قبل الحديث عن المودة والرحمة بين الزوجين نعلم أن في قلب الإنسان عواطف قد تبقى حبيسة لا يستطيع البوح بها ، وقد يترجمها إلى زواج ، أو يسير في الظلام حيث يفقد دينه وخلقه. هذا الحب – إذا سار في طريقه الصحيح – يحتاج إلى إمداد مستمر حتى يبقى وينمو وينتج ثمارا يسعد بها الحبيبان.
ومن الجدير بالاهتمام قبل الدخول في تجليات الحب أو موارده أن نؤكد على أن الحب السعيد المسعد هو الذي يتبادل فيه الزوجان هذه المشاعر الطيبة التي تتضرر العلاقات كثيرا بغيابها ، ويظل أحدهما أو كلاهما يبحثان عنها طوال الحياة ، ومهما توافر من متع الحياة – في غياب الحب – يبقى العطش الشديد له والحاجة الأكيدة إليه.
ومن سوء العشرة أن يقدم الحب من جانب ويقابله الجانب الآخر بالنفور؛ إما اتباعا لنصيحة قرناء السوء الذين يرون أنه لابد لأحد الزوجين أن يركض وراء الآخر فإذا أدركه مات الحب ، أو للجفاف العاطفي الناشيء من بيئة لا تعرف الحب ولا تريد أن تعرفه أو حتى تجربه.
المودة والرحمة منحة إلهية
بعض الناس يدرك الطريق الصحيح للمحبة في السماء والقبول في الأرض ، فيبدأ بأول خطواته وهي السعي لإرضاء الله تعالى ونيل محبته سبحانه ، قَالَ ﷺ : (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ في أَهْلِ السَّمَاءِ؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ في أَهْلِ الأرْضِ)[1] ، وقال ابن عباس في قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا } (مريم : 96)، قال: يحبهم ويحببهم إلى الناس”[2]. ومن الناس الذين نسعى لمحبتهم الزوج فكلما حقق الزوجان الإيمان وعملا الصالحات حلت المحبة بينهما.
مصادر المودة والرحمة
تتعدد المصادر التي تمد العلاقات الزوجية بالمودة والرحمة نختار منها:
المؤانسة
مما يحقق الود بين الزوجين أن تكون المؤانسة أحد الأهداف التي يسعيان إليها من خلال البر والإحسان إلى بعضهما على تعدد صوره وأشكاله ، ففي دروب الحياة التي ينشغل فيها الإنسان عن نفسه وحاجاته الأصلية يبدأ الفتور بين الزوجين بهذا الصمت الذي يقتل العواطف ، ولتحقيق المؤانسة هناك أدوات عدة منها:
- الحوار الراقي الذي يتلمس الأحاسيس والمشاعر والآلآم والآمال ، وقد ضرب النبي – ﷺ – المثل للأزواج في حسن إيناسه لأزواجه ؛ ومن ذلك ما جاء في كتب السنة من روايات تذكر محادثاته ﷺ مع زوجاته ، ومع شدة استغراق النبي – ﷺ – في صلاته إلا أنه يعود إلى وظيفته كزوج محب ما إن ينتهي من الصلاة ، قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – عن النبي – ﷺ – بعد أن ينتهي من صلاة الليل:( فَإِذَا قَضَى صَلاَتَهُ نَظَرَ ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي ، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ)[3] انظر إلى حرصه ﷺ على عدم إقلاق راحة السيدة عائشة ، فيتلمس يقظتها لكي يتحدث معها أو يتركها حتى يحين وقت الصلاة.
- وفي بيت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها يبيت ابن عباس فيجد النبي ﷺ يحدثها قبل أن ينام.
