خضع التراث العربي للدرس والبحث من قبل الدارسين الذين قدموا دراسات كثيرة أنارت ما خفي منه إلا أن هناك جوانب لم تزل بحاجة للبحث مثل التراث الرياضي، ومرد ذلك جزئيا شيوع فكرة أن الاغريق لديهم أعرق إرث رياضي، فهم أول من مارس الألعاب الرياضية الجماعية وأقاموا الدورات الأوليمبية تكريما للآلهة، أما العرب فهم أهل بداوة لم يعرفوا نشاطا بدنيا ولم يرتبط اسمهم برياضات معينة، وفي السطور التالية أسعى إلى مناقشة هذا الادعاء من زاويتين: الأول علاقة العرب بالرياضة قبل الإسلام وبعده، والثاني المصنفات التراثية في الرياضة التي توضح الرياضات التي برع فيها العرب ومدى عنايتهم بها.
العرب والرياضة: المفهوم والخصائص
سكن العرب الجزيرة العربية قرونا طويلة وأنشأوا فيها حضارات عدة قبل ظهور الإسلام عرفت ألوانا من النشاط الرياضي، فقد فرضت حياة الترحال على العربي ممارسة الصيد والعدو والرمي والفروسية لمواجهة متطلبات الحياة، فتعلم الرمي ليصطاد طعامه، والعدو لأجل الجري وراء الفريسة، والفروسية لمواجهة الغزاة وشن الغزوات، ورغم أنهم لم يمارسوا الرياضة لذاتها إلا أن شكلا من أشكال الألعاب الرياضية ظهر لديهم ممثلا في مسابقات الخيول حين كان الفرسان يتباهون بالجياد ويعقدون المقارنة بينها، كما مورست في الأسواق العربية المشهورة عكاظ ومجنة العديد من المسابقات والألعاب الرياضية.
مع ظهور الإسلام طرأ تحول كبير على مفهوم الرياضة كيفا وكما فلم تعد تُمارس لأجل تأمين متطلبات الحياة بل صارت تمارس لغايات أخرى ذات صلة بالعقيدة أو بتقوية الجسد على اعتبار أن الإنسان يتألف من روح وجسد ولا ينبغي إهمال أحدهما لصالح الآخر، كما تم تقنينها نظريا وصارت لها آداب مرعية لا تمارس إلا في وجودها، وعلى صعيد آخر أثمر اختلاط المسلمون بغيرهم من الأقوام والحضارات إلى تعرفهم على رياضات لم يكن لهم بها علم وممارستهم إياها كلعب البندق والكرة وغيرها، وهو ما يحملنا على الاستنتاج أن الرياضة في العصور الإسلامية كانت ذات خصائص مميزة يمكن إجمالها في الآتي:
-ارتباطها بالعقيدة، ومنشؤه أن تكاليف الدين لا تتحقق إلا إذا كان المسلم قوي البنية صحيح البدن قادر على تحمل أعباء الفروسية، وربما يقال أن الرياضة عند الإغريق اتخذت طابعا عقديا لأنها لم تقم إلا لتبجيل الآلهة غير أننا تعتقد وجود اختلافات من مثل أن الرياضة أو بعبارة أدق “حفظ البدن” صار حقا من الحقوق لقول الرسول الكريم ” إن لربك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه” وهكذا ارتفعت منزلتها من مجرد ممارسة إلى كونها حقا من الحقوق، ويرتبط بهذا أنه لا ينبغي للمرء التفريط في الحقوق وإلا استحق العقاب ولهذا صار إضعاف البدن أو إهلاكه عملا يقع تحت طائلة العقوبة.
