قد لا يكون حضور المعماريين المتخصصين (المهندسون) في عمران البيوت اختراعا إسلاميا، ولكن يمكن القول إن المهندس احتل تاريخيا قلب الحضارة الإسلامية على نحو ما نجده منعكسا في تطور العمارة في تاريخ المسلمين؛ فتميُّزُها وتعقيدُها يشير إلى ذروة الإتقان والإبداع -حتى بمعايير اللحظة الراهنة- عند الإطلالة على بعض الأحياء القديمة في حواضر الإسلام العتيقة مشرقا ومغربا، وهو ما أورثتنا إياه طبقة من البنَّائين العظماء من المسلمين وغيرهم.
وبالتالي لم يأتِ من فراغ إطلاقُ لقب “الأستاذ” على رئيس المهندسين، وهو لقب شديد الأهمية في الحياة العلمية للمسلمين إذْ كان لا يُطلق إلا على أئمة العلماء؛ لكن قصة البيوت هي قصة ساكنها الإنسان وكذلك قصة الثقافة التي ينتمي إليها، فالبيوت لها آداب في التصميم تعكس آداب وثقافة ساكنيها في المعيشة والتزاور والتجاور، كما أن التطور التقني والرفاه الاقتصادي يفرضان بصمتهما على نمط حياة الشعوب؛ ولا بد من أن ينعكس ذلك كله في العمارة تصميما وتقسيما.
وفي هذا المقال؛ سنقترب من قصة البيوت الإسلامية عمرانا ومكانا، في جولة ثقافية اجتماعية تبتعد عن الفنيات الدقيقة لهندسة العمران، وتتجاوز ردهات قصور المُلك وأركان القلاع وأروقة المنشآت العامة، لتقتصر غالبا على منازل طبقات الناس البسيطة والمتوسطة، فتتعرف على فنيات تصميمها وطرق وأدوات تشييدها، وتتبع أقسامها من المداخل إلى السطوح، مرورا بمختلف الغرف والمرافق والملحقات، وتكشف ما كانت تنطوي عليها من تسهيلات ووسائل راحة إضاءةً وتبريدا؛ ثم يتخلل ذلك كله رصد لبعض الظواهر المتصلة بعمران المساكن كالمباني المتعددة الطوابق، والشقق المشتركة السكنى، والمنازل سريعة التجهيز.
معمار بسيط
جاء الإسلام والحياة -في مناطق البادية العربية- يغلب على مساكنها “الخِيام والقِبَاب والأخْبِيةَ والفَسَاطِيط (= جمع فُسْطاط: الخيمة الكبيرة) من الأنْطاع (= جمع نِطْع: بِسَاطٌ جلدي) والأَدَم (= جمع أدِيم: جلد الدابة)”؛ كما يقول الإمام البَغَوي (ت 516هـ/1122م) عند تفسيره -في ‘معالم التنزيل‘- لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً﴾؛ (سورة النحل/الآية: 80).
وقد تناول المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘الخطط والآثار‘- أهم التسميات المتعلقة بالبيوت عند العرب؛ فذكر فيها أن “البيت أخص من الدار، فكلّ دارٍ بيتٌ ولا ينعكس”، وأوضح أن الأخبية كانت هي السائدة عند العرب في جاهليتهم، وظلوا كذلك حتى سكنوا المدن بعد الإسلام فبنوا الدُّور والبيوت، ووجدوا “الفُرْسَ لا تُبيح [لعامة الناس بناءَ] شريفِ البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء إلّا لأهل البيوتات (= العوائل النبيلة)”.
جاء الإسلام إذن وحواضر شمالي الجزيرة العربية -وخاصة مكة المكرمة وما وراءها شرقا وشمالا- تتكون من بيوت صغيرة الحجم إجمالا، وبقي الحال كذلك معظم عصر الصحابة؛ فقد كانت بيوت النبي ﷺ التي أسسها في المدينة المنورة – حين وصلها مُهاجِراً- حُجُراتٍ بجوار المسجد النبوي.
ويروي المؤرخ محمد بن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- أن هذه الحجرات النبوية “كان منها أربعة أبيات (= بيوت) بِـلَبِـنٍ لها حُجَرٌ من جريد [النخل]، وكانت خمسة أبيات من جريد مطيَّنة لا حُجَر لها، على أبوابها مُسُوح (= ثياب) الشَّعَر، ذَرَعتُ السِّتْرَ فوجدتُه ثلاثة أذرع (= 160 سم) في ذراع”.
أما “صناعة البناء” باعتبارها حرفة حضرية؛ فقد ذهب ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- إلى أنها “أول صنائع العمران الحضري وأقدمُها”، وعرّفها بقوله: “هي: معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل لِلْكَنِّ (= الاسْتتار) والمأوى للأبدان في المدن.
وقد نقل أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) كلاما لطيفا في “فلسفة البناء” ومرتكزات صنعته التي تقوم عليها؛ فقال -في ‘البصائر والذخائر‘- إن مقومات “صناعة البناء..: المادة التي يُعمل منها البناء..: التراب والطين والحجارة والخشب؛ والصورة التي ينحوها..: صورة البيت (= التصميم الهندسي)؛ والفاعل هو البنَّاء؛ والغرض الذي من أجله يُفعل [هو] سكنى البيت وإحراز ما يُحرَز فيه؛ والآلة التي بها يعمل هي آلات البناء” .
مؤثرات مختلفة
ويقرر ابن خلدون أن هذه الصناعة تتأثر بأعراف الشعوب ومناخات بلدانها ومستوى اقتصادياتها؛ ولذا فإنها تختلف حسب ما “يناسب مزاج هوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر”، معتبرا أن صناعة البناء مختصة بأهل “الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه، إذْ الأقاليم المنحرفة [عنها] لا بناء فيها، وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب أو الطين، أو يأوون إلى الكُهوف والغِيران”.
كما تتأثر مستويات البنيان بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية وما يصاحبها من تراكم حضاري؛ ففي تاريخ الطبري (ت 310هـ/922م) أن الكوفة والبصرة تأسستا سنة 17هـ/639م “فابْتَنَى أهلُ المِصْرَيْن [بيوتهم] بالقصب، ثم إن الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة.. فاحترق ثمانون عريشاً”، فأرسلوا وفدا إلى الخليفة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) “يستأذنون في البناء باللَّبِن”، فأذِن لهم في ذلك.
كما يتحدد حجم البنيان بطبيعة احتياجات سُكنى صاحب المنزل؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون إن المُوسِرِين “منهم مَنَ يتخذ القصور.. العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدُّور والبيوت والغُرف الكبيرة، لكثرة ولده وحَشَمه وعياله وتابعه”.
بل إن بعضهم قد يحتاج “لبناء الاصطبلات لرَبْط مُقْرَباتِه (= خيوله)”، ومنهم مَن “يهيئون السراديب والمطامير (= أماكن تحت الأرض) لتخزين الأقوات”. أما ضعفاء الحال فيرضون بأحجام أصغر، إذ يكفي أحدَهم أن “يَبْني الدُّوَيْرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده، لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه، واقتصاره على الكَنِّ الطبيعي للبشر”.
يتحدث ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- عن مواد البنيان رابطا بين نوعيتها والمستوى الاجتماعي لطبقات ملاك البيوت؛ فالكُبراء والموسرون “يجعلون أسس البنيان من الحجارة ويضعون الكِلْسَ بينها”، كما يهتمون بتجميل بيوتهم “بالجِصِّ والأصبغة”.
وقد يلعب العامل السياسي أثره في حجم وشكل البنيان؛ إذْ “يُحتاج لهذه الصناعة أيضا عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدنَ العظيمة والهياكل (= الأبنية) المرتفعة، ويبالغون في إتقان الأوضاع وعُلوّ الأجرام مع الإحكام لتبلغ الصناعة مبالغها”؛ وفقا لابن خلدون.
مهارات متفاوتة
وكما تتفاضل أقسام البنيان وأحجامه؛ فإن البنَّائين أنفسهم كانوا يتفاوتون في قدراتهم الفنية ومهاراتهم المعمارية، ولذا نجد أن من “أهل هذه الصناعة..: البصير الماهر ومنهم القاصر”؛ طبقا لابن خلدون. وكانوا يُسمُّون المهندسين عموما ”الفَعَلَة”، كما في خبر يقول إن الخليفة المعتضد العباسي (ت 278هـ/891م) أرسل إلى “سُور أنطاكية بـ”فَعَلَة” يهدمونه”؛ حسب القاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/994م) في ‘نشوار المحاضرة‘.
