تاريخ النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية : الحقُّ في التنظيم والتسيير الذاتي عرفٌ عربي أقرَّه الإسلام وقوّاه، فالمجتمع الحضاري الإسلامي ليس مجتمع أفراد وفردانية وإنما مجتمع جماعة وتناصر؛ إذْ ينضوي المسلم تحت أطُرٍ ذاتية التدبير من الشبكات الاجتماعية والمعرفية والمهنية التراحمية، جذرُها القديم هو العائلة والقبيلة، وتجلياتها الحضارية لا تنتهي متعديةً العلاقات الرحمية إلى الأخويات والمذاهب والطوائف والطُّرق والحِرَف والتجمعات السياسية والتربوية.

كانت تلك الأوعية الاجتماعية تعمل شبكاتِ دعمٍ وحمايةٍ ووسطاءَ بين المجتمع والسلطة، تختلف مسمياتها من زمن إلى زمن ومن جغرافيا إلى أخرى، ولكن جوهرها واحد. ففي اللحظة التي وطئ فيها النبي ترابَ طيبة، بل قُبيلها بأشهر؛ تحركت تلك الفعاليات الاجتماعية إلى أقصى دلالتها، فعرف المجتمع المدني مصطلح “النقيب” العشائري الذي يمثّل التجمع الأهلي أمام النبي بوصفه “إمامَ الأمَّة والمنفردَ بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ/1081م) في كتابه ‘المنتقَى‘.

ثم كانت -كما سنرى- “نقابة” أهل الصُّفّة الذين هم مجموعة من الصحابة الكرام كانوا فقراء بلا عوائل أو قبائل في مجتمع المدينة، ومع جريان الزمن ظهرت النقابات المناقبية مثل “نقابة الأنصار”، بل إن بعضها كان عبارة عن تنظيمات ثورية سرية كـ”نقابة العباسيين” بصيغتها الأولى، كما عمل بعضها جماعة ضغط سياسية مثل “نقابة العلويين”. وكانت تلك النقابات المجتمعية تقوم إلى جانب ذلك بدور الرعاية والدفاع عن مصالح أعضائها، بالإضافة إلى الدور التفاوضي مع السلطات.

وفي الدولة الأموية؛ ظهرت بدايات النقابات المهنية حين انتقل مصطلح “العريف” (اجتماعيا ورسميا) من حيزه القبلي المحض ليدخل الدوائر ذات التماس بين المجتمع والسلطة، فنطالع حينها مثلا توظيفا طريفا لهذا المصطلح في قطاع كشؤون المساجد وهو “عريف المؤذنين”، وفي ميدان الأدب ظهر فعلا أيامَها كذلك “عريف الشعراء”، كما اقتُرِحت فكرة تأسيس اتحاد لكُتّاب النثر الفني العربي.

ثم تطورت الأوضاع ليأخذ دور “العريف” في هذا العصر وضعه المؤسسي الواضح، والذي سيطبع لاحقا حياة النقابات بمختلف أنواعها على النحو الشامل والمستوعِب الذي يحكيه هذا المقال، مفنِّدا الأطروحات الاستشراقية التي تربط نشأة النقابات المهنية بالحركات السرية الهدّامة.

كان من سمات النقابات والتجمعات الأخوية أنها ذات مرونة حركية ووظيفية؛ فهي عند الحاجة الشخصية وعاءٌ اجتماعي تكافلي، وهي ساعة المظالم السلطوية تجمُّعٌ احتجاجي ثوري، وهي في مواجهة الغزاة كتيبة نضالية جهادية، وفي أوقات المجاعات والأزمات جبهة إسناد وإنقاذ للمجتمع بكل فئاته.

وهي -في جميع الأوقات- معهد تعليمي لأصول وآداب المهنة، ومؤسسة رقابية وقضائية تقوّم سلوك أعضائها وتؤدب المقصِّر منهم، وقد واكبتها في كل ذلك جهود تشريعية فقهية أطّرت الممارسات المهنية بما يحفظ جودتها ومصالح منتجيها ومستهلكيها، كما نظَّرت لمنح التعاضد النقابي مكانة تضاهي التكافل القرابي إن لم تتغلب عليه، وقدم فقهاء الإسلام في ذلك أفكارا كانت سابقة لعصرها فأسست لأول مدونة قانونية نقابية ومهنية.

وإلى جانب ذلك كله؛ فقد أخذت النقابات المهنية على عاتقها مزْج روح التجمع المهني بالنوازع العاطفية والدينية، من خلال إجلال كبراء الصناعة، وتسلُّم منتسبيها أسرار النقابة بـ”السند” المهني و”الإجازة” الحِرفية، في محاكاة ذات دلالة واضحة لتقاليد الجماعات المعرفية في تلقيها “صناعات” العلوم بالأسانيد والإجازات العلمية والشرعية، وهي محاولة لترقية تلك المهن لتكون مجتمعيا في مستوى “شرعية” النقابات العلمية الفقهية والحديثية.

ولأن النقابات المهنية في أغلبها هي تجمعات من أجل المعاش والنفع العام؛ فهي لم تعرف أي تميز على أساس الدين أو الطبقة أو حتى الجنس، بل كان بابها مفتوحا للجميع انتسابا وانتخابا، وظل شرطها مهنيا خالصا يخص الصلاحية والكفاءة فقط، وهو ما يعني أن غير المسلمين كان من الشائع منحهم حق العضوية في النقابات المهنية بل ورئاسة ما كان منها ذا مكانة خطيرة ومرموقة كنقابة الأطباء؛ كما سنرى في هذا المقال الذي يروي قصة النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية وأسبقيتها لأبرز التقاليد النقابية السائدة في عصرنا.

تجربة ذاتية

جاء تطور النقابات والجماعات الحرفية في الحضارة الإسلامية ضمن سياق مركّب اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا؛ أما كونها نشأت من تأثيرات رومانية/بيزنطية أو فارسية، أو تأسست بجهود من التنظيمات السياسية الشيعية الإسماعيلية وخاصة القرامطة منها؛ فتلك دعوى ذهب إليها مستشرقون مثل لويس ماسينيون (ت 1382هـ/1962م) وبرنارد لويس (ت 1439هـ/2018م)، مفترضين ارتباط النقابات بالمرتكزات الفكرية والدينية التي تبنتها الحركة القرمطية، وأيضا بالظروف الاقتصادية المضطربة التي وظفتها لتجنيد القوى العاملة، لكنهما لم يقدما أدلة مقنعة تدعم تلك الآراء.

وقد عُرضت وجهات النظر الاستشراقية هذه بوضوح في المقالات التي نشرها الدكتور عبد العزيز الدُّوري (ت 1431هـ/2010م)، سواء تلك التي ترجمها للمستشرق برنارد لويس (أربعة مقالات بعنوان: “النقابات الإسلامية”؛ نُشرت في مجلة “الرسالة” المصرية ضمن أعداد: 355-356-357-362)؛ أو تلك التي كتبها هو ولخص فيها ما سبقه من طرح في هذا المجال (مقالان بعنوان: “الأصناف والحِرف الإسلامية”؛ نُشرا في مجلة “الرسالة” المصرية ضمن العددين: 983-984).

لقد قدّم الدوري -في مقاليْه- استدراكات عامة على تلك المقولات الاستشراقية الإطلاقية، لكنها لم تكن -رغم أهميتها- كافية في تعميق الاشتباك معها وبيان غلبة الادعاءات فيها على البينات، وهو ما سنحاول هنا تقديم مقاربة تاريخية فيه نعتقد أنها تتضمن قيمة مضافة في نقاش هذه القضية الجدلية.

فإذا كانت دعوى ماسينيون -كما ينقل عنه برنارد لويس في مقاله الأول- قائمة على أن “الحركة الإسماعيلية هي التي أوجدت الطوائف (= النقابات) الإسلامية وأعطتها ميزتها الخاصة التي حافظت عليها حتى الآن”؛ فإنه من الجلي أن علاقة بعض الحِرَفيين بالدعوة الإسماعيلية -وخاصة فرعها القرمطي- اتسمت بالفردية ولم تأخذ صيغة جماعية واضحة الملامح تؤهلها لإنشاء كيانات نقابية بالحجم والتعقيد المعروف تاريخيا، لاسيما أن هؤلاء الأفراد كانوا يعيشون في مناطق “السواد” شديدة الهامشية جنوبي من العراق.

