عظيمة هي معجزات النبي الكريم سليمان – عليه السلام – والمُلك الذي وهبه الله له، الذي لم ولن يوهب لأحد غيره، كما طلب هو بنفسه ( قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ). إن قدرته على فهم منطق الطير وتسخير الرياح واستخدامها في تنقلاته، بالإضافة إلى تسخير الجان يعملون له ما يشاء، مستخدمين علمهم وقوتهم وقدراتهم.. كل ذلك ضمن المُلك الذي وهبه الله له. حتى كان المشهد المعجز الذي حيّر العلماء قديماً وحديثاً. مشهد إبراز القوى والقدرات في مجلسه، بين عفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب، حول عرش بلقيس ومن له القدرة على إحضاره سريعاً.. وحول تلك المبارزة أو إبراز مظاهر القوة، يكون حديث اليوم.
المشاهد القرآنية حول الملكة الحكيمة العاقلة بلقيس، ومراحل ظهورها ضمن حياة النبي الكريم سليمان – عليه السلام – تستحق كثير تأمل ودراسة، ابتداءً من مشاهد عرض الدعوة، واختبارات الذكاء وحسن التصرف، مروراً بإظهار القوة والقدرة في مسألة إحضار عرشها، ثم انتهاءً بإعلان إسلامها لله مع سليمان.. كلها مشاهد يمكن أن تُدرّس في علوم الدعوة والنفس والاجتماع والسياسة، بالإضافة إلى بعض جوانب من علوم كونية كالفيزياء.
أيكم يأتيني بعرشها
بعد أن نقل الهدهد خبر ما كان عليه قوم بلقيس للنبي سليمان – عليه السلام – ثم تكليفه بإلقاء الرسالة السليمانية على عرشها أو موقع جلوسها، أرسلت هدية للنبي سليمان تليق بالملوك، وفي الوقت نفسه تستكشف هدفه. فما لاقت استحساناً منه، وقام بردها، فما آتاه الله من مُلك عظيم، تجعل تلك الهدية، وإن كانت عظيمة الشأن في نظر بلقيس، إلا أنها بلا شأن أو قيمة بجانب مُلكه عليه السلام.
لكنه أدرك أنها ملكة حكيمة عاقلة، لم تعتد بقوتها ولا ترغب في حروب ومنازعات واستعراض قوى، بعد أن وصله خبر عزمها القدوم بنفسها إليه في وفد رفيع المستوى. فأدرك عليه السلام أن مثلها لا يمكن، بل لا يجب أن تبقى على ضلالة وشرك. إنها دون شك لم تصلها رسالة الإسلام التي جاء بها سليمان ومن قبله وبعده الأنبياء إلى خاتم المرسلين، عليهم الصلاة والسلام.
ولكن قبل عرض الدعوة عليها، أرادها النبي سليمان – عليه السلام – أن ترى عظمة مُلكه، الذي منحه صاحب المُلك والكون والأمر كله، المستحق للعبادة وحده لا شريك له. يريد أن يريها أن هدفه من كتابه هو تبليغها رسالة الإيمان، وليس طمعاً في أرضها وملكها.
مسألة إحضار العـرش
بعد أن وصلته أخبار تحرك بلقيس ووفدها واقترابهم من فلسطين والبيت المقدس، حيث النبي سليمان – عليه السلام – قام وطرح سؤالاً على حضور مجلسه العجيب والمهيب، من الإنس والجان: ( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) ؟
ها هنا قد تتساءل عن السر في رغبة سليمان – عليه السلام – إحضار عرش يزن بالأطنان، من أرض سبأ في اليمن إلى البيت المقدس في فلسطين، وهما على مسافة 3000 كيلو متراً تقريباً؟ أو كما قال صاحب الظلال:”ما الذي قصد إليه من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمه مع قومها؟ نرجح – والحديث لسيد قطب رحمه الله – أن هذه كانت وسيله لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته. حيث عرض عفريت من الجن أن يأتيه به قبل انقضاء جلسته هذه. وكان يجلس للحكم والقضاء من الصبح إلى الظهر فيما يروى. فاستطول سليمان هذه الفترة واستبطأها – فيما يبدو – فإذا ( الذي عنده علم من الكتاب ) يعرض أن يأتي به في غمضه عين، قبل أن يرتد إليه طرفه، دون أن يذكر القرآن اسمه ولا الكتاب الذي عنده علم منه .
لكن عرض العفريت لم يعجب النبي الكريم، وإنما عرض الذي عنده علم من الكتاب، الذي لم يكد ينتهي من تقديم عرضه إلى سليمان حتى كان العرش في المجلس، دون أن ينقص منه شيئاً ( فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر .. ) اعتبر ما وقع أمامه – عليه السلام – نوعاً من الابتلاء الذي يُبتلى به الأنبياء الكرام. ابتلاء يهز الأبدان والقلوب هزاً. ابتلاءٌ لا يثبت أمامه سوى الأنبياء الكرام.