وينقسم هؤلاء ”الفَعَلَة” إلى فئات عدة حسب تخصص كل منهم ودَوْره المحدد له في عملية البناء؛ وتشمل هذه الفئات “النجّارين، والبنّائين، والنَّقّاشين، والمُزوِّقين، والجصّاصين، والحَرّاقين، والحدّادين، والرُّوزْجَارية، والحمّالين”؛ حسبما يفيدنا به محب الدين ابن النجار (ت 643هـ/1245م) في ‘الدرة الثمينة في أخبار المدينة‘.
وكثيرا ما كان للمنتمين إلى صناعة البناء -في كل بلد- رئيس يتولى تنظيمَهم، ويرجعون إليه في أمور صنعتهم فيما يشبه “نقابة المهندسين”، وكان هذا الرئيس في العراق مثلا يسمى “الأستاذ”؛ حسبما يرد في أخبار بناء بغداد عند الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) في ‘تاريخ بغداد‘.
وقد يُلقَّب الأستاذُ أيضا “رئيسَ المهندسين” وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘؛ فقد ذكر أن “المعلِّم ابن السُّيُوفي [كان] “رئيس المهندسين” في الأيام الناصرية (= دولة الناصر قلاوون ت 741هـ/1340م)، وهو الذي تولى بناء جامع المارديني خارج باب زويلة” بالقاهرة القديمة.
ويُسمَّى أحد العاملين تحت إشراف “الأستاذ” في صناعة البناء بـ”الرُّوزْجَاري” وجماعتهم “الرُّوزْجَارية”، فـ”هذه النسبة إلى الرُّوزْجَار وهو [بالفارسية] رُوزْكار، يعني: الذي يعمل بالنهار (= عامل اليومية)، ويقال ببغداد لمن يعملـ[ـون] بالنهار: الرُّوزْجَاري”؛ وفقا للإمام أبي سعد السمعاني (ت 562هـ/1167م) في كتابه ‘الأنساب‘.
أما مهارات البنّائين الفنية؛ فيذكر ابن خلدون أنها تتضمن “أشياء من الهندسة مثل: تسوية الحيطان بالوزن، وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك”، وكذلك “جَرّ الأثقال” عند بناء المباني الضخمة؛ حيث يقومون “بمضاعفة قوّة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية [متداولة بينهم]، تُصيِّر الثقيل -عند معاناة الرفع- خفيفاً، فيتم المراد”.
احتراف فائق
وقد يُرْسَم البِناءُ على هيئة تصميم هندسي ثنائي الأبعاد وهو ما كانوا يعبرون عنه بـ”تصوير البناء في الدار”؛ حسب أبي الحسين العمراني اليمني (ت 558هـ/1163م) في كتابه ‘الانتصار‘. فقبل تنفيذ مشروع بناء مُسَنَّاة -وهي سدٌّ صغير لتنظيم مرور الماء في الأنهار والقنوات- لمنزل الوزير العباسي علي ابن الجراح (ت 335هـ/946م) ببغداد، وُضعت له دراسة مالية وفنية “فقدّر لذلك مئة ألف درهم، وصُوِّر البناء وأُحضِر الصورة والتقدير (= الميزانية)”، وفقا للصابئ (ت 448هـ/1056م) في ‘تحفة الوزراء‘.
واللافت أن التصميم الهندسي للبناء قد يكون مجسَّما ثلاثي الأبعاد، فيما يشبه فكرة ما يُعرف اليوم -في مجال تصاميم البناء الهندسية- بـ”النموذج المعماري” (الماكيت – Maquette)؛ فحين أراد الخليفة المنصور العباسي (ت 158هـ/776م) بناء مدينة بغداد سنة 141هـ/759م جمَع المهندسين ومثّل لهم هيئتها التي يريدها، ثم طلب منهم أن يراها مجسّمة أمامه فخُطّ له نموذجها المعماري بخطوط هندسية، و”أمر أن يُجعَل على تلك الخطوط حبّ القطن وينصبّ عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يُحفر أساس ذلك [البناء] على الرسم، ثم ابتُدئ في عملها”؛ طبقا للطبري في تاريخه.
ويبدو أنه كان مألوفا -منذ صدر الإسلام- أن يتفق صاحبُ البيت على تفاصيل حجم البيت ومساحته مع المتعهدُ بالبناء الذي كان يُدعى ”مُتولِّي العمارة”؛ فقد نقل الإمام أبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) -في كتابه ‘المُنتقَى‘- عن الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) أنه “لو قال البنَّاء: أمرتَني أن أبني بيتا خمسا في خمس، وقال رب العرصة (= القطعة الأرضية): بل عشرة في عشرة؛ تحالفا.
وتختلف أجور العاملين في بناء البيوت بحسب مستوى مهارة البنّاء وما إن كان “أستاذا” أم “رُوزْجَاريًّا”؛ وعموما يقدم لنا الخطيب البغدادي صورة تقريبية لهذه الأجور، فيذكر -في حديثه عن تشييد بغداد- أن “الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقِيرَاط (= 8.35 دولارات أميركية تقريبا)..، والرُّوزْجَاري يعمل بحبتين إِلَى 3 حبات [من أجزاء القيراط]”.
ومع انتشار الإبداع المعماري في أرجاء العالم الإسلامي مشرقا ومغربا؛ فإن حظ الأندلس منه كان عظيما إن لم يكن هو الأعظم. ويكفينا في بيان ذلك أن ابن خلدون تحدث -في تاريخه- عن “قُصور الملك بتلمسان وكانت لا يُعبَّر عن حسنها”! رغم أنها لم تكن -حسب كلامه- إلا صدى لما كان في جوارها الأندلسي؛ فقد “استدعى لها [سلطانُها] الصناعَ والفَعَلَة من الأندلس لحضارتها”، فقامت نهضتها العمرانية “بالمَهَرة والحُذَّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم (= ملوك تلمسان) القصورَ والمنازلَ والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله”!
أساليب منوعة
أما تكاليف بناء البيوت فهي عادة تبعٌ للقدرة المالية لصاحبها وطبيعة البيت وحجمه ومرافقه؛ ومن التقديرات التي وصلتنا في ذلك ما ذكره الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في تاريخ الإسلام‘- من أن السلطان البويهي مُعِزّ الدولة (ت 353هـ/964م) “أنشأ دارا [ببغداد] غرم (= صرَف) عليها أربعين ألف ألف درهم (= اليوم 50 مليون دولار أميركي تقريبا)، فبقيت إلى بعد الأربعمئة (400هـ/1010م) ونُقِضَتْ (= هُدمت)، فاشتروا جَرْدَ (= صافي) ما في سقوفها من الذهب بثمانية آلاف دينار (= اليوم 13 مليون دولار أميركي تقريبا)”!!
ويفيدنا الإمام ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- بأن الشاعر والكاتب أبا القاسم علي بن أفلح (ت 533هـ/1139م) كان مقرَّبا من الخليفة العباسي المسترشِد بالله (ت 529هـ/1135م) فأعطاه دارا يسكنها، ثم “اشترى دُوراً إلى جانبها فهدم الكل وأنشأ دارا كبيرة، وأعطاه الخليفة خمسمئة دينار وأطلق له مئة جذع [شجرة]، ومئتيْ ألف آجُرَّة (= لبِنة)..، [فـ]ـغرم عليها عشرين ألف دينار، وكان طولها ستين ذراعا في أربعين (= 1300 متر مربع تقريبا)، وقد أُجْرِيتْ بالذهب وعُمِلتْ فيها الصور”.
وفي القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي؛ نجد عند الإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) -في الجواهر والدُّرر‘- تقديرا لمتوسط تكاليف بناء البيت في مصر نقلا عن “أعيان التجار وعظمائهم”، ووفقا لقولهم “فإن الدار.. تساوي ألف دينار، [ثم] تُكْرَى غالبا بنحو الأربعين دينارا”.
ويقدّم لنا ابن خلدون صورة عن طُرُق البناء وأساليبه -حتى زمنه- وكيف أنها كانت تتنوع حسب نوع المادة المستخدمة فيه؛ فيقول إن “منها البناء بالحجارة المنجَّدة أو بالآجُرّ (= اللَّبِن المُحْرَق المُعَدُّ للبناء)”، بإلصاق الجدران بعضها ببعض “بالطين والكِلْس الذي يلتحم معها كأنها جسم واحد”.