ولعل أفضل وسيلة لدحض الفكرة الاستشراقية القائلة بالتأثير الروماني/البيزنطي أو الفارسي والأصل القرمطي أو الإسماعيلي لتعليل نشأة النقابات الحرفية والمهنية في الإسلام؛ هو وضع ظاهرة النقابات المهنية في سياقها التاريخي برصد تمظهراتها المختلفة اجتماعيا ومعرفيا وحِرَفيا، وبيان محطات تطورها المجتمعي وتنقُّلها بين القبيلة والدولة والمجتمع المدني (المعرفي والصناعي).

ذلك أن العودة إلى تطور تاريخ مصطلح “النقيب/النقابة” -وكذا نظائره المختلفة مثل العريف/العِرافة والشيخ والرئيس والمقدَّم- تظهر أن فكرة وجود رؤساء أو مشرفين على تجمعات وفئات مجتمعية -يرعون مصالحها ويسوّون نزاعاتها ويمثلونها أمام الآخرين- فكرة قديمة سبقت وجود تنظيمات الحركة الإسماعيلية الشيعية.

فقد كان معروفا مثلا في لغة العرب أن “النقباء جمع نقيب، وهو كالعريف على القوم المقدَّم عليهم، الذي يتعرّف أخبارَهم وينقِّب عن أحوالهم، أي يفتش” عنها؛ وفقا للإمام اللغوي جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت 711هـ/1311م) في معجمه ‘لسان العرب‘.

وتعود التطبيقات الأولى لهذه الفكرة إلى العهد المكي من تاريخ الإسلام، كما هو معروف في أحداث السيرة النبوية من قصة نقباء “بيعة العقبة” الثانية سنة 13ق.هـ/622هـ، الذين “هم اثنا عشر نقيبا رأْسُهم أسعد بن زرارة (ت 1هـ/622م)..، (فقد) نقَّب النبيُّ أسعدَ على النقباء”؛ طبقا للذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘.

تأصيل نبوي

وفي العهد المدني تلاقينا مظاهر أكثر رسوخا لفكرة النقابة المجتمعية، كما في الحديث النبوي “أن رسول الله قال حين أذِنَ له المسلمون في عتق سَبْي هوازن: إني لا أدري مَنْ أذِنَ منكم ممن لم يأذِن؛ فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤُكم أمرَكم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤُهم فرجعوا إلى رسول الله فأخبروه أن الناس قد طيَّبوا (= وافقوا) وأذنوا”؛ (صحيح البخاري).

بل إن النبي نصّب نفسه نقيبا لأخواله بني النجار الذين هم بطن من الأنصار عندما توفي نقيبهم أسعد بن زُرارة؛ فالإمام الذهبي يروي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه “جاءت [إليه] بنو النجار فقالوا: مات نقيبُنا أسعد فنقِّب علينا يا رسول الله! قال: «أنا نقيبكم»”.

وفي هذا الحديث دلالة على أن القبائل كانت ترى وجود النقيب” ركنا أصيلا في كيانها المجتمعي، ولذا وُصف أيضا الصحابي الجليل أبو هريرة (ت 59هـ/670م) بأنه “نقيب أهل الصفة” كفئة مستقلة لأنه كان “عريفهم حين هاجروا”؛ طبقا للإمام النووي (ت 677هـ/1278م) في كتابه ‘تهذيب الأسماء واللغات‘.

وخلال عصر الفتوح، وتحديدا في خلافة عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- نجد ظهورا واضحا للنقباء/العرفاء في تنظيم الدولة، وخاصة المؤسسة العسكرية وتنظيمات جيوش الفتوح في العراق والشام ومصر.

وهو ما تلخصه مادة “عريف” في كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الاستشراقية الصادرة عن مؤسسة “بريل” الهولندية؛ فتقول إن العريف “مصطلح يطلق على الذين يتولون بعض المناصب المدنية أو العسكرية، على أساس من الكفاءة في الأمور التي تستند إلى العرف، وليس إلى المعرفة بالأمور الدينية التي يتميز بها العالم”.

وأضاف المصدر أنه “كان العريف زمن الراشدين والأمويين يقوم بجمع الضرائب من القبائل ويسلمها إلى ‘المصَّدِّق‘ (= الجابي) الذي يعيِّنه الخليفة..، ومن عهد عمر -وما بعد ذلك- نجد إشارات كثيرة عن وظيفة العريف فيما يتعلق بالتنظيم الحربي للدولة والأمصار..، [فـ]ـجند الكوفة قد قسموا بعد معركة القادسية إلى وحدات (عِرافات) يرأس كل منها «عريف».

وفي الدولة الأموية؛ طرأ تحول جديد حين انتقل مصطلح “العريف” (اجتماعيا ورسميا) من حيزه القبلي المحض ليدخل الدوائر ذات التماس بين المجتمع والسلطة، فنطالع مثلا خلال عهد معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) -رضي الله عنه- توظيفا طريفا لهذا المصطلح في قطاع كشؤون المساجد وهو “عريف المؤذنين”. وبالتالي يأخذ دور “العريف” في هذا العصر وضعه المؤسسي الواضح والذي سيطبع لاحقا حياة النقابات بمختلف أنواعها.

علم الفلك عند المسلمين
تاريخ النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية

مَأسسة أموية

ويتجلى ذلك في كون “معظم التفاصيل عن مهام العريف ترجع إلى عهد معاوية فقط؛ فقد كان كل عريف يختص بعرافة ما، وكان مسؤولا عن توزيع العطاء (= المخصصات المالية) بين أفراده، ومن ثم كان عليه أن يحتفظ بسجل (ديوان) فيه أسماؤهم وعائلاتهم. وأكثر من ذلك كان مسؤولا عن الأمن في نطاق عِرافته، بجانب مسؤولياته عن جمع أموال الدعم والتحكيم في المنازعات بين أفراد ‘العرافة‘”؛ وفقا لكتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘.

ويؤكد المصدر ذاته أنه في العهد الأموي كان “من بين الوظائف المدنية التي يحمل صاحبها اسم ‘العريف‘.. في القرنين الأولين للهجرة (= السابع والثامن للميلاد).. موظف مخصوص مسؤول عن مصالح الأيتام والأطفال غير الشرعيين، وكذلك نقرأ عن عريف للذميين”.

ومن الواضح أن المقصود هنا ما ذكره ابن عساكر الدمشقي (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ بغداد‘- من أن قاضي مصر للأمويين عبد الرحمن بن معاوية بن حُدَيْج (ت 95هـ/715م) كان “أولَ قاضٍ نظر في أموال اليتامى وضمَّن عريفَ كل قوم أموال يتامى تلك القبيلة، وكتب بذلك كتابا فكان عنده.. وشهرها وأشهد فيها، فجرى الأمر على ذلك” بدءا من لحظة تعيينه قاضيا سنة 86هـ/706م!!

وفي المجال الأدبي أيضا ظهر “عريف الشعراء” في آخر العهد الأموي أيام خلافة مروان بن محمد (ت 132هـ/751م)؛ فقد كان له “عريف على الشعراء يَخْبُر (= يختبر) أشعارَهم فيُحسِّن لمُحْسنهم، ويرعَى مسيئَهم وينحّي لهم فاسدَه”؛ وفقا لابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘.

ومن الواضح أن هذا “العريف” كانت مسؤولياته تتطابق مع جوهر صلاحيات “النقيب” في أي جماعة وظيفية متخصصة، من صيانة مكانة الصنعة، ومكافأة المتميزين في منتجاتها، ورفع مستوى الضعفاء من منتسبيها، وتحقيق مستوى مقبول من التضامن والتكافل بينهم، وتمثيلهم جماعيا أمام السلطة وأجهزتها الرسمية.

