بعيدا كل البعد عن الخطابات الغوغائية أو الاستدراج المذهبي (الدوغمائي) المغرض ،ونأيا بنا عن كل خلفيات سياسية وانتهازية آنية ،سأتناول هذا الموضوع من محبة في وطني ووحدته واستقراره، ونصيحة لكل مواطن عربي أو مسلم ينشد الحق والسلم والأمان ،وذلك بطريقة تقليدية علمية واضحة ،لا توظف العروض الطوباوية الإعلامية ولا التمويهات الإمبريقية أو البراجماتية البراقة ،والتي تزعم الارتكاز على التجربة الحسية ومعطيات الأرقام المفبركة من أجل الالتفاف حول الحقوق المشروعة تبخيسا وتنقيصا وصم الآذان مزايدة وتقليصا.
أولا:المنافسة الغريزية ومرتكزاتها الطبيعية
فالمنافسة بين الكائنات من إنس وحيوان،بل حتى الحشرات، شيء طبيعي في هذا الوجود، وهو يخضع لمنطق التدافع على نيل الحيز والمكانة أو المقام والرتبة بحسب غرض كل منافس وموقعه في هذا الوطن أو ذاك ،في هذه القرية أو هذه المدينة.
كما أن المنافسة الاجتماعية قد تأتي في الدرجة الثالثة من التكوين الغرائزي للإنسان بعد غريزتي حب البقاء والنوع ،بل هي نتيجة توفرهما والمآل الطبيعي لتطورهما وطلب المعالي من الرتب،فيما يذكر المختصون في علم النفس والأخلاق.وهذا يقتضي ضرورة تحليل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وكذا السياسية على ضوء المعطيات النفسية الداخلية للإنسان قبل النظر فيما يجري من غليان وفعل ورد فعل لا يمكن رصد مستوياته ولا خلفياته.
والمنافسة لها صورتان عند التوظيف الأخلاقي والسلوكي، قبل أن توفر لنا قيمة المال والأعمال، وهما :الغبطة والحسد.إذ الأولى تعبر عن منافسة شريفة ومحمودة لتحريك عجلة النمو والتطور وتحصيل الوفرة في الإنتاج أدبيا وروحيا ،أو ماديا وماليا،وهي تأخذ صفة السباق النظيف للوصول إلى الغايات وتحقيق المرام.
وأما الثانية فهي ذات سلبية إلى أقضى الحدود ومؤدية إلى نقض المواثيق والعهود بنيّة الإضرار وتمني زوال النعمة عنه مع سبق والإصرار والترصد. وصاحبها قد يعمد بكل ما في وسعه إلى وضع العصا في داخل العجلة لإيقاف السباق عنوة وإسقاط المنافس شر سقطة على أم رأسه وأب أنفه وأنف أبيه لا فرق.
وإذا كان الجانب النفسي في هذه الثنائية المتقاربة والمتناقضة لا يمكن رصده عن طريق الأرقام وحساب البورصات،أو مجرد إخراج جانب منه إلى الواقع الحسي الأمبريقي فإن الأمر سيكون متاهات في دهاليز لا يدرك منتهاها ولا يتبين مرساها.
والمنافسة بمفهوميها الإيجابي والسلبي من حيث ارتهانها بقضايا المجتمع وحياته المعيشية أو الاستهلاكية على الدوام والمياومة لا تتجاوز أربعة عناصر أساسية في حياة كل أمة وشعب وهي كما يلخصها الحكماء :”إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة”.
