أخذت الرياضة في الإسلام وفي تاريخ المجتمعات الإنسانية عموما مكانة عالية تكشف لنا عن التصاقها بروح المجتمع مهما كانت ثقافته أو ديانته أو بيئته أو تاريخه، وانطلاقاً من هذه الحقيقة التاريخية يمكن القول إن الرياضة كانت ولا تزال وستظل تمثّل حاجة اجتماعية ضرورية للإنسان في كل زمان ومكان، الأمر الذي دفع بعض الكتّاب إلى التأليف حول العلاقة التاريخية بين الرياضة والمجتمعات عبر مراحل التاريخ المتعددة.

ويبدو لنا أن كتاب (الرياضة والمجتمع) لأيمن أنور الخولي من أهم الكتب العربية التي ركّزت على العلاقة التاريخية بين الرياضة والمجتمع من أجل “استجلاء أبعاد المغزى الاجتماعي للرياضة”، حيث أكد في مقدمة عمله هذا أن الرياضة تعد من “الأنشطة الإنسانية المهمة، فلا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات الإنسانية من شكل من أشكال الرياضة، بغض النظر عن درجة تقدم أو تخلف هذا المجتمع”[1]، وقد خرج من رحم هذه العلاقة القديمة المتجدّدة بين الرياضة والمجتمعات علم جديد يُسمَّى (علم اجتماع الرياضة) أولاهُ الباحثون الرياضيون أهمية خاصة.

وقد نكون في غنًى عن القول إن المجتمع الإسلامي – كأي مجتمع إنساني- كانت له علاقة بالرياضة باعتبارها حاجة اجتماعية مستمرة، ومن أجل الوقوف على جوانب مختلفة من تاريخ الرياضة في الإسلام سنقوم من خلال هذه المقالة بجولة سريعة في كتاب (الأربعون الرياضية: أربعون حديثاً في فضائل الرياضة) لمؤلفه محمد خير رمضان يوسف، حيث نعتبر أن هذا الكتاب مهم في بابه، ويحتاج القارئ المسلم أن يطّلع عليه ليأخذ ثقافة شرعية صحيحة عن عالم الرياضة.

لكن قبل الانتقال إلى نقاش المحتوى، لا بد من القول إن المؤلف قام من خلال هذا الكتاب بغربلة كتب الحديث الشريف، فجمع الأحاديث الصحيحة المتعلقة بمختلف مجالات الرياضة، وبذلك استطاع أن يُقدّم لنا صورة عن مكانة الرياضة وأنواعها وفوائدها وأخلاقياتها في تاريخ الإسلام، وألمحَ إلى منهج الدراسة ودوافعها وأهدافها وحدودها، حيث قال إن كتابه هذا “ليس شاملاً لأنواع الرياضات في الإسلام، ولا هو معالجة موضوعية لجوانبها المتعددة، بل هو مساهمة وتذكير لجوانب منها بما يدلُّ عليها مجموعة من الأحاديث النبوية الكريمة الصحيحة”[2].

مكانة الرياضة في الإسلام

لا شك أن الرياضة لها مكانة كبيرة في الإسلام، والحقيقة أن المطالع للمصدرَيْن الأساسيَّيْن في الإسلام (القرآن الكريم والسنة النبوية) لا يحتاج أن يبذل جهداً كبيراً لكي يقف على آيات قرآنية أو أحاديث نبوية تشير إلى مكانة الرياضة وتحث الإنسان على ممارستها، ففي القرآن الكريم مثلاً نقرأ قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، (الأنفال 60)، وفي الحديث الشريف نُطالع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير”.

وقد اختلف المفسرون في تحديد المقصود بـ (قُوَّةٍ) في الآية القرآنية السابقة، فقال ابن عاشور (ت: 1393 هـ): “والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها”، فيما قال الواحدي (ت: 468 هـ) بعد أن استعرض بعض الأقوال المختلفة: “قال أهل التحقيق الأولى أن يُقال هذا عام في كل ما يتقوَّى به على حرب العدو، ولا نخص شيئاً دون شيء”، كما اختلف علماء الحديث في معنى (القوة) المشار إليها في الحديث النبوي، فذهب النووي إلى أن المراد بالقوة عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيما ذهب آخر إلى أنها تشمل عدة معانٍ.