ولا يبعد أن تكون نشأت لكُتّاب النثر الفني الأدبي نقابة بجانب “نقابة الشعراء”؛ فقد جاء في الرسالة التي وضعها عميد كتّاب العربية عبد الحميد بن يحيى الكاتب (ت 132هـ/751م) لزملائه الكتّاب لتكون دستورهم في مهنهتم التي صارت “صناعة” آنذاك:

“وتحابُّوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها فإنها شيم أهل الفضل والنبل من سلفكم، وإن نبا الزمانُ برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حالُه، فإن أقعد الكِبَرُ أحدَكم عن مَكْسبِه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا (= استعينوا) بفضل تجربته وقديم معرفته”؛ وفقا لبهاء الدين البغدادي (ت 562هـ/1167م) في ‘التذكرة الحمدونية‘.

ولذا رأى مؤرخ الآداب العربية العلامة شوقي ضيف (ت 1426هـ/2005م) -في ‘تاريخ الأدب العربي‘- أن هذا النص دليل على أن عبد الحميد “يطلب إلى الكتَّاب أن يؤلفوا بينهم ما يشبه النقابة في عصرنا، فقد حضهم على الأخذ بيد من ينبو به الزمان منهم ومساعدته حتى يعود إلى ما كان عليه من الرَّفَهِ في العيش”.

وهو استنتاج يأخذ وجاهتَه من أن عصر عبد الحميد -الذي كان كبير كتّاب آخر خلفاء بني أمية- هو الذي تأسست فيه “نقابة الشعراء”، فلا يبعد عليه أن يسعى لزملائه الكتّاب في نظيرة لها تجمعهم وترعى مصالحهم، على نحو ما نرى اليوم في نقابة الصحفيين.

وعلى كل؛ فإن نقابة الكتّاب (اتحاد الكتب) رأت النور فعلا في العصور اللاحقة تحت عنوان: “نقابة المتعمِّمين” أي حمَلَة الأقلام من كتّاب الإدارات الحكومية، وكان لهم رئيس يسمَّى “نقيب المتعممين” وفقا لما نجده في نصوص متعددة -عن أخبار هذه الوظيفة ومَنْ تولَّوها من النقباء- في مصادر تاريخ العصر المملوكي.

نقلة فنية

أما في القطاع الاقتصادي؛ فنجد في العصر الأموي الأول ظهورا لمصطلح “عريف السوق” كما سيأتي، ثم فتحت الدولة العباسية -في مطلع حكمها- البابَ أمام التشكُّل الطبيعي للنقابات الحرفية حين مَنحتْ أهلَ كل حرفة حيزا مكانيا تتجاور فيه دكاكينهم، بما يعطيهم فرصة التداول اليومي في شؤون المهنة ومصالحها وتنظيم علاقتها بالمجتمع والسلطة!

فالمؤرخ ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ/1295م) يخبرنا -في ‘البيان المُغْرِب‘- أن والي الغرب الإسلامي للعباسيين يزيد بن حاتم المهلبي (ت 170هـ/786م) كان “حسن السيرة فقدم أفريقية (= تونس) وأصلحها، ورتب أسوار القيروان، وجعل كل صناعة في مكانها” من أسواق المدينة سنة 155هـ/773م.

ويأخذ الأمرُ هنا دلالتَه الخاصة من أن المعتاد آنذاك في التسميات الرسمية أن تُقْرَن الوظيفة الإشرافية الحكومية بلفظ “صاحب” لا بلفظ “عريف”، كما في “صاحب الشرطة” (مدير الأمن)، و”صاحب الخبر” (موظف الاستخبارات عميلا أو مديرا)، و”صاحب العذاب” (جلّاد السجن).

وعلى مستوى التنظيم المجتمعي؛ كان أول تجمع نقابي ذا هوية عربية وصريحا في نزعته النقابية بتسميته رسميا بـ”النقابة”، فظهرت -منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي- كيانات مجتمعية عامة أخذت بها النقابة القبلية بُعدا أكثر مؤسسية، كما في “نقابة الأنصار” الجامعة لبطونهم.

فنحن نجد أول ذكر لهذه النقابة عند المؤرخ ابن يونس الصدفي المصري (ت 347هـ/958م)، وذلك في ترجمته للعالم والشاعر سعيد بن كثير الأنصاري (ت 226هـ/841م) الذي قال إنه “كان ممن يلي «نقابة الأنصار» والقَسْم عليهم”، أي أنه يوزّع عليهم مخصصاتهم المالية الحكومية.

وفي القرن نفسه ظهرت “نقابة الهاشميين” التي كانت بذرتها الأولى مع تأسيس مجلس “نقباء بني العباس” الذي تولى ترتيبات ثورتهم على الأمويين، لكنه سرعان ما انسلخ مِن بُعده التنظيمي السياسي الجامع ليكون مجرد رابطة اجتماعية للهاشميين، ثم انفصلت إلى فرعين منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي جراء الانقسام السياسي المريع بين المكونين الكبيرين البيت الهاشمي، فأصبحت كتب التاريخ تتحدث عن “نقابة العباسيين” و”نقابة الطالبيين” أو “نقابة العلويين” أو “نقابة الأشراف”.

ورغم العداء الشديد الذي اصطبغت به العلاقة بين العباسيين وإخوانهم العلويين جراء صراعهم على عرش الخلافة؛ فإن الأمر استقر على تجاور المؤسستين منذ بدايات القرن الرابع الهجري/الـ10م، كما تفيدنا بذلك ترجمة المؤرخ ابن أيبك الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- لمحمد بن أحمد بن عبد الصمد الهاشمي المعروف بابن طُومَار (ت 320هـ/922م)، والذي “ولي نقابة العباسيين والطالبيين جميعاً أيام المقتدر (ت 320هـ/922م)”.

ومن حينها “لم تزل نقابة الطالبيين تساهمهم الخلافة العباسية في المناصب، وتزاحمهم في كواكب المواكب بالمناكب، وتُشْرِكهم في كل عقد وحل”؛ طبقا للصفدي في ‘أعيان العصر‘. وكان لكل من النقابتين فروع في عدد من حواضر المشرق الإسلامي تتبع للنقابة المركزية في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، والتي أطلِق على من يتولى منصبها الجامع لقب “نقيب النقباء”، وكان يعينه الخليفة العباسي.

ومن أشهر من تولى هذا المنصب: محمد بن أبي تمام علي بن الحسن الزَّيْنَبي (ت 426هـ/1036م)، وكذلك ولده المحدِّث المشهور طِرَاد الزَّيْنَبي (ت 491هـ/1098م). ويبدو أن هذه النقابة اشتهرت لاحقا في دولة المماليك -وما بعدها من عهود- بـ”نقابة الأشراف”.

تحوّل تاريخي

وكان لهذه النقابة مكانة قانونية ورسمية مرموقة كإحدى المؤسسات الشرفية في الدولة الإسلامية، وهو ما عكسته مباحث كتب الفقه السياسي منذ القرن الخامس الهجري/الـ11م؛ فقد جاء في ‘الأحكام السلطانية‘ للإمام الماوردي (ت 450هـ/1059م) بسط لكيفية التعيين فيها وبيان لصلاحياتها.

وطبقا لما أورده الماوردي؛ فإنه كان من أهم مسؤوليات متوليها فيما يتعلق بعلاقتهم بالمجتمع والدولة: “أن يكفَّهم (= أبناء البيت الهاشمي) عن ارتكاب المآثم، ويمنعهم من انتهاك المحارم”، وأن “يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم”، وأن “ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة”، وأن “يقوِّم (= يعاقب) ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود”، كما عليه “مراعاة وُقوفهم (= أوقافهم المالية) بحفظ أصولها وتنمية فروعها”.