وعند هذه الأركان تتشابك التخصصات والأعمال والتوظيفات وتتحدد الأولويات والمرتكزات ،يتربع على عرشها الركن الأول وهو: الإمارة أي الملك، سيحدد مفهومه وضرورته ابن خلدون بأنه:”منصب طبيعي للإنسان،لأنا قد بينا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم ،وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ،ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه .كما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض،ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك
ثانيا:جدلية المال والسلطان في دفع المنافسة إلى الأمان
فوظيفة الملك ،أو الحاكم بعبارة عامة، هي تنظيم المنافسة وصيانة التدافع عن التصارع في حدود السلمية لا السلبية،وفي حماية للمعاشات لا الإخلال بتوزيعها وتضييعها.وهذا التنظيم يتم عن طريق السلطة التشريعية والتنفيذية والتي يكون حاضرا عندها الملك حضورا فاعلا وموجها، وخاصة في بلدان وأنظمة ذات الطابع الدستوري وليس البرلماني.
لكن وفي حالة وجود تساهل أو تأجيل غير محسوب ،لمتابعة ومراقبة تنامي المنافسة غير الشريفة ومد أصحابها أيديهم بالتطاول على المرافق الحيوية أو المعاشات التي عليها يتأسس العمران وينتظم المجتمع، فإنه حينئذ قد يتناسل خطران سرطانيان سيهددان الاستقرار بكل مستوياته والذي يتحدد بالدرجة الأولى في الاحتكار المالي لقيمة الرجال والأعمال والمنتجات والمصنوعات، و تحجير وظيفة السلطان في حمايته.
وحول هذا الموضوع يقول أبو حامد الغزالي:”فكل من عمل فيهما – أي الدنانير والدراهم – عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما،فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما ،وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه ،لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به،وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب.
فالخطر الأول المحدق قد يكون نابعا من جهة المحتكر والمضارب والمراهن أو المقامر على الملايير بانتهاز الهزات والزلات ،تماما كما يحدث في سوق البورصات من صعود وهبوط مفاجئ بمجرد ابتسام رئيس دولة عظمى أو تهديده ووعيده ،أو حتى بمجرد نشرة للأرصاد الجوية قد تكون صحيحة وكاذبة وهي مسيسة بدورها فتنزل عندها الأسهم أو ترتفع ويضيع معها ما يضيع.
وبهذا فقد يضع المحتكر يده على مصادر حيوية للبلاد ويحتكر السوق والعباد ،وخاصة إذا كان صاحب هذه المنافسة يجمع بين قوتين مهيمنتين ومسهلتين للاستبداد التجاري ألا وهما :الثروة والجاه المكتسب بالقرب من الحاكم أو السلطة،كما يقول عنه ابن خلدون :”أنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يسارا وثروة من فاقد الجاه،والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه،فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي وكمالي ،فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه،وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه.فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها ،فتتوفر عليه .والأعمال لصاحب الجاه كثيرة ،فتفيد الغنى لأقرب وقت،ويزداد مع الأيام يسارا وثروة”.
وأسطر هنا بإلحاح على الجملة الأخيرة حيث نمو الثروة بشكل سريع وسرطاني لا يفي بقيم الأعمال ولا قوانين المعاشات، لأن المنافسة هنا قد أصبحت مهيمنة بفعل غير ذي علاقة بالسير العادي والسليم لقانون التجارة والأرباح عند سقفها المشروعنولا هي خاضعة للمراقبة الضريبية ولا المكوسات .
وبهذا فتدخل الثروة في باب الاحتكار والاستئثار وعدم القابلية للرصد والاستقرار ويسود منطق “الأكل مع الذئب والرعي مع المعز” حيث اقتصاد :”اللّي لْقاها ما يْخَبَّرْ“كما تقول الحكمة المغربية.
ثالثا:الإجراء الحكيم في صد الاحتكار والتعتيم
وهنا فلم يعد الاقتصاد مبنيا على قانون العرض والطلب ولا الدخل والخرج ولا اعتبار الجودة والرداءة،وإنما أصبح مقيما بالجاه القريب والبعيد ،والمنصب والامتيازات،والحظوظ والترخيصات ، وهذا حتما قد يؤدي ويورث خوافا تجاريا أو فوبيا اقتصادية تتميز بالتردد في العرض والطلب، و تحديد السعر وهوامشه ،والمواد ومستحقاتها، مما يقتضي ضرورة تدخل الحاكم الحكيم لحماية العناصر المكونة للمنافسة وهي:المنافِسِ والمنافَس والمنافَس به والمنافس فيه ،والمتنافَس ،عليه أو من أجله،وهو المستهلك لا غير.
تماما كما هي المعادلة في القصة القديمة التي تحكي عن صاحب القارب واحتياره في نقل ما بصحبته من ذئب وكرنب وعنزة. بحيث الذئب قد يأكل العنزة والعنزة ستأكل الكرنب إذا تركوا لوحدهم.ومع هذا فلا يستطيع أن يحمل الثلاثة معا حتى لا يغرق القارب ،فهو إما أن يحمل أحدهم ويترك الاثنين.وهذان الاثنان مهيآن أو غير قابلين للتعايش والحماية من التطاول عند فرصة الانتظار وغياب المراقب.فكيف الحل ليقطعا الوادي من غير مشاكل؟
وأما الخطر الثاني فهو عبارة عن تجاوز الخطوط الحمراء من طرف أصحاب الحظوظ والمضاربين من التجار وذوي الثروة المتعاظمة بسبب علاقتها مع السلطان،بحيث لن تصير رحى المنافسة دائرة بين المواطنين العاديين فيما بينهم وإنما سترتقي إلى الأثرياء في مواجهة الحاكم والاقتراب من حدوده في التدبير المالي والممتلكات وأسباب الرفاهية وتنوعها،وهذا مما تنبه إليه ابن خلدون أيضا باعتبار:”أن الحضري إذا عظم تموله وكثر للعقار والضياع تأثّله ،وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك وانفسحت أحواله في الترف والعوائد زاحم عليها الأمراء والملوك وغصوا به ولما في طباع البشر من العدوان تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده،وينافسون فيه ويتحيلون على ذلك بكل ممكن حتى يحصلوه في ربقة حكم سلطاني،وسبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله”.
إنها ضرورة المصادرة المدبَّرة وافتعال المشكل والمؤامرة لحماية المنصب من أن ينافس فيه،إذ من طبيعة الملك الانفراد بالمجد،وهذا الإجراء طبيعي لحماية الدولة ومعها الشعب من تغول أصحاب الأموال والمضاربات والاحتكار ،وخاصة أولئك الذين يعملون في السوق السوداء أكثر من البيضاء !!
أما إذا كان التأخر عن الإجراء قائما، مع غض الطرف واعتبار الضغوط الخارجية ومزاعم المنافسة الحرة المتوحشة، فإن الخطر سيكون محدقا بالملك أو الحاكم نفسه ومعه الدولة ،عميقة كانت أم عتيقة،وهذا هو اللوبي السرطاني الذي سيكون قد توسع وخرج عن السيطرة :”لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزارة والأولياء استمر لها ذلك وقل أن تخرج عنه “على حد تعبير ابن خلدون.
لكن تكسير هذا اللوبي أو العصابة الخفية قد كان في الماضي سهل المنال ،لأن المال كان عبارة عن أكوام معدنية من ذهب وفضة ويصعب على المالك نقلها بالجملة وفي ظرف وجيز دون تعرضه للملاحقة،وأما الآن فالسرعة مهولة في النقل والانتشار والاستعداء وطلب التدخل الخارجي وسحب الملايير بمجرد ضغط زر أو نقرة هاتف.وهذا يقتضي حكمة فائقة في حل الأزمات وتريث وتتثبت، من غير الانفعال كثيرا بهدير الجمهور وصراخه، ولا تشكيك وتحريض الأعداء من وراء دهاليز إلكترونية وغيرها لا يعرف خطرها وخباياها إلا أصحاب الحال وذوي الاختصاص في الرصد والمتابعة. أحبك يا وطني.