فوائد الرياضة

وللرياضة فوائد عديدة يصعب حصرها في هذا المضمار، ولكن من أهمها إعطاء الجسم حقّه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن لجسمك عليك حقاً”، كما أن من مميزات وفوائد الرياضة في الإسلام أنها “ليست هدفاً في ذاتها، بل وسيلة للأعمال الصالحة “، لذلك يحتاج الرياضي أن يسأل نفسه دائماً هل قام “بأعمال دعوية تناسب صحته وقوة جسده؟ [3].

ولعل من أهم فوائد ممارسة الرياضة أيضاً أنها تُكسبُ الإنسان القدرة على الدفاع عن نفسه وممتلكاته وعرضه ودمه وأهله وجيرانه، وأكد المؤلف حاجة الإنسان إلى تعلّم بعض ألعاب الصراع والدفاع عن النفس، كما أشار إلى أن هذه الألعاب لها سلبيات حذّر منها الشرع، منها أن تُستَخدَم في غير موضعها الصحيح لإلحاق الضرر والأذى بالآخرين.

ولا تقتصر فوائد الرياضة على ما سبق ذكره، بل هناك أيضاً فوائد أخرى عديدة، منها أن الرياضة تنقل الإنسان إلى عالم الفيروسية، فتعلّمه بعض الألعاب والمهارات الشريفة، مثل: ركوب الخيل، والرمي واللعب بالحراب والرماح، والمبارزة، والصيد، ثم إن فوائد الرياضة تتعدد بتعدد أنواعها وأشكالها، ولهذا فإن ممارسة أي رياضة ستضيف فائدة جديدة للإنسان ينتفع منها جسمه وعقله.

أنواع الرياضات

تكشف لنا الأحاديث النبوية عن عدة أنواع من الرياضات في تاريخ الإسلام تضم مجالات عديدة لا بد أن يجد كل شخص نفسه في إحداها على الأقل، فهناك: رياضة المشي، ورياضة المصارعة، ورياضة الملاكمة، ورياضة المبارزة، ورياضة الصيد، ورياضة ركوب الخيل وتعلّم السباحة، ورياضة النفوس، ويمكن أن نشير إليها على النحو التالي.

أولاً، رياضة المشي: تدخل تحتها عدة أنواع (المشي العادي، والهرولة، والجري)، وهناك المشي في مناسك الحج، والمشي إلى المساجد، والسير خلف الجنازة، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً ماشياً فيصلي فيه ركعتين”، وفي حُمَّى يثرب أمر النبي أصحابه “أن يَرمُلوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم”[4]، وقالت عائشة رضي الله عنها: “سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء الله، حتى إذا رهقني اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك.

ثانياً، رياضة المصارعة: روى أبو جعفر بن محمد بن علي بن رُكانة عن أبيه أن رُكانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرَعه النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً، رياضة الملاكمة: جاء في الحديث: “إذا قاتل أحدكم أخاهُ فليتجنب الوجه، فإن الله خلقَ آدم على صورته”، وقد ذهب المؤلف إلى أن “هذا الحديث يدلّ على تحريم الملاكمة، لأنها قائمة على الضرب في الوجه”[5].

رابعاً، رياضة المبارزة: ومن الأمثلة عليها المبارزة المشهورة التي حدث في غزوة بدر، حيث أمر النبي محمد ثلاثةً من أصحابه الشجعان: علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بمبارزة شيبة وعتبة ابنَيْ ربيعة والوليد بن عتبة.

خامساً، رياضة الصيد: جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن حكم الصيد، فقال للسائل: “.. وأما ما ذكرتَ أنك بأرض صيدٍ، فما صدتَ بقوسك فاذكر اسم الله ثم كُلْ، وما صدتَ بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كُلْ، وما صدتَ بكلبك الذي ليس معلَّما فأدركتَ ذكاته فكُل”.  

سادساً، ركوب الخيل وتعلّم السباحة: جاء في الحديث: “كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو وسهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغَرَضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة.