–ارتباطها بالعلم، لم يكتف المسلمون بممارسة الرياضة وإنما اعتبروها علما وقاموا بالتنظير لها، وهو ما نتبينه من حديث حاجي خليفة عن التقسيمات الشائعة للعلوم في عصره وبعضها عد (علم السباحة) من فروع علم الهندسة، كما تحدث عن (علم الرمي) وذكر مصنفاته، و(علم البيزرة) ومصنفاته، وهو علم يبحث عن أحوال الجوارح والعلامات الدالة على قوتها أو ضعفها في الصيد، ولعله كان باعثا على التصنيف فيها بحيث يصعب حصر أو الإحاطة بجميع ما كتبه المسلمون في الرياضة.
– ارتباطها بالأخلاق: لما كان الفعل أو الممارسة لا ينفك عن الأخلاق، ولابد لأي فعل من إطار أخلاقي فإن ممارسة الرياضة كانت محاطة بجملة من الآداب المرعية التي كان ينبغي على المتنافسين التقيد بها، وهي مبثوثة في المصنفات التي تتحدث عن الفروسية والصيد والرمي، وهو ما لا نجده لدى أي من الحضارات الأخرى على هذا النحو هذا التفصيل والبيان.
منتخبات من التراث الرياضي
عرفت المكتبة التراثية مصنفات عدة تناولت أنواع الرياضات وكيفية ممارست ها والقواعد الشرعية والضوابط الخلقية الواجب اتباعها عند ممارستها، وفيما يلي نقدم بيانا ببعض هذه المصنفات موزعة حسب الرياضات المختلفة.
أولا: الفروسية: وهي أعرق الرياضات العربية وأكثرها أهمية لارتباطها بحماية الديار ومنازلة الأعداء، وهي على أربعة أنواع: أحدها ركوب الخيل، والثاني الكر والفر، والثالث الرمي بالقوس، والرابع المنازلة بالسيوف، ولا يعد الفارس فارسًا إلا إذا امتلك ناصيتها واستكمل أركانها الأربعة، ومن أهم مصنفاتها: (حلية الفرسان وشعار الشجعان) لابن هذيل الأندلسي (363هـ) وهو كتاب في الخيل وأسماء أعضائها وألوانها وما يستحب منها وكيفية اختيارها وتعلم ركوبها والمسابقة بها، وفيه ذكر للسيوف والرماح والقسي والنبال والدروع وغيرها من لوازم الفروسية.
ومنها (نهاية السؤل والامنية في تعلم أعمال الفروسية) لمحمد بن عيسى بن إسماعيل الاقصرائي (749هـ) الذي عاش في العصر المملوكي، وهو مصنف ضخم يقع في نحو ستمائة صفحة ذكر فيه علم الرماية والنشاب وعلوم أخرى، وتركيب بعض المراهم التي يحتاجها الفارس لفرسه، ورغم أن صاحبها ليس عالما إلا أنه ذكر بعض الفتاوى والمسائل الشرعية التي يحتاجها الفارس والفرس.
ومنها (الفروسية المحمدية) لابن القيم (751هـ)، وهو كتاب جامع في بابه يجمع بين التأصيل الشرعي لفنون الفروسية والبيان العملي لكيفية ممارستها وما يحتاج إليه المتعلم، والآداب الواجب اتباعها عند ممارسة الفارس للفروسية.
ومنها (النفحات المسكية في صناعة الفروسية) لصاحبها أحمد بن محمد الحموي (1142هـ ) وهو أحد المصنفات المتأخرة في هذا الباب وكتبه هدية لأحد ولاة مصر في عصر السلطان محمد الرابع، وهو يقع في مقدمة وتسعة عشر بابا وافتتحه بفضل الفروسية والرمي وابتداء آلات الفروسية، وأما بنية الكتاب فذكر فيها الفرس وأسمائه وأمراضه وكيف يسوس الفارس فرسه والمهارات الضرورية لتعلم الرمي من فوقه، وتناول مسائل شرعية من مثل جواز المسابقة بالخيل والإبل والرمي بالنشاب.
