يكتسي البحث في موضوع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية أهميته وخصوصيته، لكونه ينجز في مجال مشحون بإرث فكري وعقدي، ويتسم بالتحيزات والاتهامات المتكررة والمتبادلة، فدعاة المحافظة يتهمون الداعين إلى تحرير المرأة بالتغرب، وهدم الأسرة وزعزعة كيان الأمة الأخلاقي والديني، ويدرجون هذا المسلك ضمن الانسياق في مؤامرة غربية تهدف إلى إضعاف الإسلام.
وفي المقابل نلقي دعاة التحرر يتهمون الإسلام بأنه السبب وراء المعاناة المتراكمة التي تعيشها المرأة المسلمة، ويذهبون في ذلك إلى المطالبة بإحداث تفسير حديث للدين، أو التفكير في إبعاد تأثير الدين على طريقة تشكيل الفرد الغربي.
استنباط الصور الذهنية للمرأة
وإذا رجعنا إلى الجدال الذي كان يدور منذ أواخر القرن التاسع عشر حول الموضوع، نلاحظ أن قاسم أمين على سبيل المثال كان حذرا في تناوله للإسلام، وموقفه من المرأة؛فمن جهة، يقرر أن الشريعة الإسلامية كرمت المرأة، وجعلت من تحررها أنفس الأصول التي يحق لها أن تفتخر بها على سواها، ومن جهة أخرى، يرى في موضوع الحجاب حاجزا، ومانعا للحرية الإنسانية، ومثبطا للمرأة من استكمال تربيتها.
وفي كتابها الذي يحمل عنوان “المرأة العربية في منظور الدين والواقع، دراسة مقارنة”،321 صفحة، والصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق (2004) تسعى الكاتبة السورية جمانة طـه إلى استنباط الصور والتخيلات التي تحكم تفكيرنا حول إشكالية المرأة في الدين والواقع.
وتقدم الباحثة قراءة مقارنة عبر سبر غور التراث الديني للديانات الموحدية، معتمدة على مناهج الفكر في العلوم الإنسانية الحديثة، وكذا عبر ردة فعل المجتمعات الشرقية في احتكاكها مع الحداثة الآنية من الغرب والتأثر بها بأشكال مختلفة وفي ميادين متعددة، بما فيها الميدان الروحي والديني.
وقد سعت الكاتبة إلى وضع أنماط التأثير والتأثر بين المجتمعات الشرقية والغربية في إطارها التاريخي، دون أن تلغي دينامية المجتمعات الغربية وهيمنتها على مقدرات العالم والتي غالبا ما قبل بها المثقفون العرب من دون نقد معمق.
العالم لم يتغير
ويبدو أن العالم اليوم لم يتغير كثيرا، فثمة جدال يدور حول ذات الأسئلة القديمة التي عرفتها قضية المرأة في الإسلام، إلا أن الجديد هو ظهور جيل من المثقفين، ابتعد عن ذلك النمط من الجدال السقيم الذي لم يحقق عائدا إيجابيا، ولم يخلق سوى مزيد من الأزمات، ولذلك وجدنا من يدعو إلى ضرورة القيام بمراجعة نقدية للجهود السابقة، ومن بين هؤلاء، جمانة طــه من خلال مؤلفها “المرأة العربية في منظور الدين والواقع، دراسة مقارنة”، وهي مثقفة عربية، تمتلك وعيا نقديا، وثقافة واسعة، واطلاعا لا بأس به على الشرائع الدينية الأخرى، أهلها كل ذلك للقيام بدراسة مقارنة من خلال عرض الأنساق والتصورات العربية والإسلامية الموروثة والمكتسبة.
وقد اشتمل الكتاب على أربعة أبواب، وثلاثة عشر فصلا، اهتمت كلها بقضايا المرأة في المجتمعات الإسلامية، والمسيحية، واليهودية.
افتتحت الباحثة جمانة مؤلفها بتمهيد مركز، تعرضت فيه إلى التغيرات التي طرأت على المجتمعات الإسلامية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وأبرزت أثر هذه التغيرات على قضايا المرأة، والأدوار الجنسوية، والهويات الثقافية، ومن ثم لاحظت تشابها لدى الأجيال الإسلامية والعربية في تجربتها الانتقالية من مجتمعات قائمة على الأعراف والتقاليد والمورثات الاجتماعية إلى مخاض العصرنة والتحديث، فالأجيال السابقة واللاحقة، تعاني كبتا وجمودا، وتعيش حصارا فكريا واجتماعيا ودينيا.
مشاهد معقدة
وتأسيسا على هذه الملاحظة الأولية، كشفت الباحثة عن المعاناة التي يشهدها المجتمع نتيجة “تعقد المشهد الاجتماعي- الاقتصادي –الثقافي والديني المتخلف، والذي فرض علينا نوعا من الازدواجية بين الفكر والممارسة في كل المسارات اليومية وحتى المصيرية”، ومن ثم استخلصت طبيعة هذه الازدواجية التي حالت دون الوصول إلى تحديد سقف الموازنة بين التراث والقيم الوافدة.
