من دلالات الهجرة النبوية وأبعادها الحضارية العمل الجماعي التشاركي البعيد عن الفردية والذّاتية لصناعة التاريخ: تاريخ الأفكار والأحداث والجماعة والدولة والأمة، تاريخ العمل والمؤسسة والبيت …وهذا ملحظٌ نجده من أول التخطيط للهجرة إلى نهاية الرحلة.
فالهجرة حدث لم يصنعه النبي عليه الصلاة والسلام لوحده، وإنْ كان هو المخطط والموجِّه، وكان بالإمكان الاستغناء عن هذا العمل الجماعي الذي شارك فيه سبعة وهم: محمد النبي عليه الصلاة والسلام موجِّها، وأبو بكر رضي الله عنه مصاحبان وعلي بن أبي طالب الذي نائما في فراشه ليردَّ الأمانات وأسماء بنت أبي بكر، وعبد الله بن أريقط دليلهما الذي جاء براحلتين، وعامر بن فهيرة الذي كان يرعى غنمه نهارا ويريحها عليهما ليلا، وعبد الله بن أبي بكر الذي كان يخرج من عندهما بسحر فيصبح في قريش بائتا فيها من غير أن يشعر به احد ويتنصت الأخبار في مكة وينقلها لهما ليلا[1].
ومع خطورة الأمر الذي يقتضي السِّرية نجد النبي عليه الصلاة والسلام يتشارك مع الجماعة لصناعة هذا الحدث، ليبين لنا منزلة الجماعة في صناعة التاريخ والحضارة.
دلالات الهجرة النبوية وأبعادها الحضارية في العمل الجماعي
من أبرز مقتضيات العمل الجماعي هو روح الفريق وتفاهمهم، والثقة والأمانة والاطمئنان فيما بينهم، والالتزام بالسِّرية المطلقة، وحيثما فُقد شرط من ذلك فالعمل الجماعي لايفلح، وعندها يصبح كتمان السر والعمل الفردي هو الأساس، ولو لم يكن النبي مطمئنا كل الاطمئنان لهم لَمَا اشترك معهم في هذه الرحلة الطويلة الخطيرة.
والذي نلحظه أنَّ هذا الحدث الذي اشترك فيه كلُّ أطياف المجتمع: محمد نبي وسيد، وأبو بكر صاحب المنزلة المرموقة في مجتمعه، وكان شيخا في العمر، وأسماء ابنته وهي الوحيدة من النساء التي شاركت الحدث، وراعي الغنم عامر بن فهيرة وهو مولى أبي بكر، وابنه عبد الله وهو ” وهو غلام شاب ثقف لقن”[2]، وعبد الله بن أريقط. أي أنَّ هذه الرحلة اشترك فيه الشاب والشيخ والغني والفقير والرجل والمرأة، والمسلم وغيره حيث كان عبد الله بن أريقط على دين قومه، ومع هذا استأجره أبو بكر رضي الله عنه نَظَرا لأمانته.
هكذا تُبنى المجتمعات من خلال العمل الجماعي التشاركي البعيد عن الأنانية والذاتية والافتخار بالفردية، فلم يكن النبي يبجِّل نفسه ويعظمها – مع أنه أهل لذلك- وما كان عليه الصلاة والسلام يشير إلى نفسه إلا إذا تطلبَّ الأمر ذلك، ولم يحصل هذا مع النبي إلا في حالات الجدِّ والشدائد، حصل ذلك عند قعقعة الرماح وصلصلة السيوف، وبلوغ القلوب الحناجر فقد ثبت في” معركة أحد، ويوم حنين، حين انكشف عنه الشجعان، وخلا الميدان، وهو ثابت على بغلته، كأن لم يكن شيء ويقول أنا النبيّ لا كذب … أنا ابن عبد المطلب”[3] والعادة في مثل هذه المواقف تنحني الرؤوس وتلتفت الوجوه حتى لا تُعرف.
