ما أعظم رحمة النبي ﷺ! لم تكن دعوته قائمة على اللعن والانتقام، بل كانت مبنية على الرحمة والشفقة، حتى تجاه من كذبوه وعاندوه. في قصةِ الطفيلِ بنِ عمروٍ الدوسيِّ نرى موقفًا تربويًا نبويًا بليغًا، حيث طلب الطفيل من النبي أن يدعو على قومه بعدما عصوا وأعرضوا، لكنَّ النبيَّ، الرحمةَ المُهداةَ، لم يستجب لهذا الطلب، بل رفع يديه إلى السماء وقال: “اللهم اهد دوسا وائتِ بهم”.
هذا الموقف ليس مجرد حكاية تاريخية، بل هو درس يعلمنا أن الصبر على الناس والرفق بهم هو طريق الهداية الحقيقي. فكم من قلوبٍ مغلقةٍ فتحتها الكلمةُ الطيبةُ.
لنتأمل معًا هذا الدرس العظيم، ولنستلهم منه أسلوب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فقد تكون كلمة واحدة منك سببًا في هداية قلبٍ لم يتوقع أحد أن يهتدي. في وقفتنا التربوية هذه نقف مع حديث تربوي عظيم هذا الحديث عبارة عن قصة وحوار بين الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه والطفيل بن عمرو الدوسي.
ففي مسند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم -، فقال: إن دوساً قد عَصَتْ وأَبَتْ فادْعُ الله عليهم، فاستقبل رسول الله -صلي الله عليه وسلم – القبلة ورفع يديه، فقَالَ النَّاسُ: هَلَكَت دَوْسٌ ، فقال: “اللهم اهد دوساً وائتِ بهم، اللهم اهد دوسا وائت بهم”. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ أيضا، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».
لم تقف رحمة النبي ﷺ مع الكافرين عند الإعراض عنهم، والحلم والصبر على جهلهم وأذاهم، بل إنها تعدَّت ذلك إلى مجال أرحب وأفسح، ظهرت في حرصه على هدايتهم، وهذه صورة من صور الرحمة النبوية بالمخالفين له، فما كان من الطفيل الدوسي وهو الغيور على دينه من أحب دينه أحبه ومن كره دينه وعاداه كان عدوا له ولو كان من قبيلته وعشيرته الأقربين.
وما كان من الطفيل إلا أن طلب من الحبيب الدعاء عليهم لما عادو الإسلام ولم يستجيبوا له فقد كان الطفيل قد أسلم بمكة، ورجع إلى بلاد قومه، ودعا أبويه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه، فأجابه أبو هريرة وحده، ثم وافى النبي ﷺ ، فكان هذا القول منه، فلما رفع الحبيب يديه للدعاء ظن الناس أنه سيدعو عليهم فَيستجيبُ الله عز وجل له.
لكن النبي ﷺ قال: (اللهم اهد دوسا)، وأمَر الطُّفيل رضي الله عنه بالرجوعِ إلى قومه ودعوتهم إلى الله، والترفُّقِ بهم، فقد روى السيوطي في الخصائص الكبرى، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية وغيرهم، أن النبي ﷺ قال للطفيل : (ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم، قال الطفيل فرجعتُ إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله ﷺ بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله ﷺ بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله ﷺ بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين”.
هذا درس لكل داعية ولكل مرب ولكل ناصح بل أولهما الرحمة والشفقة على المدعو فما حمله على الإعراض عن الخير إلا الجهل به وغلبة الهوى عليه، فارحم المبتلى بقسوة القلب ومقارفة المعاصي والبعد عن الطاعات وادع الله له واجتهد في دعوته برفق لين واصبر على أذاه لعل الله يفتح لك قلبه فيستجيب لنصحك وتوجيهك ودعوتك.
وإياك والتبرم والضجر منه إن أبى قبول الحق أو رفض النصح، واحذر أن تصيبك الحمية لنفسك فتتصرف بما يكون سببا لسخط الله عليك كحال ذلك الرجل الذي نصح ونصح فقال له المنصوح إليك عني لست علي بوكيل فغضب وقال والله لا يغفر الله لك ففي صحيح مسلم من حديث جُنْدَبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَ ” أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ .