في مقالاتنا السابقة، بنينا فهمًا مشتركًا للتوازن، بدءًا من الفرد ومبادرته، مرورًا بتكافل المجتمع، ووصولًا إلى ضمير السوق. واليوم، نصل إلى الأدوات المؤسسية العظيمة التي وهبتها لنا ثقافتنا لتنظيم هذا الخير وتحويله إلى قوة مجتمعية هائلة: الزكاة والوقف. هاتان المؤسستان ليستا مجرد أداتين للعطاء، بل هما نظامان عبقريان للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

ولكن، لنكن صادقين مع أنفسنا. حين نسمع اليوم عن مشروع زكاة أو وقف، ما أول صورة تتبادر إلى أذهاننا؟ غالبًا ما تكون صورة صندوق إغاثي، أو سلة طعام توزع في رمضان، أو مبلغ مالي يُعطى لسداد فاتورة عاجلة. كل هذه أعمالٌ جليلة ومباركة، ولا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، فهي كالماء البارد الذي يروي ظمأ العطشان في لحظته.

لكن السؤال الأعمق يبقى: ماذا عن اليوم التالي؟ وماذا عن الشهر الذي يليه؟ هل هذه الإغاثة الآنية هي كل ما تهدف إليه هذه الأنظمة الإلهية العميقة؟ هنا يظهر الخلل في الميزان. الخلل بين “الإغاثة العاجلة” التي تعالج الأعراض، و”التمكين المستدام” الذي يستأصل جذور المشكلة. إن الزكاة والوقف في جوهرهما لم يُشرعا ليكونا مسكنًا مؤقتًا للألم، بل ليكونَا علاجًا شافيًا للمرض.

لكي نعيد التوازن، يجب أولًا أن نغوص في أعماق الفلسفة التشريعية لهذه الأدوات العظيمة.

الزكاة، ليست مجرد صدقة. إنها حقٌ معلوم، ونظامٌ متكامل لإعادة تدوير الثروة. بل إن غاية الزكاة في الإسلام هي التنمية بحد ذاتها. وأعظم دليلٍ نفهمه على ذلك يكمن في تفصيل دقيق من تشريع زكاة الأنعام؛ حيث جرت الحكمة الإلهية على أن تؤخذ الزكاة في الغالب من “الذكور” أو من صغار الإناث التي لا تضر بالقطيع. لماذا؟ حتى لا يتوقف النماء، وحتى يظل أصل الثروة (إناث الأنعام المنتجة) باقيًا ومستمرًا في النمو. إنها رسالة تشريعية بليغة بأن الهدف ليس إفقار المعطي، بل ضمان استدامة عطائه ونمائه، وهذا هو جوهر التنمية والاستدامة.

فالزكاة إذن، في تصميمها الأصلي، أداة للقضاء على الفقر، لا لإدارته. هدفها النهائي ليس إبقاء الفقير فقيرًا يتلقى المساعدة كل عام، بل هو انتشاله من دائرة الحاجة ليصبح هو نفسه مزكيًا في الأعوام القادمة.

والوقف، هو العبقرية الاستثمارية في أسمى صورها. فكرة “حبس الأصل وتسبيل المنفعة” هي النسخة الأصلية والأكثر استدامة لما يعرف اليوم بـ “الاستثمار الاجتماعي”. عبر التاريخ، كانت الأوقاف هي المحرك الذي بنى الجامعات كالأزهر والقرويين، والمستشفيات كالبيمارستانات، والمكتبات العامة، مما يثبت أنها أداة بناء حضاري، لا مجرد أداة خيرية.

لماذا إذن، مع وجود هذه الأنظمة العبقرية المصممة للتنمية، ما زال تركيزنا الأكبر منصبًا على الإغاثة العاجلة؟ الأسباب مفهومة: فالأثر فوري ومرئي، والمكافأة العاطفية للمُعطي سريعة، والحاجة الملحة أمام أعيننا لا يمكن تجاهلها. ولكن الاعتماد الكلي على هذا النموذج له عواقب وخيمة، أهمها خلق ثقافة الاتكالية وحل العرض لا المرض. إن المؤسسة الخيرية التي تكتفي بالإغاثة تشبه مستشفى لا يمتلك إلا غرفة طوارئ. إنه يقوم بعمل بطولي في إنقاذ الأرواح كل يوم، ولكنه لا يساهم في رفع المستوى الصحي العام للمجتمع.