ومن هذه الطرق أيضا “البناء بالتراب خاصة”، حيث يوضع لوْحان من الخشب بطول أربعة أذرع [مترين تقريبا] ويُمْلأ الفراغ بينهما “بالتراب مخلطا بالكلس”، وتضاف مواد أخرى تثبتهما معا على طول الحائط، ويُسمَّى ذلك “الطابية وصانعه الطَّوّاب”. ومن طرق البناء خلط الكلس بالماء وتخميره أسبوعا أو اثنين، ثم “تُجَلَّل الحيطان” به من الأعلى.
وتُعمَل أسقُف البيوت “بأن يُمَدّ الخُشُب المُحْكَمَة النجارة أو الساذَجَة (= غير المعالَجة) بين حائطين من المنزل، وتوضع “من فوقها الألواح كذلك موصولة بالدَّسائر (= المسامير)”، ثم “يُصبُّ عليها التراب والكلس، ويبسط بالمراكز (= مواد تجعل الخليط متماسكا)” لضمان ثبات البناء وتقويته.
كفاءة عالية
وكانت أماكن صناعة الآجُرّ -الذي تشاد به المباني- تعرف بـ”أتَاتِين الآجُرِّ”، والأَتَاتِين جمع أَتُّون وهو مَوْقد النار الذي يُحرَق فيه هذا الآجُرّ، وعامله يدعى “الآجُرّيّ”. ويحدثنا التنوخي مثلا أنه كانت بأطراف بغداد بعض “أتاتين الآجُرِّ” لصناعة اللبِن.
ويقول المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في كتابه ‘الكامل‘- إنه في سنة 332هـ/944م “كانت الأمطار كثيرة.. حتى خربت المنازل..، [فـ]ـصار ما.. يسقط من الأبنية لا يعاد..، وتعطل كثير من “أتاتين الآجر” لقلة البناء، ومن يُضْطَرُّ إليه اجتزأ بالأنقاض” من البيوت المتهدمة. ويذكر المقريزي أن بالقاهرة منطقة “عُرفت ببُركة الطَّوَّابين، من أجل أنه كان يُعمل فيها الطوب” لأغراض البناء.
وتتعدد الآلات المستخدمة في البناء بين البساطة والتعقيد؛ ومن ذلك ما أخبرنا به ابن الوردي الحفيد المعري (ت 852هـ/1448م) -في ‘خريدة العجائب‘- من أنه وُجدت في أحد الحصون “بقية من آلات البناء، وهي قدور من حديد ومغارف من حديد..، وهي أكبر من قُدور [صناعة] الصابون”. كما يذكر منها ابن النجار -في ‘الدرة الثمينة‘- “الحديد والرصاص والأصباغ والحبال”.
ويبدو أن المهندسين كانوا على مستوى عظيم من المهارة في سرعة الإنجاز، بحيث كانوا يبنون مدينة صغيرة في شهر؛ فالمؤرخ كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ/1262م) يخبرنا -في ‘بغية الطلب في تاريخ حلب‘- أن مدينة رَعْبَان ضربها زلزال فخرّبها كليا، وكانت من المدن الدفاعية المهمة على الحدود مع البيزنطيين “ومَلَكَها العدوُّ في أيام سيف الدولة (الحمداني ت 356هـ/967م)، فأنهض إليها العساكرَ والصُّنّاعَ (= المهندسين)، وأنفق عليها الأموال الجسيمة حتى بناها في مدة شهر، وعساكرُ الروم جامعة والحربُ واقعة”!!
ولذا كانوا أحيانا يُكْملون بناء البيت بأن يُبنَى ويجصَّص ويبيَّض ويهيَّأ في يوم واحد إذا كانت ميزانيته مفتوحة وناجزة؛ فقد خرج الوزير حامد بن العباس (ت 311هـ/924م) للنزهة في بغداد فرأى تاجرا احترقت داره وتلفت مدّخراته، فطلب من وكيله إعادة بناء داره وأن ينجزها قبل العشاء.
لم يستصعب الوكيلُ المهمةَ لكنه اشترط توفير اللوازم لإنجازها، فخاطب الوزيرَ قائلا: “فتَقَدَّمْ (= أعطِ أوامركَ) إلى الخادم أن يُطْلق ما أريده، والى صاحب المعونة (= شُرَطي) أن يقف معي، ويحضر كل ما أريده من الصناع”، فحضر “أصناف الرُّوزْجَارية والبنائين” فكانوا “ينقضون بيتا ويطرحون فيه من يبنيه” حتى أنجزوا المهمة، كما يروي عريب بن سعد القرطبي (ت 369هـ/979م) في ‘صلة تاريخ الطبري‘.
وفي مقابل تلك السرعة الهائلة في الإنجاز؛ نجد أن تشييد بعض المنازل ربما استغرق سنوات لما اشتمل عليه البناء من ضخامة وزخرفة بالغة، كما حصل في تشييد دار رئيس التجار بالقاهرة برهان الدين المحلي (ت 806هـ/1403م) “التي عمرها في مدة سبع سنين، وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار (= اليوم 8.5 ملايين دولار أميركي تقريبا)”؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
مرجعية فنية
لا تنحصر كفاءة المهندسين في قدرتهم على البناء المُتقَن؛ بل إنه مع توسُّع العمران وتزايد البنيان تنشب عادةً النزاعات بين أصحابه وسكانه على الانتفاع بلوازمه من ماء وهواء وضياء وغيرها، ويُلْجَأ إلى القضاء لإلزام الجيران بصيانة الحيطان، والانتفاع بمرافق الطرق وقنوات “الصرف الصحي”.
وهنا -كما يقول ابن خلدون- يلجأ القضاةُ فيما قد يخفى عليهم من شؤون البناء الفنية إلى “أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله، المستدلين عليها بالمَعاقد والقُمُط (= حبال تشدّ مكونات البناء) ومراكز الخشب ومَيْل الحيطان واعتدالها، وقسْم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها، وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة، بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان، وغير ذلك”.
ويبدو أن العرف جرى بتوثيق ما يصدر عن المهندسين من مشورة أو قرارات فنية عمرانية بعد دراسة حالة البناء؛ فالمقريزي يذكر -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنه في سنة 821هـ/1418م ظهر في مئذنة أحد جوامع القاهرة “اعوجاجٌ..، فكُتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم وعُرض على السلطان”.
وبناءً على التفاوت في البنيان مادةً وفخامةً؛ كانت المدن تتفاضل في عمرانها إتقانا واتساعا وجمالا، ولذلك يتحدث ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) -في ‘مسالك الأبصار‘- عن أن “غالب مباني الشام بالحجر، ودُورها أصغر مقادير من دُور مصر ولكنها أزيد زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل وإنما هي أحسن أنواعا، وعناية أهل دمشق بالمباني كثيرة ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به” على مباني غيرها.
تختلف أحجام بيوت الناس حسب “اختلاف أحوالهم في الغنى والفقر” كما يقول عند ابن خلدون، ومن هنا تنوعت طبقات منازلهم بين العامة والخاصة؛ ففي ‘صفة الصفوة‘ لابن الجوزي وردت نصوص تكشف عن أحجام بيوت كثير من العامة والعلماء الزهاد، فمنزل أبي سعيد الخرّاز (ت 277هـ/891م) كان غرفة واحدة، تقول عنها تلميذته: “كنتُ أسأله مسألة والإزار (= ساتر بالبيت) بيني وبينه مشدود”.
أما متوسطو الحال فقد يكون في بيوتهم ثلاث غرف؛ فابن الجوزي يروي عن رجل بغدادي قوله: “ولنا ثلاث أبيات: بيت فيه أنا وأهلي، وبيت فيه صبية مُقْعَدة..، وبيت كان فيه ضيفنا”. وقد يصل اتساع بيت أحد أبناء الطبقات الموسرة إلى حد كبير من الضخامة؛ فالعمري يقول -في ‘مسالك الأبصار‘- متحدثا عن مراكش المغربية: “حكى لي غيرُ واحدٍ عن سعة دُورها وضخامة عمائرها..، حتى يقال إنه إذا كان الرجل في صدْر الدار ونادى رفيقَه وهو في صدرها الآخر بأعلى صوته لا يكاد يسمعه لاتساعها”!!