- نرى رسول الله – ﷺ – يحدث أهله قبل أن يرقد ولنا فيه – ﷺ – الأسوة الحسنة، فالحديث في مثل هذه الأوقات – وبعد يوم مليء بالعناء والأعمال – وإيناس المرأة بالكلمة الطيبة والعبارة اللطيفة يداوي ما عسى أن يكون وقع من جراح، ويلطف ما يمكن أن يكون وقع من عنف، وليخلد الجسد إلى الراحة والذهن صاف إلا من ذكريات سعيدة تداعب خيالها الروح، فيستيقظ المرء وقد استعاد بدنه العافية والنشاط ليواصل سيره إلى الله تعالى ، وقد تزود بالهمة والرجاء في الله تعالى وفي غد خير من اليوم ، هذه الكلمات التي يؤنس بها الإنسان أهله تقوي حبال الود وتوثق روابط المحبة.
- ويشكل الحوار بين الزوجين الحبل السري الذي تتغذى منه السعادة الزوجية، وهو مهم ليس لحل المشكلات ولكن لمنع وقوعها ويمثل الحوار في نظر المرأة لمسة حنان تنتظرها من زوجها ، ولهذا كله فالمهم أن يتحادث الزوجان ويتسامرا ويشكو كل واحد منهما للآخر ويطلب مشورته في بعض ما يعنيه) [4] ومناقشة الأمور التي تخص الأسرة ومستقبلها بطريقة تقدم مصلحة الأسرة واستقرارها مما يعمق الروابط الأسرية ، ويجعل من الجميع شركاء في اتخاذ القرار بعد أن يتعلموا طريقة التفكير الصحيح.
- ومن المؤانسة مداعبة الرجل أهله بكلمات الغزل التي لا يصح أن تسمعها من غيره.
- ومما يؤنس النفس ويديم المحبة والمودة بين الزوجين إتاحة الفرصة لكي تنال النفوس حظها من الترويح المباح ، والشباب بحاجة ماسة لذلك على أن تلبى بالقدر المعقول، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ – ﷺ – وَإِمَّا قَالَ: “تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ “. فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: “دُونَكُمْ يَابَنِي أَرْفِدَةَ”. حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: “حَسْبُكِ؟ “. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: “فَاذْهَبِي”)[5].
- نرى هذه الصورة التي تظهر فيها العاطفة الصادقة” فأقامني وراءه خدي على خده” وانظر كذلك إلى تشجيع النبي – ﷺ – للذين يلعبون ، “دونكم يا بني أرفدة” دفعا لهم إلى مزيد من الإجادة حتى إذا أخذت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – حظها من الرؤية لهذا المشهد الترويحي ،سألها النبي – ﷺ – ليعلم هل اكتفت أم لا زال في نفسها رغبة إلى النظر إلى السودان وهم يلعبون؟
تعاون يثمر محبة وألفة
على امتداد التاريخ رأينا صورا عديدة من معاونة المرأة لزوجها على أعباء الحياة بالعمل الذي يناسب طبيعتها ، وبصبرها على ضيق العيش ، وبحسن اقتصادها في النفقات ، والمشاركة في تحقيق الأهداف الكبيرة التي تستغرق وقتا وتطلب جهدا مضاعفا ، ويبدأ التعاون من العمل معا في المنزل ، وهذه المشاركة ليست زيادة لأعباء الرجل فوق ما يتحمل من أعباء العمل والحياة بل هي نوع من إتاحة الفرصة للتقارب والتفاهم.
وقد تكون مساهمة الرجل في أعمال البيت ورعاية الأولاد بمفهومها الشامل محدودة ؛نظرا لطبيعته الشخصية أو لطبيعة عمله لكن كل وقت يتشارك فيه الزوجان في عمل ما حتى لو استطاعت الزوجة أن تقوم به وحدها يوفر فرصة لتثبيت المودة وإمداد الحب برافد جديد، وليس من الرجولة في شيء أن يمتنع الرجل عن أعمال البيت فقد كان النبي ﷺ سيد الرجال ومع ذلك تقول عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سُألت مَا كَانَ النَّبِيُّ – ﷺ – يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ –تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ)[6].