هذا العمل الجماعي هو أساس العمران والحضارة، فالفرد لايصنع التاريخ، ولو ادَّعى ذلك كذبا وزوزا كماحدث في العصور المتأخرة، فالتاجر والمهندس والطبيب والعالم والفلاح وعامل التنظيفات والمرأة والغلام وراعي الإبل وصاحب المدجنة وسائق السيارة والباخرة … هم بمجموعهم بنوا المساجد والمدارس والمعامل والمصانع، والمصحَّات والمستشفيات، والمكاتب والمطارات، وفتحوا الأنفاق ورفعوا الجسور، وهم الذي صنعوا السفن والبواخر وعبَّدوا الطرق وشيَّدوا المباني… فالفضل في ذلك يرجع إلى مجموعهم وليس- كما حدث في عصور الانحطاط والتَّرهُّل- إلى القائد المُلهم والزعيم الأوحد، الذي لم ولن تلد مثله النساء!!.
هذا هو الدَّرس الحضاري الذي نأخذه من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الشيء الذي استمر عليه طيلة حياته عليه الصلاة والسلام حتى غدا الاجتماع على الخير وفعله من أعظم مقاصد الشريعة وصار من أوسع أبوابها، فكلُّ خير يُطلب من المرء فعله تُستحسن فيه الجماعات، ولأجل هذا صار الاجتماع مطلوب في الصلوات وفي أماكن الخير والوقوف أمام الظالمين، وفعل المعروف، بل حتى في الطعام فقد:”قالوا: يا رسولَ الله، إنا نأكُلُ ولا نَشْبَعُ، قال: “فلعَلَّكم تَفْتَرِقُون؟ ” قالوا: نَعَمْ، قال: “فاجْتَمِعُوا على طَعامِكُم، واذكُرُوا اسمَ الله عليه، يُبارَك لكم فيه” [4]، ولأجل هذا جاءت النصوص حاثَّة على الجماعة محذِّرة من التفرق والشرذمة.
دلالات الهجرة النبوية وأبعادها الحضارية وصناعة التاريخ
هكذا يُصنع التاريخ وتُصنَع الأمة وتُصنَع مقدراتها وإمكانياتها ووحدتها وتُصهر وكأنها لَبنة وجسد واحد، له مشاعره وأحاسيسه وآلامه ليكون أمَّة واحدة من دون الناس، { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} [الأنبياء: 92]، والصانع لها والموجِّه هو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد بدأت خيوط الصناعة من الهجرة، حتى إذا استقرَّ النبي في المدينة واستراح من عناء الهجرة وآلامها ظهرت ملامح الصناعة وأُطُرُها في وثيقة المدينة :” هذا كتاب من محمد النبي ﷺ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس” [5]
أمة الدّعوة والإجابة، أمة الكلمة والعلم والرَّشَد، أمة الجماعة وصناعة المؤسسة، ونصرة المظلوم والقضاء على الفردية، أمة يُضرب بها المثل ” مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”[6].
أين هذه الصناعة التي بزغ فجرها من بواكير هجرة المصطفى واكتمل بناؤها في المدينة مِن فكرة الفردية والأنا والجشع وادِّعاء الكمال المنفرد وتذويب الجماعة ليظهر الصوت الحقيقي، الصوت الذي يراه صاحبه هو الوحيد، صوت الأنا والكبرياء والتعالي {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: 51، 52] ولتختفي أكذوبة إدِّعاء المشورة وإظهار الجماعة {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] فمتى كان فرعون يستمع لنصيحة ويسمع مشورة ! إنَّه الحرص الكاذب على أفكار الأمة ومصالحها، وطلب التأييد والنُّصرة وتكاثر الأيدي لِما يراه هو لا ماتراه أعين الجماعة، والعجب كلُّ العجب أنْ يتظاهر المفسد بالإصلاح وأنْ يظهر القاتل حرصه على دين الأمة ومصالحها. هكذا دائما هم المستبدون أصحاب الرأي الواحد، لايعرفون فكر المؤسسة ولا يستمعون لرأي الجماعة، وهذا ما نفهمه من إصرار أبي جهل في غزوة بدر ليفرض رأيه قائلا :” والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليها ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا “[7] فمضوا على ذلك.