أمور ثلاثة
خلاف القدماء والمعاصرين في هذا المشهد حول أمور ثلاثة. الأول : من هو هذا الذي عنده علمٌ من الكتاب؟ أكان من الجن أم الإنس؟ الثاني : كيف أحضر العرش بضخامته، من مسافة تقطعها الرواحل في شهرين تقريباً؟ الثالث: ما هذا الكتاب الذي كان له نصيب وعلم منه؟
وعلى طريقة القرآن الذي لا يدخل في التفاصيل إن لم تكن للتفاصيل فائدة، لم يرد له اسم أو صفة أو نوع، ولا تبين من يكون أو كيف أحضر العرش بضخامته، وما الكتاب الذي أخذ منه بعض علمه؟ خأخذ منه بعض العلم؟أبىيبى ولكن لا يعني هذا عدم التأمل والتفكر في المشهد. فلقد تبين مثلاً مدى قوة العلم وتفوقه على قوة الجسم والعضلات. العفريت بما أوتي من قوة بدنية وقدرة على التحرك، لم يلفت انتباه النبي سليمان بالقدر الذي قام به من كان عنده علم من الكتاب. إذ أن ذاك المخلوق، سواء كان جنياً أم إنسيا، تفوق على العفريت القوي، بعلم معين مكّنه من نقل عرش بلقيس على مسافة ثلاثة آلاف كيلومتراً، إلى مجلس الحكم حيث النبي سليمان عليه السلام.
لكن مهما قيل عن هذا الكائن، إلا أن بعض العلم الذي كان عنده من الكتاب، ربما يُقصد به علماً معيناً كان توصل إليه في ذلك الزمن، الذي يبدو أنه كان زمناً علمياً وهندسياً أو عمرانياً متفوقاً جداً، أو إن صح التعبير، حضارة متقدمة اشترك في صناعتها إنس وجان.
إن مجتمعاً يتشارك الإنس والجان والحيوان في شؤون كثيرة تحت إمرة وقيادة سليمان – عليه السلام – لا شك أنه قد بلغ مبلغاً عظيماً وعميقاً في شتى أنواع العلوم والفنون والمهارات. وليس في ذلك ما يثير الغرابة، وخاصة لمن يعيشون في زمننا هذا، حيث التقدم العلمي والتقني الهائل.
النبي سليمان – عليه السلام – وبما أنه سأل الله أن يهبه ملكاً لم ولن يكون لأحد بعده، فليس من المستبعد أن الله أفاض عليه من علوم الكون وأسراره الكثير الكثير، وربما كان بدوره ينقل بعض تلك العلوم والفنون والمهارات والأسرار لبعض خواصه أو خواص الخواص من الإنس والجن، لأجل صناعة أو بناء حضارة لم ولن تظهر مثلها أبداً، أو لن يكون الوصول إلى ما وصلت إليه حضارتهم، بالأمر السهل. تلك نقطة أولى.
أما الثانية، فالأرجح بأن هذا الذي كان عنده علم من الكتاب، أقرب لأن يكون من عالم الجن إلى عالم الإنس، باعتبار أن الجن أقدم وجودياً على الأرض من الإنس وبآلاف أو ربما عشرات الآلاف من السنين، وبالتالي هم أقدم حضارة وعلماً من الإنس، وخاصة أن وجودهم تحت إمرة سليمان – عليه السلام – يعلمهم ويوجههم ويسخرهم لخدمته في مجالات عدة، أكسبهم تفوقاً علمياً على من سيأتي من بعدهم وهم الإنس.
أين العبرة من المشهد ؟
كما ذكرت منذ البداية، أننا لن نخوض عميقاً في ماهية الذي أتى بعرش بلقيس وما حول ذلك الأمر، لأن العبرة الأكبر والأهم من مشهد بلقيس وظهورها في عالم النبي الكريم سليمان – عليه السلام – هو تأمل ذاك الكم الهائل من الحكمة والكياسة عند بلقيس، وكيفية تدبر وتدبير الأمور.
إن ملكة بعظمتها، ما تهورت في مغامرة غير محسوبة العواقب حين دعاها سليمان – عليه السلام – وقومها أن يأتوه مسلمين، بل تريثت وأدارت الأمر المستجد في حياتها وحياة مملكتها بكل حكمة وتعقل، حتى رأت ما كانت تخفيه من قناعات عن قومها، والتي كانت قد بدأت تتشكل في نفسها بعد رد الهدية، حتى تيقنت تمام اليقين أن الذي تتعامل معه ليس بملك كملوك الدنيا، وأن دعوته لم تكن لحاجة في نفسه، بل لخيرها وخير قومها.
رأت بلقيس كم كانت على ضلالة، حين كانت تسجد وقومها للشمس من دون الله. رأت بلقيس نور الله من خلال تعاملها القصير وغير المتوقع مع نبي عظيم مثل سليمان – عليه السلام – والذي على إثر ذلكم التعامل، برزت حكمتها ورجاحة عقلها وحُسن سياستها للأمور، وأعلنت إسلامها مع سليمان لله رب العالمين، فدخلت تحت إمرته – عليه السلام – غير عابئة ولا مهتمة للجانب السياسي أو السيادي ومسألة الخضوع لملك آخر، لأن خضوعها لم يكن لسليمان – عليه السلام – وإنما لرب سليمان، وملك الملوك.
وهكذا هم أولو الألباب.