يبدو أن إيجابيات الرياضة لا تقتصر على الجانب الدنيوي فقط بل تتجاوزه إلى الجانب الآخروي، والظاهرة أن المؤلف تنبّه إلى هذه المسألة المهمة فخصص صفحات عديدة للحديث عن رياضة الرمي وحدها، حيث استعرض عدة أحاديث نبوية تكشف عن مفهوم الرمي في الإسلام ومكانته وأحكامه وفوائده الدنيوية والأخروية، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”.

وفي هذا السياق، نقل المؤلف تعليق الإمام النووي على الحديث السابق، حيث قال: “وفيه وفي الأحاديث بعده فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك .. إلخ”[6]، وهكذا يبدو جلياً أن السنة النبوية تدعو إلى تعلّم الرمي وممارسته، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على نفر من “أسلم” ينتضلون، فقال: “ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان”.

ويكفي الرمي قيمة أنه من أسباب دخول الجنة، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله لَيُدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد له”، وهناك حديث آخر يشير إلى أفضلية الرمي على ركوب الخيل، نظراً للأدوار الكثيرة التي يؤديها السهم ولا يستطيع الفرس القيام بها، وقد أشار إلى بعض هذه الأدوار صاحب (مغني المحتاج) وصاحب (بغية المشتاق في حكم اللهو واللعب والسباق)[7].

ويمكن أن نفهم من بعض الأحاديث النبوية أن اللهو بالسهم يُعدّ لهواً هادفاً ونبيلاً ومطلوباً، فقد جاء في الحديث: “ستُفتحُ عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يَعجز أحدكم عن أن يلهو بأسهمه”، ولعل مما يؤكد قيمة الرمي أكثر أن نسيانه يعتبر من الأمور غير المحبّبة شرعاً، حيث جاء في الحديث: “من عَلمَ الرمي ثم تركه فليس منا (أو قد عصى)”.

اقرأ أيضا :

الرياضة في تاريخ المسلمين

الأخلاق الرياضية

في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب المهم، توقف المؤلف مع الأخلاق الرياضية والتربية الرياضية، فأوضح أن هناك بعض الحالات التي قد تطرأ “على من يمارس ألعاباً رياضية مع آخرين لا توافق الأخلاق التي ارتضاها الدين الحنيف” كالتحاسد والتباغض والتدابر (المعاداة)، لذلك استعرض الحديث النبوي: “.. لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا”.

وقد فسّر القرطبي (وكونوا عباد الله إخوانا) بقوله: “كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمساواة والمعاونة والنصيحة”[8]، والحقيقة أن الابتعادَ عن الحسد والبغض والتدابر أمرٌ شرعيٌّ مطلوبٌ امتثاله في كل المجالات ومنها مجال الرياضة، كما أن نظرية “الروح الرياضية” ينبغي أن تقف سداً منيعاً أمام الحسد والبغض والتدابر.

ولعل من معالم التربية الرياضية المهمة التي يُمكن أن نستخلصها من بعض الأحاديث النبوية ما يتعلق بعدم الكشف عن العورة أثناء ممارسة الرياضة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة”، وجاء في حديث آخر: “احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك”.

بقي علينا أن نقول إن كتاب (الأربعون الرياضية) مهم جداً في بابه، فلا تخلو شاشة اليوم من حديث عن الرياضة في أحد أركان الكرة الأرضية، ولهذا نحن نعتقد أن الاهتمام الواسع بالرياضة يستدعي من المسلمين اليوم العودة إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالرياضة، من أجل استجلاء الأحكام الشرعية والأخلاق الرياضية وتطبيقها في عالم الرياضة المليء بالمخالفات الشرعية والأخلاقية.


[1] أيمن أنور الخولي، الرياضة والمجتمع، 5.

 

[2] محمد خير رمضان يوسف، الأربعون الرياضية، 5.

 

[3] المصدر نفسه، 12.

 

[4] انظر، المصدر نفسه، 17.

 

[5] المصدر نفسه، 45.

 

[6] المصدر نفسه، 77.

 

[7] انظر: المصدر نفسه، 81-83.

 

[8] انظر: المصدر نفسه، 96-98.