماعة، لكنه بواسطة الألعاب مهما كانت بسيطة يستطيع أن يقيم علاقات جيدة ومتوازنة معهم، وأن يحل ما يعترضه من مشكلات ضمن الإطار الجماعي، وهو ما يسمى «اللعب التعاوني»، وأن يتحرر من نزعة التمركز حول الذات، ومن بعض السمات السلبية الأخرى، مثل الخجل وضعف الثقة بالنفس.
ويحبذ أن يصاحب اللعب تشجيعاُ من الوالدين ومدحاُ لصفات طفلهم، وتدريبه على التعاون والصبر والتأني، والتفكير واحترام الآخرين بانتظاره للدور، فكل هذا يوجد بدوره بيئة صحية متوازنة وطفلاُ مبدعاً واثقاً بنفسه، متزناً في تصرفاته وسلوكه، وبدون هذا يصبح الطفل أنانيًا، مسيطرًا، ضيق الأفق، غير محبوب، غير منفتح على الآخرين، بل ويصبح متمركزًا حول ذاته.
وقد ورد في تاريخنا الإسلامي مثالاُ على أهمية اللعب، ففي بعض الروايات ورد عن الطبراني: أن الرسول صَلى الله عليه وسلم مَرَّ على صبيان وهم يلعبون بالتراب، فنهاهم بعض أصحاب النبي – صلى عليه وسلم- فقال صلى عليه وسلم: “دعهم فإن التراب ربيع الصبيان “. [1]
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل.
قيمة اللعب وفوائده المتعددة
ان قيمة اللعب وفوائده لا تعد ولا تحصى، تربويا وأخلاقيا وبدنيا، وفيها تتحقق المقولة الشهيرة: «العقل السليم في الجسم السليم». وسلامة كليهما تمنح حياة الفرد في كبره الحيوية والنشاط، بل وتقيه شر الأمراض في شيخوخته. ويمكن تلخيص قيمة اللعب وفوائده على النحو التالي :
القيمة التربوية
يتعرف الطفل من خلال اللعب على الأشكال والألوان والأحجام والملابس.
القيمة الاجتماعية
يتعلم الطفل كيفية بناء علاقات ناجحة مع الآخرين والتعاون لتحقيق النجاح.
القيمة الخلقية
يتعلم الطفل مفهوم الخطأ والصواب ،وإمكانية الاعتراف بالخطأ ويتعلم بعض القيم الخلقية:العدل ، الصدق ،الايثار وضبط النفس.
القيمة الإبداعية
يجرب الطفل أفكاره وينمي أساليبه، مما قد يؤدي إلى ابتكار أساليب وأفكار جديدة. إذ يحدد الطفل خلال اللعب إمكاناته وطاقاته بصدق ، ويقارن طاقاته بإمكانات وطاقات الآخرين .
القيمة العلاجية النفسية
حيث يصرف عن ذاته الشعور بالتوتر ، كما يصرف الهموم ويتحرر من بعض القيود ، فالأطفال الذين يعيشون في بيوت تمتاز بكثرة الأوامر والنواهي يلعبون أكثر من الأطفال الآخرين إذ يعتبر اللعب وسيلة من وسائل تصريف الشعور بالعدوان المكبوت .
صفوة القول: اللعب أساس النمو السليم
احتل اللعب مكانة مهمة في آراء الفلاسفة والكتاب والباحثين من علماء النفس والتربية منذ أقدم العصور، كما أكدت الدراسات التربوية والنفسية أن اللعب كنشاط مميز لحياة الأطفال يعتبر مدخلاً وظيفيًا لعلم الطفولة ووسطًا تربويًا لتشكيل شخصية الفرد في سنوات طفولته. ولا شك أن لعب الأطفال ليس عبثاً كما يتصوره بعض الآباء والمربين الذين يرفضون اللعب ولا يؤمنون به، وإنما اللعب مهم وضروري لنمو الشخصية الاجتماعية السوية والخيِّرة، فنحن نجد أن التربية الإسلامية قد أباحت الألعاب الهادفة، إذ يمكن إعداد الجانب الجسمي والنفسي والخلقي للفرد عن طريق ممارسة بعض الألعاب الرياضية.
فاللعب يطوّر القدرات الجسمية والعقلية والانفعالية لدي الطفل ويساعد على تنشئته اجتماعيًا واتزانه عاطفيًا وانفعاليًا، كما يساعد اللعب أيضًا على تطور النمو اللغوي لدى الأطفال من خلال تبادل الآراء والحديث المتواصل الذي ينشأ بسبب التفاعل المشترك بين الأطفال المشاركين في اللعب، وهو يمنح الطفل فرصًا ثرية ومواقف حياتية طبيعية تعمل كنماذج مثلى في تكوين الشخصية السوية من خلال العلاقات المتبادلة والمشاركة والتعاون والمناقشة والتشاور والحوار مع الآخرين، والاشتراك في اتخاذ القرارات الجماعية، وتقبل رأي الغير واحترامه، حتى إن كان مغايرًا للآراء الشخصية؟.
مثال تاريخي على أهمية اللعب: الشعب الياباني
ان ما يجب أن نؤكد عليه هو أن الشعب الياباني لم يتقدم إلا بإتاحة الفرصة أمام أطفاله للعب، فخرجت أطفال مبدعة لدرجة أن الصناعات اليابانية اليوم تغزو أميركا في عقر دارها. فالشعب الياباني لم يتقدم تكنولوجياً ولم تقم له قائمة بعد ناجازاكي وهيروشيما إلا باستكشاف المواهب منذ نعومة الأظفار وتكريسها كدرع بشري للتقدم والنمو السريعين.
خاتمة
اللعب عند الأطفال ليس مجرد نشاط ترفيهي، بل هو أداة أساسية لتنمية الإبداع والمهارات الاجتماعية والعقلية. من خلال توفير بيئة محفزة ومتنوعة للعب، يمكن للأهل والمعلمين المساهمة في بناء شخصية متوازنة وثقة بالنفس لدى الأطفال، مما يؤهلهم لمواجهة تحديات الحياة بثقة وإبداع.