إن الدعوة هنا ليست لإيقاف أعمال الإغاثة، فسيظل هناك دائمًا من يحتاجها فورًا. لكنها دعوةٌ جريئة لإعادة توجيه الجزء الأكبر من مواردنا وجهودنا نحو “التمكين”. وهذا التحول ليس مجرد تغيير في الآليات، بل هو أعمق من ذلك بكثير.

البُعد النفسي: من “وصمة الحاجة” إلى “فخر الإنتاج إن الانتقال من الإغاثة إلى التمكين هو قبل كل شيء تحول في “الحالة النفسية” للمستفيد. فالإغاثة المستمرة، رغم ضرورتها أحيانًا، قد تخلق بمرور الوقت “وصمة الحاجة” و”عقلية المستحق” التي تطفئ جذوة عزة النفس. أما التمكين، فهو يعيد للفرد شعوره بالقيمة والكرامة. الأرملة التي تبيع أول قطعة من خياطتها لا تحصل على مال فقط، بل تسترد شعورًا بـ”فخر الإنتاج”  وهو شعور لا يمكن لأي مبلغ إغاثي أن يمنحه. هذا الفخر هو الوقود الحقيقي للخروج الدائم من دائرة الفقر. إن التمكين ليس مجرد “كفاءة اقتصادية”، بل هو “جبر للخواطر” و”إحياء للنفوس” بأسمى معانيه.

وهنا، يبرز تحدٍ حقيقي وعميق، وهو أن الفتاوى الدينية الغالبة والأكثر ممارسة تدفع بالفعل نحو استخدام أموال الزكاة في الأمور العاجلة. هذه المدرسة الفقهية، التي تركز على “إطفاء الحريق” الفوري، هي للأسف المهيمنة. ولكن، من المهم أن نعي أن هذا ليس هو الصوت الوحيد. فهناك مسارٌ فقهي آخر، تبناه علماء أجلاء قديمًا وحديثًا، ومنهم من السلف الصالح، فتح الباب واسعًا أمام استخدام أموال الزكاة في أمور تمكينية تحقق الغنى المستدام للمستحق. ولسنا هنا بصدد إقصاء الرأي الأول أو التقليل من أهميته، فإغاثة الملهوف واجب شرعي وإنساني لا نقاش فيه. ولكننا ندعو بقوة إلى أن نزيد في مساحة الرأي الثاني في ممارساتنا ومؤسساتنا. لماذا؟ لأنه الأقرب إلى حكمة التشريع الأصيلة التي تهدف إلى النماء والاستدامة، ولأنه يحدث أثرًا أوسع ويمكّن المجتمع من تحقيق قفزة تنموية حقيقية.

إن جوهر التحول المطلوب في عملنا الخيري هو الانتقال من عطاء الرحمة الذي يطفئ حريق الحاجة اليوم، إلى “عطاء الحكمة” الذي يمنع نشوبها مستقبلًا.

وهذا يعني أن تتحول الزكاة من مجرد إعانات شهرية إلى “تمكين” حقيقي عبر توفير تدريب مهني وأدوات إنتاج. وأن يتطور الوقف من أطره التقليدية ليصبح “صانعًا للفرص”، فيمول تحديات عصرية كالمحتوى الرقمي العربي، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والاستدامة البيئية.

ويتطلب هذا الفكر التنموي تغييرًا جذريًا في مقاييس النجاح؛ فالمقياس الحقيقي ليس “كم أسرة ساعدناها هذا الشهر”، بل “كم أسرة أخرجناها من دائرة الحاجة تمامًا”. إنه الانتقال من دور “المسعف” الذي يقدم الإسعافات الأولية، إلى دور “البنّاء” الذي يشارك في تشييد مجتمع قوي ومكتفٍ ذاتيًا.