في المؤتمر الأخير لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامة المنعقد في المنامة بتاريخ 9 إبريل 2018 والذي كان أحد محاوره (الصكوك الإسلامية والحوكمة) برزت مسألة دور رجالات الهيئة الشرعية في حوكمة الصكوك، وذلك على خلفية الضجة الإعلامية الكبيرة، والنقاش الشرعي، والتقاضي الشرس في محاكم لندن والشارقة بشأن صكوك دانة غاز Dana Gas Sukuk ، وكانت احدى النقاط الرئيسة هي مدى وأهمية إلمام علماء الهيئة الشرعية بفهم اللغة التي تصدر بها مستندات الصكوك والتي على رأسها نشرة الإصدار Sukuk Prospectus ، والآثار المترتبة على عدم إلمامهم، وما هي الحلول المناسبة لذلك، وبرزت في هذا الاتجاه آراء مختلفة، وكلها كانت تبحث عن ضروة المواءمة بين متطلبات السوق وتوفير عناصر الحوكمة الشرعية لإصدارات الصكوك :

1- وجوب إصدار مستندات الصكوك ونشرات إصدارها في الإنجليزية والعربية معا، وتكون النسخة العربية متكافئة مع النسخة الإنجلزيية وليس اعتبارها كترجمة، وإنما لغتان متكافئتان وبدرجة واحدة من حيث المرجعية، وهذا ما يميل إليه شيخنا الدكتور عبد الباري مشعل في ورقته، وذلك منعا لاحتكار هذا المنصب للمجيدين للانجليزية، وهذا القول اعترض عليه بأمرين:

الأمر الأول: أنه يسبب تكاليف إضافية على المصدر مما يجعل الصكوك في موقع تنافسي غير ايجابي مع السندات التقليدية.

والأمر الثاني أن إخراج عشرات بل مئات الأوراق في لغتين مختلفتين تأخذ وقتا إضافيا مما يتسبب معه تكلفة زمنية أخرى مما لا يكون في صالح مصدري الصكوك.

2- ضرورة وجود رجال في الهيئة يترجمون لزملائهم غير الملمّين بالإنجليزية مضامين المستندات، ويجيبون على أسئلتهم وذلك تفاديا للتكاليف الباهظة، وأن هذا الاتجاه يمثل الواقعية في هذه المسألة، وأن من الممكن اتفاق الطرفين على التنازل عن أي فوائد مالية تحكم بها المحكمة لصالح طرف آخر عند نشوء نزاع، ويبدو أن هذا مما يميل إليه الدكتور عدنان حسن، وعورض هذا القول بأن الخبر ليس كالمعاينة، وأن من رأى ليس كمن سمع، وأن الناقل قد يغفل عن نقاط مهمة، أو عناصر مؤثرة في الموضوع، وأن أعضاء الهيئات الشرعية اختيروا ليعبروا عن آرائهم ويبذلوا جهدهم في فهم المنتج والحكم عليه استقلالا وليس الاعتماد على ما ينقله زملاؤهم، ولا أن يوقعوا على توقيعاتهم.

3- ضرورة اختيار الهيئات من الملمين بالإنجليزية، وأن هذا هو الأصل، وهو ما يجب السعي له ابتداء، فإذا اضطر المصدر إلى اختيار غيرهم فيجب ترجمة الملفات كاملا من قبل مترجمين معتمدين، وأنه لا يجوز الاعتماد على ترجمة بعض أعضاء الهيئات لزملائهم وهذا ما يراه الدكتور سعيد بو هراوة. ويؤخذ على هذا الاتجاه المؤاخذات الاعتراضات الواردة على الاتجاه الأول.

إن هذه النقاشات الدائرة حول اللغة الإنجليزية إزاء منتج إسلامي غير صادر باللغة العربية  – لغة أغلب العلماء ، وأغلب الجامعات الإسلامية، ولغة كتب الفقه والشريعة والأصول التي يحاكم على ضوئها المنتج – دليل على أن الواقع فرض نفسه، وأن العولمة تتتجسد فينا بأعلى مظاهرها، وأن آليات السوق هي صاحبة الكلمة الفصل في الاجراءت المتعلقة بهذه المنتجات، وإن لم تكن هي صاحبة الكلمة الأعلى في الحكم عليها جوازا أو منعا.