ومن خلال هذا التقاطع تبرز لنا قضية المرأة، والمواقف المتباينة تجاهها، فقد أشارت جمانة طه إلى أن التغيير الاجتماعي والتناقض اللذين يحكمان صلتنا بالدين، هما اللذان حفزاها على البحث عن حقيقة ضائعة بين تشريع وعرف، وتأويل وتفسير وتطبيق، وعلى التعرف بموضوعية، وحرية ووعي، على وضع المرأة في الدين الإسلامي، وعلى طرح أسئلة، طرح بعضها مفكرون، شغلتهم قضايا المرأة، وإشكال وجودها في الدين والتراث الشعبي، والمجتمع.
ويبدو أن هذا البحث اشتغل على تصحيح بعض اللبس الذي ترسب في ثقافتنا نتيجة تأثير العرف والعادة، وارتباط كل ذلك بالدين، وما ساد بفعل التأويل والتفسير لبعض آيات في القرآن الكريم، وما هي –في الواقع- من الدين في شيء، وقد لعب التخلف نتيجة اضمحلال الاجتهاد دورا بارزا في تكريس هذا الواقع المؤلم.
مقاربات جديدة لبعض نصوص القرآن
وتومئ الباحثة في ثنايا مؤلفها إلى أن دراستها لإشكالية المرأة بين الدين والواقع، واجتهادها في تقديم مقاربات جديدة، وتفسير بالرأي لبعض نصوص القرآن، لا يعني البتة التجرؤ على النص القرآني، وإنما الغاية هي توضيح مكانة المرأة في الدين الإسلامي. كما تصرح منذ البداية أنها مع الدعوة التي تنادي بالحفاظ على الهوية الإسلامية، ولكن دون استخدام القمع، والتكفير، بل تفضل الحوار، وقبول رأي الآخر.وقد توسعت الدراسة لتشمل قراءة في دور الأنثى في نشوء هذا الكون، من خلال قصص الخلق، كما تتبعت وضع المرأة ومكانتها في مجتمعات بعض الحضارات القديمة، انطلاقا من الذاكرة الشعبية، وما وفرتها النصوص التراثية الشفوية والمكتوبة، كما أنها تعرضت إلى وضع المرأة في رحاب الكتب السماوية للديانات اليهودية، والمسيحية والإسلامية، بمنهج مقارني، استطاعت من خلاله إجلاء صورة المرأة في الإسلام، كما أنها قدمت حقائق من شأنها دحض الافتراءات التي لحقت بالدين الإسلامي، وقد أُطر البحث بمرجعية نظرية غنية، شملت بالإضافة إلى الكتب المقدسة، آراء بعض المرجعيات الدينية المسيحية، في حين كان النص القرآني المصدر والمرجع الأساس، في ما تعلق بوضع المرأة في الإسلام.
وهكذا تتبعت الباحثة عبر الفصول الخمسة للباب الأول مصطلح المرأة في اللغة، وفي الأساطير والأمثال الشعبية، ثم أبرزت بعض الملامح النسائية في التاريخ.
المرأة في الأديان السماوية
أما الباب الثاني، فقد اشتمل على موضوع المرأة في الأديان السماوية :كالمرأة في الديانة اليهودية، والمرأة في الديانة المسيحية، والمرأة في الديانة الإسلامية، وهو الباب الذي أخذ مساحة كبيرة في المؤلف(من الصفحة 59 إلى 210)، حيث تعرضت الكاتبة إلى عدد من المباحث المتصلة بموضوع المرأة :كالزواج، المهر، تعدد الزوجات، الزنى، الطلاق، الإرث والحجاب.
وقد سجلت الباحثة أثناء عرضها للمرأة في الديانة اليهودية أن التشريعات التلمودية ضيقت عليها، واتخذتها سلعة، ونزعت عنها صفات الحكمة والفضيلة والصلاح.
كما أوردت في مبحث المرأة في الديانة المسيحية خلاصة مركزة، عرضت فيها أمورا ثلاثة، هي :
أن للمروث الديني المسيحي نفوذا، ليس على مكانة المرأة الاجتماعية فقط، ولكن على السلوك الأخلاقي للجنس أيضا.وقد اعتمدت في إجلاء ذلك على الأسفار اليهودية والتعاليم المسيحية المتعلقة بالمرأة.
وتعرضت في الأمر الثاني إلى المفاهيم المغلوطة عن قصة الخلق التوراتية، وكيف تم الترويج لها قديما وحديثا من قبل رجال الدين، ومفكرين وباحثين، وكانت المرأة في كل ذلك هي الضحية.
أما بخصوص الأمر الثالث، فتناولت فيه سلوك بعض رجال الدين الذين أدخلوا إلى دياناتهم السماوية آراء وتفسيرات شخصية، ألزموا بها الناس، وفرضوا على عقولهم أمورا لا تمت إلى الدين بصلة، مما نتج عن كل ذلك تغيير لبعض مقاصد الدين التي تخص المرأة بالذات.وقد أدى هذا التدخل البشري في الدين إلى إطلاق صفة الذكورية على الأديان.