ومن الواضح أننا نجد في هذه الصلاحيات تشابها واضحا مع كثير مما استقرت عليه لاحقا تقاليد النقابات المهنية من رعاية أخلاق المنتسبين، ومعاقبة الخارجين على أعراف المهنة والمخلين بما يحفظ سمعة منتسبيها، وكذا حماية مصالحهم المادية، وتمثيلهم أمام السلطات الرسمية.

ومنذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي؛ بدأت التنظيمات النقابية تتجاوز إطارها الاجتماعي السياسي لتصل إلى دوائر الحِرف والصناعات، التي حفزتها تطورات المجالات الاقتصادية والعمرانية على تنظيم نفسها، واعتماد أشكال من التكتل الفئوي تحفظ للصناعة أعرافها المهنية ولممارسيها حقوقهم الاقتصادية، وتؤمِّن للسلطة مستوى من الرقابة والضبط لتلك المهن والصناعات باعتبارها مرافق خدمية يؤثر أداؤها في مصالح المجتمع.

وقد كانت الصلة بين السلطة وأرباب الصنائع (القطاع الخاص) تدور بين جهازين رسميين: مؤسسة القضاء وهيئة الحسبة، مع العلم بأن الدوري يرى -في الأول من مقاليْه المذكوريْن سابقا- أن “أول إشارة لوظيفة المحتسب تعود لخلافة المعتضد (العباسي ت 289هـ/902م)” الذي حكم خلال 279-289هـ/892-902م.

ويذهب شوقي ضيف -في ‘تاريخ الأدب العربي‘- إلى أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها النصف الأول من هذا القرن كان من نتائجها أنْ “نشأت طبقات كثيرة حينئذ من الحِرَفيين أو المهنيين..، فكان لكل حرفة أصحابها الخاصُّون.. [إلى درجة تبلغ] الاختصاص الدقيق، ولا ريب في أن ذلك هو الذي أدى إلى أن تنشأ في العالم العربي من قديم فكرة النقابات للحرفيين والصناع، وإن كانت حينئذ لا تعدو دَوْرَ النشأة البسيطة”.

وهذا التحول الواضح -الذي شهده هذا العصر- هو ما جعل المستشرق ماسينيون “يعطي.. رأيا أقرب للقبول -في بحثه في ‘دائرة معارف العلوم الاجتماعية‘- فيبين أن النقابات [الحِرَفية] نشأت في البلاد الإسلامية في القرن التاسع الميلادي (= القرن الثالث الهجري)”؛ طبقا لما ينقله عنه الدوري.

وقد أيد ماسينيون في ذلك التحديد لبداية نشأة النقابات الحرفية زميلُه برنارد لويس -في مقالاته السابقة الذكر- عندما رصد في هذا القرن “تطورا ظاهرا فيما يسمي بالأصناف الإسلامية، وحينئذ نجدها من نوع لا يصح تعليله بالتأثير أو التراث البيزنطي”، وذلك لأن “هذه النقابات كانت من نوع يختلف تماما عن النقابات الموجودة قبل الفتح الإسلامي”!!

على أن الخلل الذي أصاب التحليل التاريخي لهذين الباحثين هو أنهما جعلا نشأة النقابات حادثة في نهايات هذا القرن، وذلك لكي تستقيم لهما دعوى الدور الإسماعيلي/القرمطي فيها، بينما الواضح أن التأريخ لها ببدايات القرن هو الصحيح لانسجامه مع حركة الأحداث، واتساقه مع تطور النماذج النقابية من بُعدها القَبَلي البحت إلى وضعها المؤسسي الفني الخالص.

تنظير قانوني

ومما يعزز وجهة النظر هذه أننا نجد في أواخر القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي تنظيرا فقهيا واضحا للتضامن النقابي إلى درجة تقديمه على التعاضد النَّسَبي، مثل ذلك الذي قدمه الإمام الحنفي محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ/805م) -في كتابه ‘الأصل‘- حين وسّع دائرة التضامن القبلي المتعلق بالتعويض عن تلفيات الجنايات -والمسمى فقهاً بـ”العاقِلَة” التي هي جهة تأمين عن الضرر- لتشمل أصحاب القطاع الوظيفي الواحد (الديوان/الإدارة).

بل إنه صرّح بأن العلاقة الوظيفية/المهنية هنا قد تكون مقدَّمة على العلاقة في النَّسَب والاشتراك في الموطن، ما دام المستفيد منها (الجاني) لا يعمل بين أهله وفي مدينته الأصلية. وهذا هو التضامن النقابي في أجلى صوره وأكملها كما نعرفه اليوم بين أصحاب القطاع المهني الواحد.

يقول الإمام الشيباني: “وليس يَعْقِل (= يضمن/يؤمِّن) أهلُ مصرٍ (= مدينة) عن أهل مصر، [فـ]ـلا يعقل أهل البصرة عن أهل الكوفة..؛ لأن عاقلتهم على الديوان (= الإدارة الحكومية/القطاع الوظيفي)، فالدواوين مختلفة. وأهل الكوفة يعقلون عن أهل سوادهم وقراهم (= مزارعيهم)..، ولو أن أخوين لأب وأم أحدهما ديوانه بالكوفة والآخر ديوانه بالبصرة لم يعقل أحدهما عن صاحبه، وعقل عنه أهل ديوانه. وأهل الديوان يتعاقلون على الدواوين وإن تفرقت أنسابهم.

ولو أن قوما من أهل خراسان أهل ديوان واحد مختلفين في أنسابهم… جنى بعضهم جناية عقل عنه أهل رايته (= وظيفته/مهنته) وأهل قيادته، وإن كان غيرهم أقرب إليه في النسب. فإن كان أهل رايته وقيادته قليلا ضم إليهم الإمام (= صاحب السلطة) من رأى من أهل الديوان حتى يجعلهم عاقلة واحدة…، وأهل الديوان يتعاقلون دون أهل الأنساب”.

ومنذ القرن الخامس الهجري/الـ11م على الأقل؛ حظيت النقابات في مصر الفاطمية بتنظيم أكثر وضوحا ومسؤوليات أكثر تحديدا من الحقب السابقة. فالمؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) يفيدنا -في ‘اتّعاظ الحنفا‘- بأنه “كان في كل سوق من أسواق مصر على أرباب كل صنعة من الصنائع عريف يتولى أمورهم”، وكانت جماعتهم تُدعى “عرفاء الأسواق”، ومن مسؤولياتهم إبلاغ قرارات السلطة ذات الصلة بمهنتهم إلى جميع منتسبيها.

فقد ذكر المقريزي أنه في سنة 517هـ/1123م “خرج أمر [الوزير الفاطمي] المأمون (البطائحي ت 519هـ/1125م) إلى الوالييْن بمصر والقاهرة بإحضار عرفاء السقّائين، وإلزام المتعيِّشين (= العاملين) منهم بالقاهرة بحضورهم متى دعت الحاجة إليهم ليلاً ونهاراً”. وورث الأيوبيون هذا النمط عن الفاطميين فأبقوا عليه ليدخل في مصنَّفات هيئة الحِسْبة، ككتاب المحتسب الشافعي ابن نصر الشَّيْزَري (ت 590هـ/1194م): “نهاية الرتبة الظريفة في الحسبة الشريفة” الذي تناول فيه العلاقة بين المحتسب وعريف كل مهنة.

وفي العصر المملوكي تعاظم الدور الاقتصادي لمصر في المنطقة، مما أدى إلى أن “تزدهر صناعة الملابس والفرش والأثاث والجلود والحلي والمعادن والزجاج الملون، وكانت الدولة تهتم بصناعة الأسلحة وسفن الأساطيل، وكل ذلك عمِل على ازدهار الصناعات، ومما يدل على هذا الازدهار بوضوح أننا نجد لكل فئة من الصناع نقابة خاصة تنظر في شؤونهم فيما بينهم وبين أنفسهم، وكذلك فيما بينهم وبين الشعب من جهة والحكومة من جهة ثانية”؛ طبقا لشوقي ضيف في ‘تاريخ الأدب العربي‘.

تأطير رسمي

ونتج عن ذلك التطور الكبير للوضع النقابي بمصر المملوكية اعتمادُ سلطاتها التعيينَ الرسمي لرؤساء خمس نقابات مهنية وإدراجهم ضمن أصحاب الوظائف، باعتبارهم أشخاصا هامين للغاية يجري تعيينهم بقرار رسمي ذي صيغة معينة، وذلك ربما لدقة هذه المهن وأهميتها واتصالها بحياة الناس، وجسامة الأضرار الناجمة عن تولي من لا يستحقها لممارستها.

ويورد القلقشندي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- طائفة من “ألقاب أرباب الوظائف من أهل الصناعات”؛ فيعدّد منها خمسة منها: “مهندس العمائر”، و”رئيس الأطباء”، و”رئيس الكحّالين (= أطباء العيون)”، و”رئيس الجرائحيين (= أطباء الجراحة والتجبير)”. ثم يوضح مهامهم على الترتيب؛ فيقول إن مهندس العمائر “يتولى ترتيب العمائر، وتقديرها، ويحكم على أرباب صناعاتها”، أما رئيس الأطباء فـ”يحكم على طائفة الأطباء، ويأذن لهم في التطبيب”، وكذلك يشبهه رئيسا الكحّالين والجرائحيين.

وكلمة “يحكم” -التي يوردها القلقشندي مقرونة بكل وظيفة نقابية- تدل على أن الترخيص بممارسة المهنة وسحب الترخيص والعقوبات أمر موكول فعلا إلى رئيس الطائفة؛ وبهذا فإن رئيس النقابة في هذه الحالة يمارس صلاحياته كما يفعل رؤساء النقابات اليوم تماما تجاه أعضاء نقابته.

ولذا كان يشترط في الذي سيختبر مهارة منتسبي الصنعة أن يكون مرجعا في أصولها وتقاليدها، وعدّوا “مِن انتكاس الدهر أن يُولَّى امتحانَ الصناع مَنْ ليس بحاذق في صناعتهم”؛ طبقا للراغب الأصفهاني في ‘محاضرات الأدباء‘.

وكان هذا الترخيص مرهونا أيضا بفحص واختبار قدرات المتقدمين، وموافقة قدراته وطُرُق علاجه للأساليب المتبعة المتعارف عليها. فكان كتاب التعيين يتضمن توصية رئيس الطائفة بالنظر “في أمر طائفته ومعرفة أحوالهم”؛ وفقا للقلقشندي الذي يورد الصفات التي كانت مطلوبة في كل من يتولى إحدى تلك النقابات الخمس.

وقد رافق ذلك التنوع في المؤسسات النقابية على المستوى الاجتماعي والحِرَفي نظير لهما على الصعيد المعرفي؛ فكانت “نقابة الفقهاء” الإطار التنظيمي المعبّر عن ذلك الوعي النقابي في المشهد المذهبي، وظهر لدينا منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي مصطلح “نقيب الفقهاء” الذي كان أقرب -في دلالته- إلى مفهوم “العمادة العلمية”، أو نقابة الأساتذة.

وأول من يطالعنا من حملته هو الفقيه المحدّث عمرو بن علي البغدادي (ت قبل 198هـ/814م) الذي كان “يُعرف بـ‘نقيب الفقهاء‘”؛ وفقا للخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في ‘تاريخ بغداد‘.

ثم استمر هذا اللقب بصيغته هذه مذكورا في تراجم العلماء -في غير ما بلد ومذهب فقهي- حتى القرن التاسع الهجري/الـ15م على الأقل، لكنه بدأ ينتقل بدلالته من مجرد الإشارة إلى “العمادة العلمية” ليأخذ حمولة تقرّبه من مفهوم “النقابة العلمية” على النحو المعروف اليوم في روابط الأساتذة واتحادات المدرسين.

ولذلك لاحظ عبد العزيز الدُّوري -في مقاليْه المذكورين سابقا- أن “روح التكتل والانسجام في المؤسسات العلمية الراقية أو المدارس جعل الطلبة والأساتذة يكوّنون نقابة، ولهم بعض المراسيم المشتركة مع النقابات [المهنية]، مثل: اللباس الخاص (الروب) والإجازة، وتشابه الدرجات من تلميذ إلى معيد إلى مدرس إلى أستاذ”. كما أشار برنارد لويس -في مقالاته المذكورة آنفا- إلى أنه “في العهد الفاطمي.. نشأت نقابة الأساتذة والطلاب التي تؤلف الجامعة العظيمة..: الأزهر”.

روابط معرفية

ومن النصوص التاريخية الدالة على تحوّل “نقابة الفقهاء” من نموذج العمادة العلمية إلى وضعية المؤسسية النقابية أي نقابة المعلمين أو نقابة المدرسين؛ ما أورده الإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) حين ترجم -في ‘الضوء اللامع‘- للفقيه عبد الغفار بن سليمان التلواني القاهري (ت بعد 852هـ/1448م) فقال إنه “عمِل نقيب الفقهاء بالقلعة”.

فلنا أن نفهم من ذكر “القلعة” -وهي مركز الحُكم في دولة المماليك- هنا أن “نقيب الفقهاء” (نقيب المعلمين) هذا كان حلقة الوصل بينهم وبين مركز السلطة، وبذلك فإن هذا المصطلح صار يحيل إلى “وظيفة” مقررة لها عملها وعائدها المادي على صاحبها الذي يتميز بها عن بقية الفقهاء.

وهو ما يؤكده المنهاجي الأسيوطي (ت 880هـ/1475م) -في كتابه ‘جواهر العقود‘- فيقول في إحدى وثائق الأوقاف المذهبية: “وشرط الواقف أن يصرف إلى كل واحد من… الْفُقَهَاء الْأَرْبَعين فِي كل شهر كَذَا، وَإِن كَانَ شَرط لَهُم أنصبة من الْخبز وَاللَّحم وَالطَّعَام وَغَيره ذكَرَهَا، ثمَّ يذكر ‘نقيب الْفُقَهَاء‘ وَمَاله من الْمَعْلُوم (= الراتب) وما عليه من تفريق الربعة وجمعها إلى صندوقها بعد الدعاء، وبسط سجادة المدرس وسجادات الطلبة ورفعها”.

وإضافة إلى النقابية الفقهائية؛ نرصد حضورا مبكرا لمفهوم “العريف” في أدبيات الصوفية منذ القرن الرابع الهجري/الـ10م، إذْ نجدهم يوظفونه في قصص لقاءات بعض مشايخهم مع “عريف الأبدال” ذي المكانة المركزية في تعاليمهم؛ حسبما يخبرنا به عن أحدهم الإمامُ المحدِّث ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘.

ثم يتطور ذلك الحضور الرمزي إلى تقليد عملي فنجد الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) يترجم -في ‘إنباء الغُمْر‘- للحسن بن عبد الله الصيرفي المصري (ت 780هـ/1378م) فيذكر أنه “كان نقيب الفقراء (= الصوفية)”، كما ترجم للشيخ شمس الدين محمد بن عمر الميموني الشافعي (ت 841هـ/1437م) فيفيدنا بأنه “كان أبوه نقيبَ [متصوفة] الزاوية المعروفة بالخشابية” في القاهرة.

ومن الفقهاء والصوفية عَبَرَ تقليدُ النقابية إلى أوساط العلماء المشتغلين بالحديث النبوي؛ فكان منهم شرف الدين داود بن أحمد بن سُنْقُر المقدّمي (ت 690هـ/1289م) الذي وصفه الإمام المحدِّث علم الدين البِرْزالي الإشبيلي (ت 739هـ/1338م) -في كتابه المعروف بـ‘تاريخ البرزالي‘- بأنه ” الشيخ الصالح المحدِّث… وكان نقيب المحدثين”.

كما ترجم البرزالي للمحدِّث الصوفي شمس الدين خليل بن بدران الحلبي (ت 695هـ/1294م) فذكر أنه “كان نقيب المحدِّثين”. وجاء في كتاب ‘الوفيات‘ لابن رافع السَّلامي (ت 774هـ/1372م) أن جمال الدين كساب بن محمد المشهدي الحنبلي (ت 740هـ/1339م) كان “نقيب المحدثين بالجامع الحاكمي” في القاهرة.