تقسيم وترسيم
إن “الدِّهْلِيزَ” أولُ ما يلاقيه القادم إلى أحد البيوت الكبيرة من أقسامه؛ فهو ممرٌّ يمتد من باب الدار إلى ساحتها الداخلية [الصَّحن]، ويبدو أنه عُرف قديما في منازل عصر النبوة لحديث ابن عباس (ت 69هـ/689م) الوارد في ‘مُسْتخرَج أبي عَوانة‘؛ أنه قال: “كنتُ ألعب مع الغلمان فبَصُرتُ (= رأيتُ) برسول الله ﷺ [قادما] فاختبأتُ في دِهْلِيزَ باب دار قوم”.
وقد يُستخدم الدِّهْليز مساحةً لاستقبال الضيوف وإطعامهم حسبما تفيده رواية جاءت في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘ للتنوخي، وفيها أن رجلا دخل دار عُبَيد الله بن أبي بكرة (ت 79هـ/699م) يقول: “ودخلنا فإذا الدهليز مفروش والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغَداء فجاؤوا بأحسن غداء”!
وربما تغالى الناس في سعة الدهاليز والتأنق فيها لكونها واجهة المنزل ومدخله؛ ولذا يقول التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘-إن الوزير العباسي أحمد بن الخصيب الجَرْجَرَائي (ت 265هـ/879م) حين شيد مبنى له بمدينة سامراء “استعمل في سقف دهليز داره سبعين قارِيَةَ (= سارية) ساجٍ، والقارِيَةُ ساجَةٌ عظيمة تُستعمل قطعة صحيحة”، أي خشبة واحدة غير مركبة من قطعتين. وقد بلغ كرم الوزير العباسي علي ابن الفرات (ت 312هـ/925م) أنه “أمر بنصب مطبخ [في دهليزه] لمن يحضر من أرباب الحوائج”؛ وفقا للخطيب في ‘تاريخ بغداد‘.
وقد يكون في الدِّهْليز دُرَج يؤدي إلى أعلى المنزل، كما نجده في قصة اختباء الوزير العباسي الفضل بن الربيع (ت 208هـ/823م) بدار جندي فـ”كانت الدرجة (= السلّم) في الدهليز”. وربما اتخذ منه بعض الزوار المقرَّبين مسكنا له كما فعل التاجر البغدادي الكبير أبو عبد الله ابن الجصاص (ت 315هـ/928م) الذي كان يبيع الجواهر لنساء أمير مصر خُمَارَوَيْه ابن طولون (ت 282هـ/896م)؛ إذ يقول: “ثم لزمتُ دهليزَهم، وأخذتُ لنفسي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني”؛ وفقا للتنوخي.
والدهليز في البيوت المقسَّمة هو المساحة المشتركة بين البابين الخارجي والداخلي؛ ففي ‘نشوار المحاضرة‘ للتنوخي أن رجلا دخل بيتا ووصفه قائلا: “فتجد دهليزا طويلا يؤدي إلى بابين، فأدخل الأيمن منهما فيدخلك إلى دار”. وقد يحتوي الدهليز مرحاضا؛ إذْ جاء في قصة حكاها لصّ قوله: “حصلتُ (= بقيتُ) مختبئا في مُسْتراح الدهليز”؛ وفقا للتنوخي.
وإذا دخل المرء البيت من الدهليز فإنه سيقوده إلى جزء مركزي في البيوت الإسلامية يُدعَى “صَحْن الدار”، وهو الساحة التي تتوسط الدار فتتوزع من حولها الغرف والمرافق الداخلية، وتطل عليها الأدوار العلوية إن كان للبيت أكثر من طابق.
وفي العادة يتناسب حجم “صَحْن الدار” مع مساحتها ومكانة مالكها الاجتماعية، وربما اتّسع الصَّحْن لنصب خيمة كبيرة تسمى السُّرَادق؛ ففي إحدى قصص التنوخي -في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘- أن قاضي القضاة أبا عمر المالكي (ت 320هـ/932م) زار التاجر البغدادي ابن الجصاص في منزله، قال: “[فكان] في صَحْنه سُرَادقٌ مضروبٌ فجلسنا بالقُرب منه”.
وأحيانا يكون في الصحن فخّ للإيقاع باللصوص إذا دخلوا المنزل؛ ففي ‘نشوار المحاضرة‘ قصة لصّ “تائب” دخل دار رجل صيرفي “كثير المال، يطلبه اللصوص فلا.. يقدرون عليه”، فقال اللص يروي ما جرى لزملائه اللصوص مع هذا الصيرفي: “فإذا للمَوْلَى زُبْيَةٌ (= حفرة مَخْفية) في أكثر الصحن محيطة به”، وكان أهل البيت يعرفونها فيتجنبونها، وكانت مغطاة بـ”بارِيّة (= حصيرة قصَب) من فوق خشب رقيق جدا”، فلما سقط اللصوص في الحفرة وجدوا أنها “عميقة جدا لا يمكن الصعود منها”!
غرف ومرافق
ومن الصَّحْن ينتقل الداخل إلى مختلف غرف البيت سُفليّها وعُلويّها، وأُولاها غرفة “المجلس” التي هي عادة موضع استقبال الضيوف والمدعوين إلى الولائم عند إقامتها؛ فقد حدثنا المُغنِّي إسحق الموصلي (ت 235هـ/850م) عن زيارة له إلى الوزير جعفر بن يحيى البَرْمَكي (ت 187هـ/803م) قائلا: “فسِرْنا إلى مجلسه فطرحنا ثيابنا ودعا بالطعام فأكلنا”؛ حسب التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘. وقد يكون للبيت أكثر من مجلس كما يفيدنا التنوخي بوصفه دار رجل بغدادي متوسط الحال: “وبنى فيها مجلسين متقابلين وخزائن ومُستراحاً”.
وربما عبّروا عن المجلس المنفصل عن معظم البيت بلفظ “الرواق”، وهو “بيت كالفُسْطاط (= الخيمة) يُحْمَل على سِطَاع (= عَمود) واحد في وسطه”؛ طبقا للخليل الفراهيدي (ت 170هـ/786م) في معجمه ‘العين‘. وكان لمجلس الوزير جعفر البرمكي عدة أروقة “فأقبل -أحد العباسيين- نحونا حتى صار إلى الرواق الذي نحن فيه”.
أما حُجَر النوم الخاصة فكانت تسمى “المَرْقَد”، كما نجده في قصة الأصمعي (ت 216هـ/831م) مع الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) التي رواها إبراهيم بن محمد البيهقي الكاتب (ت نحو 320هـ/932م) في ‘المحاسن والمساوئ‘؛ إذ قال الأصمعي: “استأذنتُ على المأمون وإذا هو نائم فأذن لي..، فدخلت عليه وهو في “مَرْقَده””.
وإذا كان صاحب البيت من أهل العلم والأدب والثقافة فإن منزله سيحتوي غالبا غرفة مخصصة للكتب كانوا يدعونها “بيت الكتب”؛ فقد أورد محمد بن علي القَلْعي الشافعي (ت 630هـ/1233م) -في ‘تهذيب الرياسة وترتيب السياسة‘- أن الأمير عبد الله بن طاهر (ت 230هـ/844م) لما اجتاز بمدينة الرَّقة قصد منزل الشاعر كُلْثوم العَتّابي التغلبي (ت 220هـ/835م) فـ”دخل عليه فألْفاه جالسا في “بيت كتبه”، فحادثه وذاكره وانصرف”. وكان شيخ الإسلام أبو عثمان النيسابوري الصابوني (449هـ/1058م) يقول: “ما دخلتُ “بيتَ الكتب” قَطُّ إلا على طهارة”؛ وفقا لابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘.
كانت أسقف البيوت تصنع من جذوع الشجر، وقد تكون فوق سطح البيت غرفة تسمّى “العُـلِّيَّة” (بنتهاوس – Penthouse) وجمعها “العَلالِيّ”، وربما وُضِع لها سُلّم خشبي يمكن تحريكه؛ فقد روى الخطيب البغدادي -في ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘- قصصا تفيد بأن بعضهم كان يجمع الطفيليين في غرفة بهذا الوصف لئلا يأكلوا طعامه، ويرفع عنهم السلم عندما ينتهي ضيوفه من الطعام، وقد فعلها مرة بـ”ثلاثة عشر طفيليا ثم رفع السلم ووُضعت الموائد”!!
