ارتبطت طريقة تفكير ووسائل تعبير كثير من الباحثين بفكرة مهيمنة هي أن المنظور التوحيدي يقوم في بنائه على المتصل المعياري وفقط، وأن حسابات متصل الواقع وحركته لا تدخل في نطاق عمله أو حيز مبادئه التي يمكن إلقاءها في ميدان البحث أو التأطير النظري، في تجنب للبعد الوضعي لاتهامه بالنسبية والمادية وهذا – كما في وجهة نظر الباحثين- ينبغي أن يتنزه عنه المنظور الوضعي التوحيدي.
ويأتي هذا الارتباط في طريقة التفكير الذي يقوم على منهجية التفكيك والانعزال بين المنظور التوحيدي والواقع على الرغم من أننا- باحثين مسلمين- نؤمن وجدانيًا بمدى الاتصال بين النظري والعملي في جوهر “الوحي” ونردد دائمًا قوله تعالى – في موضع الذم لانفصال القول عن العمل- {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]. إلا أن ذهنية الباحث المسلم – غالبًا- عندما تنطلق لرؤية قضية / ظاهرة ما (بالوصف أو التحليل أو التفسير) يغيب عنها هذا الثابت الإيماني الأخلاقي، ويتحول خطابهم البحثي إلى خطاب وعظي ( ما ينبغي)، وهو نمط من الخطابات لا يجد له مكانًا في ميدان البحث، فلا يناسبه، وربما جاء نفور عدد من الباحثين غير الإسلاميين لهذا المنحى (غير المناسب) للتعامل مع المنظور التوحيدي في المجال البحثي الإنساني في ضوء ما روَّج لهذا النمط البحثي.
نحاول في عدة مقولات الموجزة إثارة التفكير حول موضوع المعياري والوضعي أو النظري والتطبيقي أو التصوري والواقعي أو المطلق والنسبي في المنظور التوحيدي والموقف من كل ذلك.
الواقع في الوحي
الواقع من حيث الاستعمال القرآني – يحمل معنى السقوط والثبوت فالساقط واقع صار في متناول الحواس وهو ثابت – أيضًا فيمكن إدراكه بالحواس دون أن يشوش على ذلك الإدراك أو تربكه الحركة وعدم الثبوت، وفي التنزيل: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج : 1]: أي سقطت أو وقعت إلى الأرض، وهو ما يضيف بعدًا آخر للمعنى عندما نتدبر قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82]، فالقول الإلهي، إذا وقع على قوم فلا راد له، ووجب تحقق مضمونه ومعناه فهو قول واجب الثبوت والتحقيق[1].
وقد ورد مشتق (وقع) في القرآن حوالي (11) مرة منها: {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] ، {وَقَعَ أَجْرُهُ } [النساء:100]، {وَقَعَ الْقَوْلُ } [النمل:82]، {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ }[ يونس:51]، {فقعوا له ساجدين} [الحجر : 29].
ووقع المطر نحو: سقط ومواقع الغيث: مساقطُه، ويقال: وقَع الشيءُ مَوْقِعَه، والعرب تقول: وقَعَ رَبِيعٌ بالأرض يَقَعُ وُقُوعاً لأَوّلِ مطر يقع في الخَرِيفِ. والمواقعة في الحرب…[2].
وقد شغل الواقع مكانة رئيسة في الوحي الكريم الذي بدأ من الله (المطلق – المعياري – الثابت – التصوري) إلى الإنسان (النسبي – الوضعي – المتغير – الواقعي). وجاءت موضوعات وقصص القرآن وتشريعاته لتصويب هذا الواقع النسبي الوضعي، الذي شكل بعد (الله) مادة القرآن الكريم سوره، وآياته. وطرح القرآن قضايا الواقع وبسطها للمناقشة، والتحليل، والتفسير، والتوجيه.
وهذا جانب مما يحكيه الوحي عن الواقع، ويبين كيف يشغل (الواقع) بتفاصيله المادية الصغيرة والنسبية مكانته في القرآن: ففي قصة داود عليه السلام يرصد الوحي في سورة الأنبياء ما يلي:
– {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }[ الأنبياء:78].
– {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ }[ الأنبياء:79].
– {وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
كذلك قوله تعالى في تعداد نعمه على الإنسان:
– {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل:81].
وفي بناء سد يأجوج ومأجوج وقصة التعامل مع المعادن والصخور وطريقة البناء الفريدة المميزة، وتفصيل منهجية ذي القرنين في البناء والخطوات العلمية والتجريبية المتبعة:
– {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ
– حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ،
– قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا ،
– قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96].
والوحي مُشبَّع بمثل هذه المسائل التي يصف فيها الواقع المادي النسبي المتغير ويرصده في تسجيل تاريخي للبشرية التي لم تعاصره، ولكنه من أجل أن تفهمه وتعي مناهج التفكير والوسائل إذا استخدمت الأدوات البحثية والعلمية الملائمة.
وفي ذات المعنى يصور الوحي ثواب الآخرة (الغيب) تصويرًا ماديًا يتوافق مع تطلعات الإنسان وبُعده المادي وطبيعته التي تشتاق غالبًا إلى المحسوسات في المكتسبات والجزاء، وفي المقابل أيضًا يذكر العقاب في الآخرة بنفس المعنى المادي المحسوس (فذلك ليس انحرافًا عن الطبيعة البشرية المخلوقة التي تقترب غالبًا من لذتها وكل ما يقرب لها، وتبتعد عن ألمها وكل ما يسبب ذلك الألم) ومن ذلك قوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد:15]. وفي العقاب { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [ النساء: 56].
[1] منى أبو الفضل، طه العلواني: مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، القاهرة، دار السلام، ص13.
[2] الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن, ص880.