تنوّع لافت

إن تنصيب مسؤول أسواق للفئات الحِرَفية فكرة قديمة في الحضارة الإسلامية رافقتها في خطواتها المدنية الأولى؛ ففي الكوفة -أيامَ قاضيها شُرَيْح بن الحارث الكِنْدي (ت 73هـ/693م)- يَرِد ذكر وظيفة “عريف السوق” على نحو شديد التخصص، إذْ تطالعنا -وفقا للقاضي وَكِيع بن حيّان الضَّبّي (ت 306هـ/918م) في كتابه ‘أخبار القضاة‘- ألقابٌ من قَبيل: “عريف سوق الدجاج” و”عريف سوق السنانير (= القطط)”!

وفي وقت لاحق؛ اكتسب “عريف السوق” وضعا قانونيا أكثر وضوحا، فالإمام أبو بكر الجصّاص الرازي (ت 370هـ/981م) يفيدنا -في كتابه ‘الفصول في الأصول‘- بأن مفهوم “السُّنّة” عند الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) يطابق ما يفعله “عريفُ السوق سليمان بن بلال (ت 172هـ/788م)”، وكان هذا العريف محدِّثا ثقة، ويظهر أن أفعاله كانت تجسيدا لـ”عمل أهل المدينة” النبوية وإجماعهم، وهو أصل تشريعي قوي لدى الإمام مالك.

ولئن دلت تلك النصوص على عراقة وظيفة “عريف السوق” لدى المسلمين؛ فإن أقدم عريف مهنة محددة غير مرتبطة بعالم الأسواق هو “عريف المؤذنين” في مسجد عمرو بن العاص بمصر، وسننقل لاحقا عن القاضي المؤرخ المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بعض أخبار هذا العريف.

ويقدم لنا الإمام الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- ما يفيد بأن “عرافة المؤذنين” في مصر استمرت عبر القرون حتى عصره هو على الأقل، لكنها أخذت لقب “رئاسة” الأكثر رسمية في دلالته؛ فقد ترجم للحسن بن وصَّاف (ت 344هـ/955م) فذكر أنه كان “رئيس المؤذِّنين بمصر.. ثمّ عرَّف (= صار عريفا) عليهم مِنْ بعده بُكَيْر بن عافية (ت بعد 344هـ/955م)”.

كما تَرجَم الذهبي أيضا لأمين الدين أحمد بن محمد بْن مرتفع (ت 693هـ/1294م) فقال إنه كان “رئيس المؤذّنين بالجامع الجديد بمصر”. والوظيفة نفسها كانت في مساجد الشام بدليل ما ورد في ترجمة المحدِّث أبي إسحق برهان الدين الواني (ت 735هـ/1334م) من أنه كان “رئيس المؤذنين بجامع بني أمية” في دمشق؛ طبقا لابن أيبك الصفدي في كتابه ‘نَكْتُ الهِمْيان‘.

ويروي الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- خبرا يرد فيه ذكر “رئيس البنائين” في بغداد، وأن مؤسسها الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (ت 158هـ/776م) استشكل أمرا في نفقات بناء قصر الخلافة “فبعث إلى رئيس البنائين فدعاه” وسأله عما استشكله.

ويمتد تقاليد تأسيس المرجعيات المهنية إلى بعض الدوائر الفنية داخل الجهاز الإداري لبعض الدول الإسلامية، رغم ما قد يكون في هذه الدوائر من مخالفات صريحة لتعاليم الإسلام. ومن ذلك أنه كان ضمن موظفي بلاط الخلافة العباسية “رئيس للمنجمين”.

فقد ورد في خبر أن الخليفة العباسي المعتز بالله (ت 255هـ/869م) خاطب أبا معشر البلخي المنجِّم (ت 272هـ/885م) قائلا: “جعلتك «رئيس المنجمين» في دار الخلافة”، وقرر له راتب “مئة دينار (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا) في كل شهر”؛ حسب القاضي المحسِّن التَّنُوخي (ت 384هـ/995م) في ‘نشوار المحاضرة‘.

تميّز مؤسسي

وبدءا من أواخر القرن نفسه؛ تصادفنا الجهود التي بذلها الخليفة العباسي المعتضد بالله (ت 278هـ/891م) لتطوير التعليم الحِرَفي والمعرفي، في مشروع لم يُكتَب له الإنجاز؛ إذْ يروي قُدَامة بن جعفر (ت 337هـ/948م) -في كتابه ‘الخراج وصناعة الكتابة‘- أن المعتضد بالله أراد أن يبني “دُورا ومساكن ومقاصير يرتّب في كلّ موضع منها رؤساء كلّ صناعة ومذهب، من كلّ مذاهب العلوم النظريّة والعملية، ويجري عليه الأرزاق السنيّة، ليقصد كلّ من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه”!!

أما في منطقة الغرب الإسلامي؛ فقد عرفت الأندلس مبكرا تقاليد النقابات المهنية، فاشتهرت فيها وظيفة “عريف البنائين” التي توازي نقابة المهندسين وظلت معروفة إلى نهايات القرن السادس الهجري/الـ12م على الأقل.

ففي دولة الموحِّدين يحدثنا مؤرخها عبد الملك ابن صاحب الصلاة (ت 594هـ/1198م) -في كتابه ‘المَنُّ بالإمامة‘- عن بناء جامع إشبيلية سنة 555هـ/1160م، وأنه حضره “شيخ العرفاء أحمد بن باسة (ت بعد 555هـ/1160م) وأصحابه العرفاء البناؤون من أهل إشبيلية، ومعهم عرفاء البنائين من أهل حضرة مراكش ومدينة فاس.

ومن تجليات عراقة العمل النقابي في تونس وتميزه مؤسسيا حتى اليوم؛ أنه كان يوجد فيها منذ القرن التاسع الهجري/الـ15م -على الأقل- منصب “أمين الأمناء” الذي يوازي اليوم وظيفة الأمين العام لأحد الاتحادات المهنية، وكانت السلطات تعترف به ممثلا لفروع نقابته أمام دوائرها الرسمية.

فقد ذكر الحافظ السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- أن المحدّث الفقيه محمد بن محمد ابن عزوز التونسي (ت 873هـ/1468م) تولى نقابة التجار فـ”كان أمين الأمناء بتونس، بمعنى أن التجار ونحوهم يتحاكمون إليه في العرفيات فيقضي بينهم ولو بالحبس والضرب”.

ومن العجيب أن رئاسة المهن لم تقتصر على الصنائع الفنية الدقيقة، بل تسرّب تقليدُها مبكرا إلى مختلف أنواع النقابات العمالية، بما فيها تلك التي تُسمَّى “المهن الهامشية” في المدن؛ ويبدو أن ذلك جاء لتلبية الحاجة الاجتماعية للجماعة المهمشة، بما يوفر لها مجموعة من الضمانات المختلفة، أو يُكسبها نوعا من الانتماء النفسي والتدريب العملي.

فقد كان للكنّاسين ببغداد عريف يذكره الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في كتابه ‘الحيوان‘- حين يخبرنا بأن اسمه “نوفل عريف الكناسين، وعنده كل كنَّاس بالكرخ” غربي بغداد. كما كان لجماعات المتسوِّلين عريف؛ إذْ يروي التَّنُوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- أنه كان لمتسوِّلي بغداد “شيخ لهم أيسر (= تموَّل) وعظمت حالته حتى استغنى عن الشحذ (= التسول)، فكان يعلمهم ما يعملون” في “حرفتهم”.

كما عرف المغرب الأقصى نقابة العمال عبر تخصيص نقابات لعدد من تلك الفئات الحرفية “الهامشية”، منها فئة الحمّالين الذين كانت لهم أوضاع تنظيمية خاصة سنتطرق لها لاحقا. وقد بلغ عددهم مثلا في بعض مدن المغرب 300 حمّالا ما بين القرنيْن العاشر والـ14 الهجري/الـ16 والـ20م، كما سيرِد أنه كانت في مصر نقابة للحمّالين منذ العهد المملوكي على الأقل.