وأما الصعود إلى السطوح فكان يتم بدُرَج يُسمَّى “المَمْرَق” وجمعه مَمَارِق؛ فقد جاء في ‘نشوار المحاضرة‘ نقلا عن أحد اللصوص يحكي إحدى مغامرته في السرقة: “ورُمْتُ صعود السطح فما قَدَرتُ لأن المَمَارق مقفلة بثلاثة أقفال”.
تأمين وتحصين
كما عُرف تعدد الأبواب في المنازل منذ بداية التمدّن الإسلامي؛ فدار الصحابي يَعْلَى ابن مُنْيَة التميمي (ت 60هـ/680م) “كان لها بابان”؛ وفقا للمؤرخ الأزرقي (ت 250هـ/837م) في ‘أخبار مكة‘. وذكر ابن مسْكَوَيْه (ت 421هـ/1031م) -في ‘تجارب الأمم‘- أن أحد قضاة الإمارة الحمدانية بالشام “عمِلَ.. أبوابا لداره.. من الحديد”. وكان من المعتاد جعْل أبواب الدُّور الكبيرة ضخمة طلبا للأمان، ففي ‘الفرَج بعد الشِّدة‘ للتنوخي وصفٌ لبيت رجل ثريّ جاء فيه أنه احتوى “بابا شاهقا يدل على نعمة قديمة”.
وإلى جانب صناعتها من الخشب؛ ربما اتُّخِذت أبواب البيوت من الحديد كما في وصف الخليفة العباسي المأمون للدار التي اختبأ فيها بخراسان عن أعدائه قبل توليه الخلافة، وأوردها التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘؛ وكذلك في خبر دار القاضي الحمداني السالف ذكرها. وقد تُصنع الأبواب من النحاس؛ فدار الأمير المملوكي آقوش الرومي (ت 707هـ/1306م) كانت “من أجَلّ دُور القاهرة وبابُها من نحاس بديع الصنعة”؛ طبقا للمقريزي في ‘الخطط والآثار‘.
وتعدد الأبواب ونمط توزيعها وإخفاء بعضها عن عامة الناس مما يؤمّن الدار ويرمز لأهمية صاحبها؛ فقد وصف أمير بغداد أبو جعفر ابن شِيرْزَاد (ت بعد 334هـ/946م) منزله فقال: “وكان لداري أربعة عشر بابا، إلى [جانب] أربع عشرة سكة وشارعا وزُقَاقا نافذا، ومنها عدة أبواب لا يعرف جيراني أنها تُفْضي إلى داري، وأكثرُها عليه الأبواب الحديد”؛ وفقا للتنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘.
وربما احتوت إحدى غرف بيوت الوجهاء على باب يفضي إلى سرداب تحت الأرض ينتهي بسُلّم آخر يؤدي إلى غرفة سرية؛ يقول الأمير ابن شِيرْزَاد واصفا اختباءه في دار السيدة “خاطف” خالة الخليفة المقتدر بالله (ت 320هـ/933م): “فسلكت بي وبالمرأة العجوز إلى موضع من الدار، فدخلت إلى حجرة فأقفلتها، ومشت بين أيدينا حتى انتهت بنا إلى سرداب فأنزلتنا فيه، ومشينا فيه طويلا وهي بين أيدينا حتى صعدت منه إلى درجة طويلة، أفضت بنا إلى دار في نهاية الحسن”.
وقد تكون أمثال هذه الغرف السرية محصَّنة ضد الاختراق لزيادة تأمينها؛ ففي وصف لإحداها -في قصة اختفاء ابن شِيرْزَاد المتقدمة- ورد أنها “بيتٌ مُؤَزَّر (= مدعَّم) بالسّاج (= خشب ضخم قوي) إلى أكثر حيطانه، عليه باب حديد”؛ أي لحمايتها من الحفر بالآلات.
وقد تُجعل على الأبواب أقفال لحماية ما تغلق عليه من ساكنة ومتاع؛ ففي حكاية للتنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- نجد أن غرفة الخزن بمنزل رجل صيرفي أغلقتها أمُّه أمام أحد اللصوص، “وجعلت الحلقة في الرَّزَّة (= حديدة يدخل فيها القفل) وجاءت بقُفْل فأغلقته.
تقانة مائية
أما “المطبخ” فلا يَرِد ذكره غالبا إلا في دُور الكبار من شخصيات المجتمع، ومن ذلك ما جاء في وصف دار الوزير العباسي القاسم بن عُبيد الله (ت 291هـ/904م)، حيث ألحقت بمطبخه “حجرة الشراب” الخاصة بالمشروبات؛ وفقا للتنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘. وفي دُور الخلافة كان كل منزل منها له مطبخ خاص به، فقد حكى التنوخي في قصة التاجر العاشق قوله واصفا دخوله إحدى دُور الخلافة: “فبقيتُ أطوف في الدار إلى أن وقعتُ على المطبخ، فإذا قومٌ طبّاخون جلوس”.
ومما يتعلق بالمطبخ وما يدور فيه من مأكل ومشرب ونظافة: إدخالُ المياه في البيوت وكيف يتم توفيرها؛ فقد تناول ابن خلدون -ضمن حديثه عن العمران في ‘المقدمة‘- طرقَ جلْبِ المياه إلى المدن وتوصيلها وإدخالها في المنازل، وكيف كانت الصهاريج والآبار وسيلة للحصول على المياه داخل المنازل، حيث تحتوي على “قِصَاع الرُّخَام القَوْرَاء (= المجوَّفة) المُحْكَمة الخرط (= التامة التسوية) بالفُوَّهَات (= الفتحات) في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصّهريج، يُجْلَب إليه من خارج القنوات المُفْضِية (= المؤدية) إلى البيوت”.
وقد برع في تخصص جلب المياه بالقنوات عدد من المهندسين المسلمين، منهم المهندس الأندلسي عُبيد الله بن يونس (ت بعد 470هـ/1077م) الذي يذكره الجغرافي الشريف الإدريسي (ت 560هـ/1165م) في ‘نزهة المشتاق‘؛ فقد قال متحدثا عن مراكش: “وماؤها الذي تُسقَى به البساتين مُستخرَج بصنعة هندسية حسنة، استخرج ذلك عُبيد الله بن يونس المهندس.. فقصد إلى أعلى الأرض مما يلي البستان، فاحتفر فيه بئرا مربعة كبيرة التربيع، ثم احتفر منها ساقية متصلة الحفر على وجه الأرض، ومَرَّ يحفر بتدريج من أرفع إلى أخفض متدرجا إلى أسفله بميزان، حتى وصل الماء إلى البستان وهو منسكِبٌ مع وجه الأرض يصب فيه، فهو جارٍ مع الأيام لا يفتر”!!
وقبل ابن خلدون بخمسة قرون؛ يحدثنا الأزرقي -في ‘أخبار مكة‘- عن منازل للصحابة كانت مزودة بآبار المياه؛ فكان لمعاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/680م) -رضي الله عنه- دارٌ “فيها بئر” ماء، ولعبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) بيوت في أحدها “بئر حفرها” بنفسه. واشترك آخرون في حفر بئر فسُمِّيت “بئر الشركاء في الدار.. ثم قيل دار الشركاء”.
وفي عهود لاحقة؛ عرف المسلمون خزْنَ ماء المطر في أحواض متفاوتة الحجم؛ حتى إن الرحالة ابن حَوْقَل الموصلي (ت بعد 367هـ/978م) حين زار مدينة سِرْت الليبية وجد أن “شرب أهلها من ماء المطر المختزن في المَوَاجِل (= جمع مَوْجِل: حُفرة مبلَّطة لخزن الماء)”. ويقول الرحالة الفارسي ناصر خُسْرَوْ (ت 481هـ/1088م) -في رحلته ‘سَفَرْنامَهْ‘- متحدثا عن بيوت الرملة بفلسطين: “والماء هناك من المطر، ولذا فقد بُنِي في كل منزل حوض لجمع مياه المطر، فيبقى ذخيرة دائمة”.