ثانيا الصيد: من مظاهر الاهتمام بالصيد في الحضارة الإسلامية تلك المؤلفات التي وضعت فيه، فكتب في القرن الثالث الهجري الأمير عبد الله بن المعتز (296 هـ ) كتاب (الجوارح والصيد)، وفي القرن الرابع وضع الأديب محمود بن حسين ( 358هـ ) المعروف بكشاجم كتابه الشهير (المصايد والمطارد) وهو من أهم المصنفات في بابه إذ يفتتحه بكيفية تمرين الخيل على الطراد، ويعقد فصلا للآلات المعتمدة في الصيد، ويذكر أنواع الجوارح الأربعة وهي: البازي والشاهين والصقر والعقاب، وفصلا لحيوانات الصيد وما يحل منها وما لا يحل، ولا يفوته أن يعقد فصلا لصيد البحر، ويتخلل الكتاب شواهد شعرية ونثرية.
ومنها كتاب (أحكام الصيد والطرد عند العرب) للقاسم بن علي الزينبي (563هـ )، وكتاب (البيزرة) لمؤلف مجهول حققه ونشره محمد كرد علي في منتصف القرن، وكتاب (انتهاز الفرص في الصيد والقنص) لحمزة الناشري من أهل القرن العاشر، وهو من أوسع الكتب في هذا الباب، وصفه صاحب كشف الظنون بقوله (وهو كتاب لم يُسبق إليه) ويقع في مقدمة وثمانية أبواب، الأبواب الثلاثة الأولى تناولت الصيد في القرآن وفي الحديث ومن اصطاد من الأنبياء، والرابع في أسماء الجوارح التي يصاد بها، والخامس فيما يحل صيده وما لا يحل، السادس في أحكام الصيد، والسابع والثامن في المرويات النثرية والشعرية في الصيد، ومن المصنفات المتأخرة في العصر العثماني (رسالة في الصيد بالبارودة) لعلي أفندي محضر باشي.
ثالثا الرماية: وفيها مصنفات غزيرة وبعضها من وضع علماء الإسلام من مثل: الواضح في الرمي والنشاب للإمام الطبري (310 هـ ) ذكره صاحب كشف الظنون، و(بيان الاستدلال على بيان مجتلي السباق والنضال) لابن القيم (751هــ ) و(السماح في أخبار الرماح) و (غرس الأنشاب في الرمي بالنشاب) وكلاهما للسيوطي (911هـ)، وأيضا كتاب (السبق والنضال) لأبي موسى سليمان المعروف بالحامض (305هـ)، و(النهاية في علم الرماية) لشرف الدين حسين بن اليونيني (701هـ ) ذكره حاجي خليفة، و(البداية والنهاية في علم الرماية) لبعض المتأخرين من أهل القرن الثامن وكان الانتهاء من تأليفه عام (775هـ )، و(تحفه الطلاب في علم الرماية والنشاب) لسليمان بن خليل بن سليمان الرامي، و(الكفاية في علم الرماية) لمحمد بن علي الحنفي الهاشمي العلوي، و(الكفاية في علم الرماية) للأصيل الحنفي.
رابعا: رياضات متعددة: تزخر المكتبة التراثية بكتب تناولت رياضات مختلفة من مثل: (الإباحة في علم السباحة) للسيوطي (911هـ )، وكتاب (اللعب بالبندق) لأبي عبد الله محمد بن اسماعيل البغدادي (588هـ) المعروف بابن البقال وهو “مليح في بابه قسمه على تقسيم كتب الفقه على السنة الرماة” كما وصفه صاحب هدية العارفين، ورسالة (المسارعة إلى المصارعة) أتى فيها على ذكر الأحاديث النبوية المجيزة لها وهذا في حال ما إذا كانت بلا عوض، وكتاب (لعب العرب) لأحمد تيمور باشا (1348هـ) وفيه ذكر لألعاب العرب مصنفة حسب حروف المعجم.
يُفهم مما سبق أن المسلمين لم يهملوا شأن الرياضة البدنية، وإنما مارسوها وارتقوا بها حين اعتبروها علما من العلوم وحين وضعوا لها إطارا خلقيا تمارس من خلاله.