صوت الفرد، أو صوت الجماعة التي تتفرد بآراء لوحدها وهي ترى نفسها الموجِّهة والكاملة والحريصة على مصالح الأمة {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]، والعجب كلُّ العجب أن يخرج المتطهرون ظلما وعدوانا من أرضهم التي كانت مسقط رؤوسهم، وملعب طفولتهم ومفرش نومهم وأماكن ذكرياتهم… ويبقى الرجس والدَّنس يعيث في الأرض فسادا فلايردعه خلق ولايذكره ناصح، إنه انتكاس الفطرة واختلال الموازين. الصوت البعيد عن المشاركة والتكافل والتكامل هو صوت الزعيم الأوحد والقائد المبجل والرأي الصائب، صوت الحرس والسَّجانين والتعذيب والموت {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} [الأعراف: 123، 124].
وعندما يستخدم هذا المتكبر المتأله المتعالي المنفرد صيغة الجماعة يستخدمها كذبا وزورا، لاحقيقة وتطبيقا {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)} [الأعراف: 127]، فهو من يقتل وهو من يعْفو، بل هو من يحيي ويميت بزعمه { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، وليس للبقيِّة إلا المباركة والتصفيق على إنجازات الطاغية، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فهل هم من كان يمنعه!؟ وهل لهم رأي في القتل أو الحبس أو التسريح! وكأنه يستند على إرادة الشعب ليوهم الآخرين أنَّ هذا الرأي هو رأي الجماعة وليس رأيه الفردي.
لم تكن فكرة الجماعة ماثلة في ذهن النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء الهجرة فحسب، بل كانت لا تفارقه في كل صعوبات الحياة وخاصَّة في أوقات الغزو والاستعداد لها. فكرة الجماعة كانت هاجسا له انطلاقا من تصرفاته في بيته إلى شؤون الحرب والسياسة، فقد سُئلت زوجه عائشة وهي أخبر الناس به ما كان النبي ﷺ، يصنع في البيت؟ قالت: «كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج» [8] وماذا عسى أنْ تكون الخدمة في بئية كالجزيرة العربية؟ إنها حلب الشاة وخصف النعل وترقيع الثوب [9].
تكُلِّلت فكرة الجماعة بالمشورة في كل شؤونه عليه الصلاة والسلام، ولم تكن مشورة كاذبة كا يُفعل في بعض البرلمانات ومجالس الشعب في بعض مجتمعاتنا التي يصنعها الطغاة بأنفسهم في بعض البلدان، بل كانت مشورة يُلزِم النبي عليه الصلاة والسلام نفسه بنتائجها ويستمع لآراء ذوي الرأي حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” [10] والأمثلة في ذلك يصعب حصرها.
بمثل هذا المنهج تعمُر البيوت وتُبنى المجتمعات وتقوم الدول وتنهض، فالدّولة تحتاج إلى جميع أفرادها وعلى القائمين عليها أنْ يحترموا جميع أفرداها احتراما حقيقيا راجعا إلى الشعور بحقوقهم وليس احتراما صوريا شكليا، وعلى القائمين عليها أنْ يعرفوا منزلة الناس ليكونوا موطن الثقة ومحط الاهتمام… وبهذا الشكل يأخذ كلُّ واحدٍ حظَّه ويعرف منزلته وقيمته، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يصحب أي فردٍ من الناس في الهجرة وإنما صحب أبا بكر لأنه الأكثر حرصا على الدعوة والأكثر تصديقا للنبي عليه الصلاة والسلام ولم يختر غير علي لينام موضعه، وهكذا تقوم الدولة، فلا يُهان فيها الكرماء ولايُعظَّم فيها حثالة القوم.