استخدام متعدد
أما أهل دمشق فقد تفنَّن بعضهم في استخدام المياه داخل بيوتهم بطرق مختلفة، وصفها لنا بدقة الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1149م) في تفسيره ‘أحكام القرآن‘؛ فقال إنه عندما أقام بدمشق رأى “فيها أربابَ دُورٍ قد مكَّنوا أنفسَهم من سَعَة الأحوال بالماء، حتى إن مُسْتَوْقَدَهم (= المطبخ) عليه ساقية، فإذا طُبخ الطعام وُضِع في القَصْعة (= إناء خشبي كبير)، وأُرْسِل في الساقية فيُجْرَف [بتيار الماء] إلى المجلس فيوضع في المائدة، ثم تُرَدُّ القَصْعة من الناحية الأخرى إلى المُسْتَوْقَدَ فارغة، فتُرْسَل أخرى مَلْأى”!!
وكانوا يتخذون للماء أحواضا مستطيلة للتوضُّؤ ونحوه يسمونها “الفَسْقِيَّات” واحدتها “فَسْقِيَّة”، وقد تُطلَق على النافورة؛ فقد تحدث المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- عن دار الأمير المملوكي أحمد بن طُوغَان (ت 808هـ/1406م) بالقاهرة، فوصفها بأنها “فيها آبارٌ سبعة مَعِينة (= عَذْبَة) وفَسْقِيَّة يُنْقَل إليها الماء بساقية على فُوَّهَة بئر”.
لم يعرف العرب قديما المراحيض في منازلهم، بل ولا في الحواضر كما يدل عليه قول السيدة عائشة رضي الله عنها (ت 58 هـ/678م) في حديث الإفك: “وكنا نتأذَّى بالكُنُف (= المراحيض) أن نتَّخذها عند بيوتنا”؛ (صحيح البخاري). ويروي الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في ‘البخلاء‘- أن منافذ مجاري المراحيض -في البصرة مثلا- كانت لها مواضع معينة قرب البيوت، فيقول في قصة أحدهم إنه كان له “كَنِيفٌ إلى جانب داره يشرع في طريق [داخلي] لا ينفذ” إلى الشارع العام.
وقد يُسقَّف المرحاض بسقف مزيَّن في بيوت المترفين؛ إذ روى التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن أحد التجار جاء إلى عبد الواحد ابن الخليفة العباسي المقتدر بالله “يسأله مبايعتَه سقفَ ساجٍ مُذهبٍ (= مطلي بالذهب) كان في بيت ماء (= مرحاض) في داره على دجلة”.
ويبدو أن التأنق التقني في تجهيزات الحمامات كان متاحا للطبقة الثرية من المجتمع، وبمستوى يطابق في بعض جوانبه ما نجده اليوم في حمّامات البيوت الفخمة؛ ففي خبر ابن الجوزي -السابق الذكر- عن دار الكاتب ابن أفلح ببغداد؛ ذكَرَ أنه بنى “فيها الحمّامَ العجيب، فيه بيت مستراح فيه بيشون (= أنبوب/صنبور) إن فَرَكه (كذا؟ وربما تُقرَأ: حرَّكه) الإنسانُ يمينا خرج الماء حارًّا، وإن فَرَكه شمالا خرج باردا”!
ملحقات داعمة
ومن الأقسام الداخلية للبيت ننتقل إلى ذكر أبرز أجزائه الخارجية؛ إذ يبدو أن “الجناح” كان جزءا مخصصا للظل يبرز أمام البيت في الطريق العام، كما توحي به قصص أوردها الخطيب البغدادي في كتاب ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘؛ ففي بعضها وصَف المُغنِّي إسحق الموصلي منزلا ببغداد فكان من أجزائه “جناحٌ خارجٌ رحْبٌ على الطريق”.
كما ذكر إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) “جناح البيت” بقوله في حكاية جرت له أثناء تجواله ببغداد: “فشَمَمْتُ -يا أمير المؤمنين- من جناحٍ أبازيرَ (= بهارات) قُدُورٍ [طبخ] قد فاح طيبُها..، فرميتُ بطَرْفي (= بصري) إلى الجناح فإذا في بعضه شُبَّاكٌ”.
ومما يطلّ على الشارع العام والمتنزهات من أجزاء المنزل: “المَنْظَرة” التي هي مكان للتبرُّد والتهوية والتنزه بالإطلال على المناظر عموما، وقد تُتّخَذ مجلسا لاستقبال الضيوف؛ فقد “مَرَّ طفيليٌّ بقومٍ… وهم في “مَنْظَرة” لهم، فسلَّم عليهم وقال: آدخلُ؟ فدخل”؛ كما في ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘ للخطيب البغدادي. وربما أطلقوا على “المَنْظَرة” اسمَ “المُسْتشْرَف” [الشُّرْفة]، كما في وصف الخليفة المأمون للدار التي اختفى فيها بخراسان عن أعدائه، فقال: “وكنتُ نازلا في دار أبوابها حديد، ولِيَ [فيها] “مُسْتشْرَفات” أجلسُ فيها إذا شئتُ”.
أما الرَّوْشن فهو ما يُعرف اليوم بـ”البرندة/الفرندة” أو الرَّدْهَة المفتوحة، وكانت تُتخذ في دُور الكبراء خاصة على الأنهار طلبا للهواء البارد؛ فقد مَرَّ أحدهم بدار التاجر البغدادي ابن الجصاص وقال: “فرأيتُه على “رَوْشَن” داره على دجلة في وقت حارّ من يوم شديد الحر، وهو حافٍ (= بلا نعلين) حاسِرٍ (= مكشوف الرأس)، يعدو من أول الروشن إلى آخره”؛ وفقا للتنوخي.
ومما يتصل بالسطوح من ملحقات مصبّات “الميازيب”، وهي قنوات صغيرة تكون مثبتة في بلاط السطح وخارجة منه ناحية الشارع، ووظيفتها تصريف ماء المطر من السطح إلى الشارع حتى لا يتجمع فوق البيت فيضرّ بسقفه. وقد تؤذي مياهُها المارّةَ من أسفلها كما حصل للوزير عليّ ابن الفرات عندما اجتاز -قبل توليه الوزارة- في شارع “فسال عليه ميزابٌ من دار فصيَّره آيةً ونكالًا” بسوء حاله وبؤس مظهره؛ حسب التنوخي في ‘نشوار المحاضرة‘.
وكما اتخذوا الميازيب لتصريف مياه الأمطار عن سطوح البيوت؛ فإنهم عالجوا أيضا مشكلة تجمُّع هذه المياه ونحوها في الطرقات بأساليب تدخل عموما في إجراءات “الصرف الصحي”؛ فالمؤرخ السمهودي (ت 911هـ/1505م) يحدثنا -في كتابه ‘وفاء الوفاء‘- عن مشكلة تجمُّع مياه المطر بالمدينة المنورة وخاصة حول المسجد النبوي، فيذكر وجود “بلاليع (= جمع بالوعة) يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار [فإن مياهها] تجتمع حول المسجد لامتلاء تلك البلاليع، فيصير أمام أبواب المسجد كالغُدْران الكِبار”.
ثم أوضح السمهودي الكيفية التي حُلّت بها هذه المشكلة؛ فقال إن “”مُتولِّي العمارة” (= كبير مسؤولي الإنشاءات الحكومية) حفَر سَرَبا لتلك البلاليع التي عند أبواب المسجد [النبوي]، وأوصلها بالسَّرَب (= المَجْرَى) الذي يسير فيه وسخ العين؛ فحصل بذلك غاية النفع، وصار الماء لا يقف بعد ذلك بأبواب المسجد.
تكيف وتكييف
اتخذ الناس في المناطق الحارة وسائل متنوعة لتلطيف الأجواء في المدن، فكان مما استخدموه لذلك “المراوح” اليدوية و”الخَيْش” -وهو ثياب من الكتّان- المرشوش بالماء والمراوح اليدوية لتبريد الغرف.
فقد جلس موسى بن عبد الملك الأصبهاني (ت 246هـ/860م) -حين كان وزير المالية أيام الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م)- ذات يوم “في خَيْش في حجرة من ديوانه (= مكتبه)، وفيه مِرْوحة يتناوبها فرّاشان يروِّحانه”؛ طبقا للتنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘.
ويبدو أن الهواء المتولِّد من الخَيْش والمِروحة كان شديد البرودة إلى درجة أن أحد زوّار الوزير “أصابـ[ـه].. بردُ المِروحة والخَيْش فنام واستثقل”، رغم قدومه لأداء مهمة رسمية خطيرة!!
وكان الخَيْش المرشوش يركَّب عند برج التهوية الخارج من أعلى السطح والمعرَّب من الفارسية باسم: “الباذْهَنْج/الباذْهَنْج” (= ساحب الهواء)، ثم أصبح يُدعَى “المُلَقّف”، وتُسمى أيضا “بيوت الخَيْش” عند الرحالة المقدسي البشاري (ت نحو 380هـ/991م) في ‘أحسن التقاسيم‘.