لقد تصدرت الإنجليزية في المالية الإسلامية لأسباب عديدة، أبرزها:

أولا: أن المالية الإسلامية مرتبطة بالسوق، وأغلب عقودها تتجاذبها أطراف عدة من جهات ودول مختلفة، وخاصة ما يتعلق بالصكوك والتي قد يكون منشئها في احدى الدول العربية، ومستثمروها من الجهات الأربع في العالم، والشركة ذات الغرض الخاص لها أو المستعهد المالي (ترستي) متربعة في إحدى الجزر الكاريبية، كما أن الإنجليزية تتجسد بقوة في مرابحات السلع الدولية، والتأمينات مع الشركات الأجنبية، والبنوك التي لا يفهم بعض مديرها التنفيذين وبعض موظفيها اللغة العربية.

 ثانيا: كون أحد أقطابها ليست دولة عربية، فماليزيا بلا نزاع قطب من أقطاب المالية الإسلامية ورائد من روادها، وذلك في المجال التشريعي، والتعليمي، والتوظيفي، والتدريبي، والدعائي، والتكنلوجي وغيرها. وهي رائدة في مجال التمويل والصيرفة، ومجال الزكاة والحج، وفي مجال الأوقاف وعقد المؤتمرات، وكان لها نصيب الأسد في بلورة الصكوك الإسلامية ووضع التشريعات لها، وتجهيز سوقها، وهي الدولة الرائدة في البورصة الإسلامية المتمثلة في بورصة سوق السلع الماليزية. ولأن ماليزيا ليست دولة عربية، وأغلب جامعاتها لا تدرس بالعربية، فقد ساهمت مساهمة كبيرة في توطيد علاقة المالية الإسلامية باللغة الإنجليزية، فالمؤتمرات بالإنجليزية غالبا، والمجلات العلمية والبحوث الأكاديمية الصادرة من كليات القانون المهتمة بالجانب المالي، والبحوث الصادرة من المعاهد المتخصصة بالمالية الإسلامية، والمواد العلمية في المعاهد، كلها تغلب عليها الإنجليزية، وإن كنا نرى أنه من الضروري التذكير بأن ماليزيا لا تهمل العربية ولا تهمشها، فهي تعطي فرصة كبيرة للمتحدثين بالعربية في المؤتمرات والندوات، وخير دليل على ذلك مؤتمرات (اسرا لعلماء الشريعة) والتي تكون اللغة الأولى في نقاشاتها تقريبا هي اللغة العربية، وكذلك فإن مجلات اسرا وموقعها ونشراتها تحظى بالترجمة والنشر للأرواق والبحوث العربية بكفاءة كبيرة عالية، كما أن كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية العالمية في كولالمبور وجامعة العلوم الإسلامية في نيلاي تشاركان مشاركة فعالة في تخريج وخدمة بحوث مكتوبة بالعربية في مجال المالية الإسلامية.

إن تأثير الإنجليزية في المالية الإسلامية أصبحت واضحة وجلية، ففي بعض المؤتمرات الدولية لا يرتاح المتحدثون إلا أن يلقوا أوراقهم بالإنجليزية، حتى في بعض تلك المؤتمرات التي تقام في مكة المكرمة مع أن المتحدث عربي مبين.

ومن مظاهر الإنجليزية أن بعض التنظيمات والهياكل التشريعية المتعلقة بالهيئات الشرعية تميل إلى تفضيل من يتقن الإنجليزية على غيره أو أنه من المستحسن أن يكون عضو الهيئة الشرعية متقنا للإهيئة شرعيةنجليزية. والمشايخ الخمسة الذين يحظون بعضوية هيئات شرعية لأكثر من مائة وخمسين بنك أو نافذة أو صندوق استثماري اسلامي أو التأمين التكافلي وغيرها حصلوا على ذلك الحظ لفهمهم العميق للتراث الفقهي المالي، وللواقع الاقتصادي الحالي، وللغة الإنجليزية التي لا تغيب عنها الشمس في هذا العصر.

 

كما تتجلّي هيمنة هذه اللغة في مسودات المعايير التي تصدرها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، فباستثناء المعايير الشرعية التي تكون الأصل في مسوداتها إصدارها باللغة العربية، إلا أن المسودات الأخرى والنسخ النهائية فيما يتعلق بمعايير الحوكمة والمعايير المحاسبية والأخلاقيات فتصدر بالانجليزية أولا، ثم تترجم لاحقا للعربية، وكذلك فقد كانت بعض بيانات المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية CIBAFI وتعليقاتها على بعض المعايير وغيرها تصدر باللغة الانجليزية غالبا، إلا أن المجلس أحسن في الآونة الأخيرة فأصبحت تصدرها باللغتين بشكل متزامن.

