المستشار طارق البشري والدكتور محمد عمارة عَلَمان بارزان من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ولهما إسهامات ذات عمق وتميّز في ترشيد العقل الإسلامي وتنويره، وفي دَفْعِه نحو آفاق الاجتهاد والإبداع المطلوبَيْن بإلحاح.
وبينما تميز العطاء الفكري للمستشار البشري في مجالات القانون، والفكر ، والحركة التاريخية المعاصرة، ورصْدِ العلاقة والتفاعلات بين الوافد والموروث.. فإن العطاء الفكري للدكتور عمارة برز في قضايا الفكر الإسلامي وتياراته الفلسفية وأعلامه، لاسيما المعاصرين منهم الذين أسسوا مدرسة الإحياء والتجديد، بجانب التصدي لتيارات التغريب والعلمنة والقراءات المنحرفة والمحرِّفة.
وليس الانتماء الفكري الإسلامي، والتماسُّ الجاد مع هموم المسلم المعاصر وقضاياه، هو فقط ما يجمع بين العَلَمين الكبيرين.. وإنما يجمعهما أيضًا رحلة متشابهة من التحولات الفكرية؛ جاءت شاهدةً على المأزق الفكري المعاصر الذي وقعت فيه بلادنا ونخبتنا المثقفة، بعد الاحتكاك العنيف مع الغرب على كل المستويات، في القرنين الأخيرين.
وقد سجَّل المستشار طارق البشري شهادته على تلك التحولات وملابساتها ودوافعها.. في مقدمته الضافية لكتاب الصديق العزيز د. يحيى جاد: (المشروع الفكري للدكتور محمد عمارة) الصادر مطلع العام الحالي عن دار “مفكرون”؛ والذي يحاول فيه د.يحيى تجلية الأركان الكبرى والمفاصل الأساسية والمعالم المنهجية للمشروع الفكري للدكتور عمارة.
في مقدمته، مزج المستشار البشري بين ما هو خاص في علاقته بالدكتور عمارة؛ حيث جمعتهما أخوة وصداقة على امتدادٍ يقارب نصف القرن.. وما هو عام، مما يتصل بطبيعة التساؤلات والتحديات التي واجهتهما وواجهت المشهد الفكري بصفة أشمل، والتي أفضت إلى ما مرَّا به من تحولات فكرية مهمة.. فجاءت مقدمةُ البشري شهادةً فكرية مهمة مكثفة على القرن العشرين برمته، وليس فقط على علاقته بالدكتور عمارة.
أخوة وصداقة
في علاقتهما الخاصة، أوضح البشري عمق الصلة الأخوية التي جمعته بعمارة منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، موضحًا أن “القرابة الوجدانية والمحبة والتقدير والاحترام، مع الشعور بالانتماء الفكري المشترك وبالصحبة القلبية؛ إن ذلك كله يُبْقِيني معه على لقاء مستمر وصحبة باقية إن شاء الله تعالى”، حتى وإن تباعدت لقاءاتهما بسبب التقدم في السن وظروف أخرى.
وأشار البشري إلى أنهما، مع مجموعة من المفكرين والمثقفين، لا تزيد على العشرة إلا قليلاً- ضمَّت الأمين العام لحزب العمل الأستاذ عادل حسين، ثم د. عبد الوهاب المسيري في فترة لاحقة، رحمهما الله، ود. جلال أمين لفترة محددة- كانوا يجتمعون في لقاءات متتابعة لمناقشة موضوع فكري مُعَّد سلفًا أو كتاب محدد؛ بهدف أن يضع كل منهم فكره أمام نفسه وأمام إخوانه، ليتناقشوا معًا بشأنه، ويتداولوا فيما يأخذون وما يتركون من الموروث والوافد، بعد دراسة نقدية وتحميص.