ويخبرنا التنوخي عن بعض تقاليد العمل في دار الخلافة؛ فيقول إنه “كان الرسم.. على كل عريف من الفرّاشين أن يدخل يوما من الأيام -هو ومن معه في عرافته- إلى دُورِ الحُرُم (= جناح النساء) لرشِّ الخُيُوش (= جمع خَيْش) التي فيها”، فكان الفرّاشون يحملون قِرَبًا من الماء لرشّ الخَيْش في برج “الباذْهَنْج”، فـ”تخرج منه ريح طيبة” تلطِّف أجواء البيت.
وفي الدُّور التي يسكنها أو يرتادها الخلفاء والوزراء كانت تتخذ الإجراءات الكفيلة بتبريد كافة أرجاء الدار وغرفها؛ فقد حكى ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1270م) –‘عيون الأنباء‘- أن الطبيب المسيحي بَخْتَيَشُوع بن جبرائيل (ت 256هـ/870م) أقام وليمة بداره في سامُرّاء للخليفة المتوكل وكان كبيرَ أطبائه.
وعندما أقيمت الوليمة “كان الوقت صائفاً وحرُّه شديدا..؛ فأحضر [بَخْتَيَشُوع] وكلاءَه وأمرَهم بابتياع (= شراء) كل ما يوجد من الخَيْش [لتبريد الهواء]..، ففعلوا ذلك وأحضروا كل مَنْ وجدوه من النجَّادين والصُّنّاع، فقطَّع لداره كلها: صُحُونها وحُجَرها ومجالسها وبيوتها ومُسْتراحاتها خَيْشاً، حتى لا يَجْتاز الخليفةُ في موضع غير مُخَيَِّش” لتبريده!!
وكانت السطوح تستخدم زمن الحر أماكن للنوم ليلا؛ إذ ورد عند الجاحظ -في ‘البخلاء‘- قول أحدهم في حوار مع صاحب منزل عراقي: “نحن في أيام الربيع.. ولستُ أحتاج إلى سطح فأغِمَّ عيالَك بالحرّ”!!
ويفيدنا الرحالة المقدسي بأن سكان إقليم خراسان بسبب الحرِّ “ينامون على السطوح وهم في تعب” من ذلك طوال الصيف، ويقارن مناخهم بمناخ بلاده فلسطين فيقول عن نفسه: “ومكثتُ أنا عشرين سنة ببيت المقدس أنام في البيت” دون حاجة إلى السطح صيفاً.
ويصف ابن جُبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في كتاب رحلته- فنادقَ مدينة جدة بأنها “لها سطوح يُستراح فيها بالليل من أذى الحرّ”. وربما تحولت أسطح بعض المنازل والقصور إلى حدائق للزينة وتبريد الأجواء بهوائها الندي، فالرحالة ناصر خُسْرَوْ يخبرنا أنه في القاهرة “غُرِست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات”!
إضاءة فائضة
وكانت القِباب تبنى لتكون مجالس باردة، فقد بنى أحمد بن طولون (ت 270هـ/884م) قبة “يقال لها “قبة الهواء” مُطِلَّة على النيل والبر”. ومن الطريف أنه في بعض البلدان صار اتخاذ القباب في البيوت مؤشرا على الملاءة المالية لأصحابها.
فهذا ابن عبد المنعم الحميري (ت 900هـ/1494م) يقول -في ‘الرَّوْض المِعْطار‘- إن مدينة جدّة في عصره يوجد “في أعلى منازلها قِبابٌ مُحْكَمة، ويَذْكُر أهلُها أن من بلغ كسْبُه مئة ألف دينار (= اليوم 16.7 مليون دولار أميركي تقريبا) بنى على داره قبة، [لـ]ـيُعْلَم بذلك أن كسبه قد بلغ العدد المذكور، وأهلها أغنى الناس وأكثرهم مالا، وبها دور كبيرة لها ثلاث قباب”.
وإضافة إلى مرافق التبريد؛ فإن البيوت كانت تزوَّد بوسائل إنارة مختلفة بعضها طبيعي من خلال فتحات الضوء الفسيحة في الغرف ومن خلال صحن الدار المفتوح بوسطها، وبعضها الآخر يتم باتخاذ الشموع والمشاعل والقناديل الصغيرة والضخمة، حتى إن بعض البيوت كان يفيض ضوؤُها على بيوت الجيران والشوارع من حولها.
ولذلك يحدثنا ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم البلدان‘- عن “زُقَاق القناديل” بالقاهرة؛ فيقول إنه “سُمِّي بذلك لأنه كان [فيه] منازل الأشراف (= أعيان المجتمع) وكانت على أبوابهم القناديل، وكان [بدايةً] يقال له ‘زقاق الأشراف‘”.
بدأ تجميل البيوت في الحضارة الإسلامية منذ العهد الأموي؛ فقد بنى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- دُوراً بمكة المكرمة كانت منها الدار البيضاء التي “بُنِيتْ بالجِصّ ثم طُلِيَتْ به”، والدار الرَّقْطاء التي “بُنِيتْ بالآجر الأحمر والجص الأبيض فكانت رَقْطاء” اللون.
كما بُنِيتْ بمكة المكرمة دار للخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) على يد وكيله حماد البربري (ت 187هـ/803م)، فكُسِيتْ “بالرخام والفُسَيْفِساء من خارجها، وبُنِيَ باطنُها بالقوارير والمِينا (= مادة زجاجية) الأصفر والأحمر” فكانت تُعرَف بـ”دار القوارير” لاستعمال الزجاج في بنائها؛ طبقا للأزرقي في ‘أخبار مكة‘. ويصف إسحق بن الحسين المنجم (ت بعد 358هـ/969م) في كتابه ‘آكام المرجان‘- ألوانَ طلاء المنازل بصنعاء فيقول إن “دُورها مدهنة (= مصبوغة) بالأحمر والأخضر”.
ويفيدنا الرحالة ناصر خُسْرَوْ بأن أهل الرملة بفلسطين اعتادوا استخدام الرخام في منازلهم فــ”ـزُيِّنتْ مُعظم السَّرايات (= القصور) والبيوت به”، وكانوا يجلبونه من الأعمدة الأثرية القريبة من أماكن سكنهم، حيث “يقطع الرخام بمنشار لا أسنان له”، وكانوا “يعملون المنشار على أعمدة الرخام بالطول لا بالعرض، فيخرجون منه ألواحا كألواح الخشب”، ومنها ألوان كثيرة فيها “المُلمَّع والأخضر والأحمر والأسود والأبيض ومن كل لون”.
لمسات جمالية
أما دار الأمير المملوكي آقوش الرومي بالقاهرة فقد زُيِّنتْ “بالرخام المنقوش الكثير الزينة”، كما يقول المقريزي. وقد تكون زخرفة البيت جزءا من عملية ترميم وصيانة شاملة له، ومع ذلك تُكلف مبالغ معتبَرة؛ فالحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) يخبرنا -في ‘إنباء الغُمْر‘- بأن أحد السماسرة الكبار بمصر “اشترى دارا.. بشاطئ النيل فزَخْرَفها وأتقنها، وغرم عليها.. أكثرَ من خمسة آلاف دينار (= نحو مليون دولار أميركي تقريبا)”.
وبعد ناصر خُسْرَوْ بثلاثة قرون؛ نجد لدى ابن خلدون ذكرا مفصلا لبعض طرق تجميل البيوت وكيفية نقش جدرانها وسقوفها، فقال إن “من صناعة البناء ما يرجِع إلى التنميق والتزيين، كما يُصنَع من فوق الحيطان الأشكالُ المجسَّمة من الجص، يخمَّر بالماء ثم يرجع جسدا وفيه بقية البلل، فيُشكَّل على التناسب تخريما بمثاقب الحديد”، وقد يُستخدم “على الحيطان أيضا بقطع الرُّخام أو الآجُرّ أو الخَزَف أو الصَّدَف أو السِّيج (= نوع من الخشب)”، سواء كاملة أو مقطعة لأشكال مختلفة و”توضع في الكِلْس”.