أما مجلس الخدمات المالية الإسلامية IFSB  والتي تحظى بعضويتها أكثر من 185 عضوا، من بين سلطات إشرافية، ومنظمات دولية، ومنظمات فاعلة في السوق كالمؤسسات المالية، والشركات المهنية والاتحادات النقابية فهي تصدر معاييرها باللغتين الانجليزية والعربية متزامنا، مع أن الانجليزية هي اللغة الرسمية والنسخة الانجليزية تقدّم على النسخة العربية في الحجية، وقد بدأ المجلس في ترجمة بعض المعايير للفرنسية نظرا للأعضاء الجدد من شمال أفريقيا وغربها والتي تهيمن على لغة السوق والمال فيها اللغة الفرنسية. كما أن بعض الدول الناطقة بالفرنسية ستدخل في سوق الصكوك وغيرها في السنوات القليلة القادمة، فهل نطالب هيئاتها الشرعية بإتقان الانجليزية والفرنسية والعربية معا، أم ماذا سيحدث؟؟

كما أن المجلات العلمية الراقية في مجال الصيرفة والتمويل لا تتوفر كثيرا بالعربية اللهم إلا على أصابع اليد الواحدة في أحسن الأحوال، ولذلك نجد كثيرا من الباحثين يلجؤون إلى نشر بحوثهم بالإنجليزية في تلك المجلات الراقية، مما يحرم الباحث العربي غير المتقن للانجليزية من بحوث كثيرة، ويجعل كثير من المعلومات المتداولة لديه قديمة غير مواكبة للمستجدات المتسارعة في مجال الصيرفة.

ولا يتخيل إلى أحد أن تأثير الإنجليزية تقتصر على المظاهر والاجراءات فحسب، بل إنها تتوغل بعمق في بعض المفاهيم والمصطلحات التي تتربع عليها بعض المنتجات، فكما يضطرب المتخصص الإنجليزي أمام بعض المصطلحات المتجذرة في العربية، كالتعويض والتنازل والوعدان وبيع وسلف والغرر وغيرها من المصطلحات المتداولة فيقرأ بعمق ويقضي وقتا طويلا قبل أن يتأكد من فهم هذه المصطحات، فكذلك فإن المتخصص العربي يقف أحيانا حائرا أمام بعض المصطلجات الإنجليزية المنبثقة، فالصكوك مثلا قائمة على مصطلحات انجليزية التي قد لا يدرك القارئ العربي جذورها بسهولة، كالصكوك المدعومة بالأصول Asset Backed Sukuk، والصكوك القائمة على الأصول Asset Based Sukuk، إضافة إلى مصطلحين آخرين محيرين ، الملكية النفعية Beneficial Ownership والملكية القانونية Legal Ownership، وهذه هي المصطلحات التي تتربع عليها الصكوك اليوم، وكلها غير موجوة في مدونات الفقه والشريعة وغير مألوفة في القوانين العربية.

إنني لست هنا ناقد أو مادحا وإنما واصفا للواقع، وواضعا النقاط على الحروف ليتم النظر في المسألة، هل نريد البقاء على الواقع الموجود، أو هناك حلول لوضعية المشايخ، وللصكوك والمنتجات التي يحكمون عليها، وماذا عن قضية التكاليف المرتفعة للترجمة؟ هل المشكلة أصلا في عدم فهم الإنجليزية، أم أن المشكلة أساسا في هذه المستندات وطريقة كتابتها وعدم وضوح بنودها، فهل كون الشخص يتقن الإنجليزية يجعله قادرا للبت في هذه العقود، أم أن انجليزيته لا تشفع له ما دامت المستندات غامضة، وتكتب من المحامين بغموض مقصود.

وسواء أخذنا بهذا أو ذاك، فيبقى الواقع واضحا وهو أن الإنجليزية فرضت نفسها، فالمشايخ الذين يتقنون العربية فحسب سرعان ما يتواصلون مع التراث الفقهي القديم أكثر من المتخصصين الذين  لا يجيدون إلا الإنجليزية، والذي يجيد الإنجليزية فحسب يتواصل مع السوق والحاضر والمستقبل أسرع من المجموعة الأولى، أما من يجيد اللغتين يتواصل مع التراث الفقهي وواقع السوق ومستقبلها أكثر من المجموعة الأولى والثانية. فهل طريقة المجموعة الثالثة هي المختار بعد أن فرضت لغة انكوسام Uncle Sam نفسها على الجميع.