ولئن كان المجال لا يتسع لاستعراض المعطيات التاريخية التي يمكن للباحث الظفر بها عن النقابات المهنية في مصادرنا التراثية؛ فإنه لا يسعنا إلا أن نثبت عناوين ذات دلالة كبيرة على تجذّر وتنوع هذه الظاهرة الحضارية في تاريخنا، وكلها تتعلق بنماذج نقابية لم نتعرض لبسط القول فيه هنا.

ومن ذلك أسماء نقباء المهن التالية: “شيخ الصيارفة”، “رئيس القبّانية”، “شيخ الدباغين”، “عريف الصاغة”، “عريف الكناسين/شيخ الكناسين”، “شيخ الوقّادين”، “رئيس النخاسين”، “أمين الصيادلة” (نقيب الصيادلة)، “رئيس الأطباء بالديار المصريّة والبلاد الشاميّة”، “رئيس صناعة تربية الدجاج والأوز”، “نقابة ربابنة القرصان”، “نقابة الصابئة.

وللطرافة أيضا؛ فإن الطفيليين أسسوا “نقابة” في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، فكان مركزها الأول في البصرة وتولاها “عريف للطفيليين [كان] يبرُّهم (= يتعهدهم) ويكسوهم، ويرشدهم إلى الأعمال ويقاسمهم” الأموال التي يجمعونها؛ طبقا للإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘التطفيل وأخبار الطفيليين‘، والذي يفيدنا بأنه كان عريفهم في بغداد “بنان الطفيلي” (ت نحو 253هـ/867م).

تنظيم محكم

باستثناء نصوص متفرقة -في كتب الحِسْبة والتراجم والتاريخ- تطرقت لصلاحيات النقيب المهني وعلاقته بمنتسبي صناعته، أو تلك التي تعرضت لتاريخ جماعات الفتوّة من كتب أرَّخت لها أو مدونات رحلات احتكّ أصحابها بتلك الجماعات؛ فإننا لا نكاد نجد مؤلفات ذات بال تكشف لنا تفاصيل حياة التنظيمات الحرفية وهيكلتها الداخلية، وإضافة لذلك “ترجع أكثرُ الوثائق وكلُّ الأخبار -التي لدينا عن النظام الداخلي للأصناف (= النقابات)- إلى الفترة التي تلت العهد المغولي”؛ طبقا لبرنارد لويس في مقالاته عن النقابات الإسلامية.

وبناء على المعطيات التاريخية المتوفرة؛ يمكن القول بأن الجماعات المهنية والحِرَفية اعتمدت تراتبية تنظيمية داخلها منذ وقت قديم؛ فكان “الأستاذ” في الصنائعيين يقابل ما يُعْرف اليوم في أعرافهم بـ”المعلّم”، وكانت أجرته في الأعمال الكبيرة تختلف عن أجرة الأقل مهارة أو من يعملون تحت يده؛ وفقا لما يخبرنا به الخطيب البغدادي في حديثه عن بناء بغداد.

تاريخ النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية
تاريخ النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية

ويبدو أنه منذ القرن السادس الهجري/الـ12م استُعمل لقب “الأستاذ” للحديث عن المتميز في الحِرف اليدوية كالنجارة، حسبما يُفهم من قول الذهبي في ترجمته لمؤيد الدين محمد بن عبد الكريم الحارثي (ت 599هـ/1203م) إنه “كان ذكيا أستاذا في نجارة الدق”.

وقد بدأ الانتماء إلى “المعلم” في المهنة يأخذ طابعا هاما منذ القرن السابع الهجري/الـ13م على الأقل؛ إذ يذكره ابن المعمار البغدادي الحنبلي (ت 642هـ/1244م) -في كتابه ‘الفتوة‘- مضيفا إياه إلى لبس الخِرْقة وشدّ الفتيان، وناسبا إليه “شد الثقاف” الذي يعرّفه بأنه “انتساب في الصناعة لمن انتسب إليه” ممارسُها.

وقد ظهرت طقوس غريبة في مجال الفتوة كشرب دم الحليفين فيها، ولذا نص على تحريم تلك الممارسات ابنُ المعمار الحنبلي، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) -في ‘مجموع الفتاوى‘- بقوله إن “شَدَّ الوسط لشخص معين للانتساب إليه.. من بِدَع الجاهلية”.

وفي عصر لاحق على ذلك؛ عرفت النقابات المهنية في دمشق استحداث هيئة “شيوخ المشايخ” التي هي أقرب إلى “اتحاد نقابات” مهني، وكانت تتقلُّد مهام عديدة من بينها محاكمة المخالفين للنُّظُم المهنية المعتادة. ولعل استحداثها كان أحد مظاهر تأثر تلك النقابات بالتقاليد الصوفية التي كان منها منصب “شيخ الشيوخ” الذي تنضوي تحته زعامته الدينية أغلبية الطرق الصوفية.

وذكر الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) أنه في أصفهان كان مقدَّم كل صناعة يسمى “الكلو”؛ فيقول واصفا دقة تنظيمهم ومقارنا بينهم وبين نقابات “الفتيان الأخية” بالأناضول في خدماتهم الاجتماعية: “وأهل كل صناعة يقدّمون على أنفسهم كبيرا منهم يسمونه «الكلو»…، وتكون [فيهم] الجماعة من الشبّان الأعزاب (= العُزّاب)، وتتفاخر تلك الجماعات، ويُضيف (= يستضيف) بعضُهم بعضا مُظْهرين لما قدروا عليه من الإمكان (= الثراء)، محتفلين في الأطعمة وسواها الاحتفال العظيم”!!

وفي حديثه عن هيكلية الحِرَف الداخلية في العصور المتأخرة؛ أورد عبد العزيز الدوري -في مقاليْه المذكوريْن سابقا نقلا عن مصادر تركية ككتاب الفتوة أو ‘فتوّتْ نامه‘ للرحالة التركي أوليا جلبي (ت 1095هـ/1684م)- أنه في الأناضول كان “تركيب الحرفة من: ‘الشيخ‘ (النقيب) والجاويش (= العريف) والأوسطة (الأستاذ) ثم ‘الشاكرد‘ أو المبتدئ” في تعلم الصنعة. ويشير الدوري إلى أن جلبي عدّد “جميع الأصناف وحوانيتهم وشيوخهم.. وهي 1001 صنف (= حرفة)”.

مؤهلات صارمة

وطبقا للدوري أيضا؛ فإنه في بعض المدن التركية كان النقيب -الذي ربما سُمي “أخي بابا”- يتولى إدارة شؤون الحِرَفة، ويساعده مجلس تنفيذي يسمى “اللونجة” مؤلف من خمسة أساتذة منتخَبين من الحرفيين، وتحت هؤلاء مراتب متفاوتة حسب السن تبدأ من المبتدئ وحتى “الخليفة”.

وهناك مجلس أعلى لكل الحرف مكون من رؤساء كل حرفة بمثابة رابطة نقابية جامعة أو اتحاد عام للنقابات بمفهومنا اليوم، ولهم رئيس عام كان يسمى ببعض مدن الأناضول “كهيالرباش” (رئيس الرؤساء). وقد عُرف “كهيالرباش” عند الصنائعيين بدمشق بـ”شيخ المشايخ”.

أما وظيفة “شيخ الحرفة” نفسها فكان يجب على من يتولاها -ولو بالوراثة- أن يحوز موافقة أهل الحرفة، مع تحلّيه بصفات عديدة كالتميز في إتقان الحرفة، والأخلاق الطيبة. ولا يُستبدل إلا إن صدر منه ما يوجب ذلك من إخلال بأخلاقيات الصنعة أو بالسمعة، وكان تعيينه من قبل “شيخ المشايخ” يقتضي احتفالا خاصا. أما الصناع فكانت العهود تؤخذ عليهم بالمحافظة على أسرار الصنعة والالتزام الأخلاقي فيها.