وكان مَن يقوم بتجميل البيوت بالرسوم والصور يُدعَى “المُزَوِّق”، فهو صاحب “حرفة التزويق وتدهين الأشياء الخشبية والسقوف”؛ طبقا للسمعاني في كتابه ‘الأنساب‘. وممن عمل في هذه المهنة من المشاهير الخطّاطُ المرموق علي بن هلال المعروف بابن البوّاب (ت 413هـ/1023م)، فقد ذكر ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- أنه “كان في أول أمره مُزوِّقاً يصوّر الدُّور”!
وقد عرف العرب المَصَاطِبَ قديما وسمَّوْها الدكاكين ومفردها دُكَّان/دكانة، ويروي الأزرقي -في ‘أخبار مكة‘- أن أبا سفيان بن حرب (ت 31هـ/652م) -رضي الله عنه- بنى أحجارا “شبه الدكان في وجه داره، [فكان] يجلس عليه في فيْء (= ظِلّ) الغداة”، فأمره الخليفة عمر بهدمها قائلا: “ما هذا البناء الذي أحدثته في طريق الحاج؟!”، فهدمها بنفسه.
وكان الدكان أمام الدُّور الصغيرة كدار مؤسس الدولة الإخْشِيدية محمد بن طُغْج (ت 334هـ/945م) أيام فقره، فقد “كان له على باب دُوَيْرَته دكانـ[ـة] يجلس عليها دائما ودابته مشدودة” إليه؛ حسب التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘.
ومن ملحقات البيوت أيضا أفْنِيتُها التي “هي متَّسَع أمام الدار” كما يقول شرف الدين الطيبي (ت 743هـ/1343م) في ‘الكاشف عن حقائق السُّنَن‘، ويعلل الطيبي الأمر النبوي بتنظيفها قائلا: “فإن ساحة الدار إذا كانت واسعة نظيفة طيبة، كانت أدعى لجلب الضِّيفان الواردين والصادرين”.
وترد في كتب التراث معطيات تفيد بأنهم كانوا يهتمون بتسمية شوارع المدن ويذكرونها عناوينَ للبيوت والمحلات؛ ومن ذلك أن الطبري ذكر -في تاريخه- مقتل الشاعر علي بن الجَهْم السامي (ت 249هـ/863م) فقال إنه “كان منزله في شارع الدُّجَيْل” ببغداد.
وترجم ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- للإمام إبراهيم بن إسحق الحربي (ت 285هـ/898م)، فقال إنه “دُفن في بيته في شارع باب الأنبار”. ويفيدنا أيضا الخطيب البغدادي -في ‘تاريخ بغداد‘- بأن الواعظ أبي الحسين بن سَمْعُون (سنة 337هـ/948م) “دُفن في داره في شارع العتابيين” ببغداد.
ظواهر عمرانية
وقد شهدت الحضارة الإسلامية مبكرا ظاهرة “بيوت العزاب” وبهذا الاسم تحديدا؛ إذ ترجع بدايتها فيها إلى الأيام الأولى للمسلمين بالمدينة المنورة؛ فقد “كان يقال لبيت سعد (بن خَيْثَمة الأنصاري ت 2هـ/624م): “بيت العزاب”، لأنه كان منزل المهاجرين منهم”؛ وفقا للإمام أبي الربيع الكلاعي الحميري (ت 634هـ/1236م) في كتابه ‘الاكتفاء‘. ثم تزايد في العهود اللاحقة انتشار “بيوت العزاب” فسكنها كثير من العبّاد والزهاد والحرفيين.
كما عرف المسلمون البناء المتعدد الطبقات الذي شيّده أهل اليمن قرونا قبل الإسلام؛ فكان منزل عبد الله ابن أرْطَبَان (ت 151هـ/770م) في الكوفة مكوَّناً من طابقين على الأقل، وكان هو “يسكن أعلى داره” التي كانت مؤجَّرة الغرف ومقسَّمة الأجزاء لتوزُّع سكانها دينيا، فقد “كان له وكيل نصراني يجبي غَلَّة داره، وكان سكّانه في داره -التي هو فيها- نصارى ومسلمون”؛ حسب ابن سعد في ‘الطبقات الكبرى‘.
وفي أواسط القرن الخامس الهجري/العاشر الميلادي؛ قال الرحالة ناصر خُسْرَوْ واصفا مباني طرابلس اللبنانية: “وأربطتُها (= أبراج الحراسة) أربع أو خمس طبقات، ومنها ما هو ست طبقات”. وأما القاهرة فيقول عنها: “وبمصر بيوت مكونة من أربع عشرة طبقة وبيوت من سبع طبقات”، وإن كان “معظم العمارات تتألف من خمس أو ست طبقات”.
وفي القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي؛ يخبرنا ابن جبير الأندلسي -في كتاب رحلته- بأن فنادق جدة “مبنية بالحجارة والطين، وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغُرف”. أما مساحات المباني داخل تلك طبقات بيوت بعض المدن؛ فكانت كما يقول ناصر خُسْرَوْ: “سمعتُ من تاجر ثقة أن بمصر دُورا كثيرة فيها حجرات للاستغلال أي للإيجار، ومساحتها ثلاثون ذراعا في ثلاثين (= 225 مترا تقريبا)، وتَسَعُ ثلاثمئة وخمسين شخصا”.
وإلى جانب البيوت المستقلة؛ وُجدت الشقق السكنية الصغيرة في مصر منذ القرن الثامن على الأقل، وشاع أمرها فسماها أهل المغرب الإسلامي “المصريات” حتى ولو كانت جناحا خاصا داخل سفينة بحرية، كما نجد عند ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) -في كتاب رحلته- حين وصف ضخامة السفن في بحار الهند الإسلامية والصين، فقال إن بعضها يتكون من “أربعة ظهور (= طوابق)، ويكون فيه البيوت والمَصَاري (= جمع مصرية: جناح مفرد بمرافقه) والغرف للتجار، والمصرية منها يكون فيها البيوت (= الغُرَف) والسِّنْداس (= المِرحاض)، وعليها المفتاح يسدُّها صاحبها” عليه.
ونجد عند محمد بن القاسم الأنصاري (ت 825هـ/1421م) -في ‘اختصار الأخبار‘- ذكرا للشقق “المصريات” بمدينة سبتة المغربية؛ فقد عدّ فيها “من الفنادق المعدَّة لسكنى الناس -من التجار وغيرهم- الفندق المعروف بـ‘فندق ابن غانم‘، ويشتمل على ثلاث طبقات وثمانين بيتا وتسع مصريات”!!
ولعل خير ما نختم به هذا التطواف التاريخي في عمران البيوت في الحضارة الإسلامية؛ ذلك الوصف الشامل والبديع الذي أتحفنا به الرحالة المقدسي البشاري -في ‘أحسن التقاسيم‘- لدار السلطان البويهي عضد الدولة (ت 372هـ/983م)، وهو يلخص التطور الذي وصل إليه عمران البيوت بحواضر الإسلام في القرن الرابع الهجري/الـ10 الميلادي.
فقد قال المقدسي إن عضد الدولة “بنى بشيراز دارا لم أَرَ في شرق ولا غرب مثلَها، ما دخلها عامي إلا افتُتن بها، ولا عارف إلا استدل بها على نعمة الجنة وطيبها: خَرَقَ فيها الأنهار، ونصب عليها القباب، وأحاط بـ[ـها] البساتين والأشجار، وحفر فيها الحياض، وجمع فيها المرافق والعُدَد”.
ثم يعدد البشاري -الذي كان جدُّه من أمهر المهندسين بفلسطين- ما امتازت به هذه الدار قائلا: “وسمعت رئيس الفراشين يقول: فيها ثلاثمئة وستون حجرة ودارا، كان مجلسه كل يوم واحدة إلى الحول (= انتهاء السنة)، وهي سُفْلٌ وعُلْوٌ، وخزانة الكتب حجرة على حدة عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد ولم يبق كتاب صُنِّف إلى وقته -من أنواع العلوم كلها- إلا وحصله فيها.. والدفاتر منضَّدة على الرفوف، لكل نوع بيوت والفِهْرِسْتات فيها أسامي الكتب..، وطُفت في هذه الدار كلها سفلها وعلوها وقد فُرِشتْ فيها الآلاتُ فرأيتُ في كل مجلس ما يليق به من الفرش والستور، ورأيت بيوت الخَيْش ينزع (= يرشّ) عليها الماء من قُنِيّ (= قنوات) حولها من فوق بالدوام، ورأيت الأنهار تطّرد (= تجري) في البيوت والأروقة”!