هذه اللقاءات تمخضت عنها مراجعاتٌ فكرية مهمة للبشري وعمارة ولبعض أصدقائهما، مثل عادل حسين والمسيري.. بحيث انتهوا إلى أن الاستقلال الوطني ليس سياسيًّا فقط، وليس اقتصاديًّا فقط؛ ولكنه ينبغي أن يُستكمَل باستقلال حضاري ثقافي فيما يتعلق بالمرجعية السائدة. كما انتهوا إلى أن الإسلام ليس عقيدة دينية فقط، ولكنه أيضًا هو الثقافة السائدة في المجتمع؛ بحيث لا يُرجَى قيام نظام ديمقراطي حقيقي باشتراك شعبي عام ومؤسسات فعَّالة وباقية، إلا بأن يكون الإسلام هو الثقافة العامة والمرجعية الأساسية.
هموم جيل وأجيال
أما في الشأن العام، الذي مزجه المستشار البشري بالشأن الخاص فيما جمعه بالدكتور عمارة؛ فقد بيَّن البشري أنه وعمارة أبناء جيل واحد، تفتح إدراكه السياسي لشئون بلاده مع نهايات الحرب العالمية الثانية ومع نهايات الأربعينيات من القرن الماضي، وكانت مسألة الاستقلال السياسي للوطن من أهم الشواغل العامة الرامية لإيجاد الوطن المستقل، ولتحقيق النهوض الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والتقدم الفكري والحضاري والثقافي.
ويضيف البشري: “كنا، بوصفنا عربًا مسلمين أي ننتمي لهذه الحقول المعرفية الحضارية ونصدر عنها، فيما تربينا عليه بمدده الثقافي المتنوع.. كنا- في ذات الوقت- ننهل من علوم الغرب الوافدة إلينا من خلال الأجيال الثلاثة السابقة أو الأربعة. واختلفت وتنوعت جرعات الأخذ والهضم من هذا المعين الوافد.. وينعكس ذلك في كتابات الكتاب وأعمال الدعاة السياسيين والاجتماعيين وإنتاج الأدباء والفنانين ونشاط الجماعات الثقافية؛ كما ينعكس في النشاط السياسي وصراعات الأحزاب والتوجهات السياسية؛ وظهر منا القوميون والليبراليون والماركسيون والإسلاميون، ومن يدعو للمرجعية الثقافية الوافدة من الغرب، ومن يؤكد ويتمسك بالمرجعية الإسلامية؛ وكل ذلك بتأويلات متعددة لدى كل من هؤلاء”.
ويوضح البشري أن سؤال (الوافد الموروث) كان من أهم ما شغل جيلهما والأجيال الأخرى من مفتتح القرن العشرين حتى الآن؛ أي السؤال عما نأخذ وما ندع من موروثنا الحضاري والثقافي الإسلامي، ومن الوافد الغربي الحديث الذي أتى إلينا مع بدايات القرن التاسع عشر بنظمٍ وعلوم وفنون وآداب وقيم وأساليبَ عيشٍ ومناهجَ تفكير.
أَخْذٌ واستدراك
وفي نظرة إنصاف، يبين البشري أن في الثقافة الغربية ما يستوجب النهل منها، وبخاصة:
– في العلوم الطبيعية وما يصاحبها ويتفرع عنها من مناهج وممارسات،
– وكذلك في علوم الإدارة والبناء المؤسسي ونظم الاقتصاد وأساليب البحوث الاجتماعية،
– وكذلك ثمة فنون كثيرة في الأدب والقصة والمسرح والموسيقى الكلاسيكية.
لكن يستدرك البشري- مع الدعوة للأخذ عن الغرب- موضحًا أن ثمة فرقًا بين أن تتناول كل ذلك وتُغْني به ذاتك الثقافية والإيمانية، وبين أن تَهْجُرَ ذاتَك هذه منفصلاً عنها وعن أسس حضارتك ومرجعيتك الثقافية العامة.
ويؤكد البشري أن الالتزام بهذه المعادلة المتوازنة هو الموقف الذي سلكه قدماء المفكرين في الحضارة الإسلامية؛ حين درسوا حضارات اليونان والرومان والهنود والفرس دون أن يذوبوا فيها.. وهو أيضًا الموقف الذي سلكه الأوروبيون مع الحضارة الإسلامية في بَدْءِ نهضتهم.