وتفصل السيدة عائشة رضي الله عنها بعض الأعمال التي كان يقوم بها النبي ﷺ داخل البيت فتقول :”ما كان إلا بشرا من البشر؛ يفلي ثوبه [يتتبع ما فيه من هوام البدن][7]، ويحلب شاته، ويخدم نفسه” ولأحمد وبن حبان من رواية عروة عنها:”يخيط ثوبه، ويخصف [يخيط]نعله “وزاد بن حبان :”ويرقع دلوه”)[8]
اختيارالكلمة الطيبة
مما يستديم الود اختيار الألفاظ المناسبة في أحلك اللحظات شدة وعسرا ومن ذلك حالة الإخبار بخبر مؤلم كوفاة الولد و قد ضربت أم سليم رضي الله عنها المثل في ذلك عندما توفي صغيرها تصبرت فصبرها الله واختارت أدق الألفاظ وأرقها” فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ [زوجها] قَالَ: كَيْفَ الغُلاَمُ، قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ[9] وكم من كلمة لم يحسب الرجل أو المرأة حسابها تركت جروحا غائرة في نفس الطرف الآخر
التغافل والتجاوز
من الرحمة التغافل عن الزلات والتجاوز عن العقوبة أو التأنيب ، وهذا يكون في الصغائر التي لا يسلم منها أحد وإن كان طول العشرة يدفع الزوجين إلى التنبه إلى ما يرضي الطرف الآخر وما يؤذيه ومحاولة كل طرف أن يتخلص من عيوبه ، وهذا يتم بسبب الحب وإذا قدره الطرف الآخر تقديرا صحيحا يزيد من رصيد المحبة ، ولعل من دواعي التجاوز عن العقوبة والصبر على العيوب قول النبي ﷺ :«”لَا يَفْرَكْ [يبغض]مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً. إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ” أَوَ قَالَ “غَيْرَهُ”.»[10]
من ذا الذي تُرضى سَجاياه كلُّها
كفى المرءَ نُبلاً أن تُعَدّ معائبُهْ [11]
مسؤولية مشتركة
كثيرا ما يشكو أحد الأطراف جفاء الآخر دون أن ينظر في نفسه ، هل هو السبب؟ أم الظروف المحيطة؟ أم قلة إدراك كل طرف لمسؤوليته عن الحفاظ على كيان الأسرة؟
- أنصبة الآخرين من القلب:حب الرجل لامرأته والعكس ليس احتجازا لقلب ، بل هناك مساحات ينبغي أن تبقى لأصحاب الحقوق؛ مساحة الأم والأب والعائلة ، ومن أسباب المحبة أن يلقى هؤلاء حبا وودا من الرجل وامرأته.
- صفحة في كتاب الغدر: والبعض ييأس من حب زوجته كما تيأس النساء من تعلق زوجها بها ، فهي لم تقبله منذ البداية أو كان الحب بينهما ثم أصابه الفتور أو الموت ، وبدلا من العمل المشترك على إحيائه إرضاء لله تعالى وتحسينا لجودة الحياة بينهما يسعى كل منهما أو أحدهما لفتح صفحة أخرى في كتاب الحب المحرم ؛ خيانة للميثاق الغليظ بين الزوجين وسيرا وراء الهوى الذي يهوي بصاحبه في الخراب والخسران ويرون أن ذلك أسهل من الطلاق وأيسر من أن تكلف المرأة نفسها الانفصال عن هذه الزيجة التي لم تصنها هي أو زوجها ، وأرخص من أن تكلف من تحب بتكاليف الزواج المشروع ، وقد دلت التجارب على خسران من يتخذ الخيانة وسيلة لإرواء عطش قلبه ، ومن اغتر بستر الله تعالى ولم يتدارك نفسه بتوبة نصوح ؛ فليتذكر أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن باب التوبة مفتوح على مصراعيه ،وليتذكر قوه تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ [فصلت: 43].