صدمة هزيمة 67
ثم جاءت هزيمة 1967- كما يقول البشري- بصدمة سياسية هزت كيان النظام السياسي جميعه، ثم بدأ ينطرح (السؤال الفكري) الذي يبحث في الخلل في التشكُّل الحضاري والثقافي السائد، وفي العلاقة بين التيارات الفكرية والسياسية القائمة- ليبرالية وقومية وإسلامية- لإدراك المشترك العام بينها، إن كان ثمة مشترك عام.
من هنا، جاء اجتماع البشري وعمارة ومثقفين آخرين من أصدقائهما- على اختلاف تخصصاتهم العلمية والمهنية- لمناقشة آثار الهزيمة السياسية وما تقتضيه من مراجعات فكرية لا مفر منها. [ومن المهم أن نشير هنا إلى ما ذكره مفكرون آخرون من أن هزيمة 67 كانت بداية طريق طويل للمراجعات الفكرية، مثل د. زكي نجيب محمود، ود. عبد العزيز حمودة]
ويضيف البشري: لم يكن الأمر عدولاً من موقف كامل إلى موقف كامل آخر مغاير، وإنما كان يتعلق باختلاف درجات المزج والاقتران، والعنصرُ العقدي والإيماني موجودٌ وفعَّال؛ ولكن المسألة كانت تتعلق بقَدْرِ أثره في الموقف السياسي والاجتماعي، وقدر فاعليته ودرجة حاكميته بالنسبة لغيره من أفكار وأسس ومطالب. [أي أن التأثر بالوافد كان في دائرة الفكر السياسي والاجتماعي، لا في العقيدة والسلوك وبالتالي، لم تكن العودةُ عودةً عن موقف كلي إلى موقف كلي آخر]
فمحمد عمارة: الأزهري القح، الذي تربى داخل مؤسسة الأزهر، ثم اجتذبه التيار الاشتراكي، ثم استعاد موقفه بعمق إسلامي أكثر، وَبِجِدَّةٍ تراها في كتاباته.
وأنا- والحديث مازال للبشري- بتربيتي ونشأتي الدينية، وباتصالي الذي لم ينفصل أبدًا بالفقه الإسلامي وعلم أصول الفقه وبالثقافة الإسلامية في الأدب والفكر الصوفي، في عز اقترابي من العلمانية الاشتراكية، وبغير ارتباط بتنظيم أو جماعةٍ محدَّدة.
المزج بين الوافد والموروث
ويوجز المستشار البشري هذه التحولات الفكرية التي مرَّ بها، بصحبة الدكتور عمارة وأصدقاء آخرين لهما، قائلاً: “لما جاءنا الفكر الغربي بعلومه وثقافته وأسسه وتنظيماته السياسية والاجتماعية، وقفنا نتشرَّبه ونمتص نتاجه، ثم عدنا محمَّلين بما أخذناه منه، عدنا إلى (موطننا الثقافي) كما لو كان كل منا في (بعثة علمية وثقافية) سافر فيها سنين ثم عاد إلى وطنه بخبراته، ومازجًا بين هذه الخبرات وبين أصل نشوئه وما تربى عليه. وصار هذا الوضع هو ما تَحدَّد به هدفُ كل منا فيما تخصص فيه، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً”.
تلك كانت شهادة المستشار الجليل طارق البشري على ما جمعه- من إخوة وصداقة، ومن تحولات فكرية- مع المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة.. وهي شهادة توجز بعمقٍ المشهدَ الفكري والسياسي في القرن العشرين، مما يجعلها جديرةً بأن تكون نبراسًا لمن يبحثون عن إجابات لسؤال (الوافد والموروث)، أو (التراث والمعاصرة).. ولمن يبحثون لأوطانهم عن استقلال لا تقف حدوده عند مظاهرَ سياسيةٍ أو عوائد اقتصادية؛ فتلك وحدها لا تكفي، كما تُنْبِئنا التجربة الفكرية الثرية لكل من المفكرين الكبيرين- وغيرهما- رحمهما الله وتغمدهما وأدخلهما فسيح جناته .