ويروي أوليا جلبي -حسب الدوري- أن النقابات الحرفية كانت تنظم استعراضا سنويا ينطلق فيه “الموكب وقت الفجر ويستمر في سيره طول النهار حتى الغروب، وتمر الأصناف (= النقابات) ببيت قاضي إسطنبول -لأنه صاحب السلطة (= الوصاية على الصنائع)- لتفتيش جميع الأوزان والمقاييس والأصناف..، ثم تسير الأصناف إلى محلاتها وأسواقها، وتتوقف كل تجارة وحرفة لثلاثة أيام بمناسبة الاستعراض”.

وفي عرفٍ مؤسسيٍّ رائدٍ لنظائره في عصرنا؛ نجد أن بعض الحِرف في المغرب كانت تنتخب “أمينها” (نقيبها) في كل منطقة لمأمورية لا تتجاوز ستة أشهر، ثم ينتخب هؤلاء الأمناء الفرعيون “الأمير الأكبر الذي تعترف به الحكومة رئيسا لنقابتهم”، فيتواصل معها فيما يتعلق بعمل فروع النقابة في عموم البلاد؛ طبقا لكتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الصادرة عن مؤسسة “بريل” الهولندية.

وأما عن العلاقة بين النقابات الحرفية والطرق الصوفية وتأثيرها في تشكيل الأعراف النقابية الداخلية؛ فمن المعروف أن جماعات المتصوفة حاولت -تقريبا منذ القرن الخامس الهجري/الـ11م- شرعنة تقاليدها السلوكية الخاصة (كالوِرد والخِرْقة/المُرقَّعة) بوضع “أسانيد” تجعلها مستمَدّة بـ”الإجازة” من رجالات الرعيل الأول في الإسلام من الصحابة والتابعين، ساعية بذلك لإدماجها في حقول المعرفة الإسلامية المتلقّاة بالإسناد كعلوم القرآن والحديث ومرويات الفقه واللغة والأدب.

وقد عزز ذلك المسعى الصوفيَّ بروزُ ظاهرة “النقابية المذهبية” في وقت مبكر -كما رأينا- بين أهل المذاهب الفقهية، وما أنتجته من تناصر معنوي (في الخلاف المذهبي) ومادي (بمنافع الأوقاف المذهبية) بين أبناء المذهب الواحد، كما تفعله النقابات الحرفية والمهنية قديما وحديثا بين الاتحادات والروابط العلمية.

ولذلك فإن الصوفية مثلا “قرروا أن.. المرقَّعة (= الخِرقة) لا تُلْبَس إلا من يد شيخ (= إجازة)، وجعلوا لها إسنادا متصلا كلُّه كذبٌ ومُحالٌ”؛ طبقا للإمام المحدّث الواعظ ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في كتابه ‘تلبيس إبليس‘. وهذا الإسناد له عدة طرق أغلبيتها ترقى به إلى الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) عن طريق التابعي الجليل الحسن البصري (ت 110هـ/729م)، وقد ترسخت طقوسه الاحتفالية العميقة مع نشأة تيارات الفتوة الاجتماعية منذ الخامس الهجري/الـ10م.

تقاليد رمزية

وتقليدا لجماعات المتصوفة في صنيعها ذاك، ومع ارتباط النقابات بالتصوف في عصر وبيئات ساد فيها حتى عم كل الفئات؛ سعت جماعات الحِرف والمهن -تقريبا منذ القرن السابع الهجري/الـ12م- إلى دمج صناعاتها “العملية” في الحضارة الإسلامية -التي يمكن وصفها بأنها حضارة الإسناد والإجازة- باستعارة مفهوميْ “السند” و”الإجازة” السائدين في الصناعات “العلمية”، وشجعها على ذلك اعتبار المسلمين جميعَ المعارف في حياتهم الثقافية “صناعات”، فكانوا يتحدثون عن “صنعة/صناعة الحديث” و”صنعة/صناعة الفقه” ومثل ذلك في الآداب من لغة وأدب.

واستكمالا لتقليدهم جماعاتِ الصوفية؛ فإن أصحاب الحِرف وضعوا لمختلف صنائعهم “أسانيد” تجعلها متلقّاة عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بواسطة الصحابي الجليل سلمان الفارسي (ت 33هـ/655م) رضي الله عنه، ولكنه إسناد مكذوب -كالخرقة الصوفية عند معظم علماء الحديث- ولا يعدو أن يكون صلة متخيلة ورمزية هدفها تعميق الصلة بالمشهد المعرفي العام، وغرس احترام الصناعات الحرفية في نفوس مجتمعات طالما “احتقر” كثير من نخبة أبنائها الصناعات اليدوية.

وإذا كان بعض الفقهاء ربطوا كثيرا من تلك الصناعات بأهل البدع والأهواء، فقد برّأ معظمُ الفقهاء غالبيةَ أهلها من ذلك الربط المعمَّم؛ فأشادوا بـ”أصحاب الصنائع الدنيئة -إذا حسُنت طريقتهم في الدِّين- كالكناس والدباغ والزبال… لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات/الآية: 13)، ولأن هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة”؛ وفقا للإمام أبي إسحق الشيرازي (ت 476هـ/1083م) في كتابه ‘المهذَّب في فقه الإمام الشافعي‘.

كما رفض العلماء نزعة الاحتقار الاجتماعي لتلك الصنائع الحرفية ومنتسبيها، معتبرين أن “الرفعة في الدِّين.. لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية، بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرُّسُل، ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسُنت سيرتهم في الدين”؛ طبقا للإمام علاء الدين علي بن محمد الشيحي المعروف بالخازن (ت 741هـ/1340م) في تفسيره ‘لباب التأويل‘.

بل إن كثيرا من العلماء كانوا يُعرّفون بنسبتهم إلى صنائعهم ومهنهم، وبعضهم تولى منصب النقابة المهنية لصناعته مدة طويلة، كما وقع للمحدِّث شهاب الدين أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجّار المعروف بابن الشِّحْنة (ت 730هـ/1330م)، الذي يقول عنه الإمام ابن كثير (ت 776هـ/1374م) -في ‘البداية والنهاية‘- إنه “الشيخ الكبير المُسْنِد.. مَكَثَ مدة مُقدَّم (= نقيب) الحجّارين نحوا من خمس وعشرين سنة”!!

وفي كتاب ‘الأنساب‘ للإمام أبي سعد السَّمْعاني المروزي (ت 562هـ/1166م) ترجماتٌ لمئات العلماء المنسوبين إلى مِهَنِهم وصنائعهم، وإفادةٌ بوجود من صنّف مبكرا -خلال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- في سِيَر العلماء العاملين في هذه المهن.

فحين عرّف السمعاني بأبي عبد الله محمد بن إسحق السعدي الهَرَوي الشافعي (ت نحو 285هـ/898م)؛ قال عنه: “رأيتُ في تصنيفه كتابا حسنا ببخارَى أظنه لم يُسبَق إلى ذلك، سمّاه: ‘كتاب الصُّنّاع من الفقهاء والمحدِّثين‘”!! وذكر السمعاني أن الهَرَوي أورد في كتابه هذا من العلماء الذين تعاطَوْا تجارة العطور وحدها “جماعة كثيرة قريبا من خمسين نفْساً”.

كما أعدّ الباحث عبد الباسط بن يوسف الغريب دراسة أصدرها بعنوان: “الطُّرْفة فيمن نُسب من العلماء إلى مهنة أو حِرفة”، فأورد فيها تراجم لنحو 1500 عالم موزَّعين على زهاء 400 صنعة ومهنة كانوا يتكسبون منها.

ومن المصنفات المؤلَّفة في تراجم العلماء العاملين في الصنائع والمهن: الكتابُ المنسوب إلى المؤرخ ابن الفُوَطي الشيباني (ت 723هـ/1323م) بعنوان: “بدائع التُّحَف في ذكر مَنْ نُسِب مِن العلماء إلى الصنائع والحِرَف”. بل وألّف العالم الوزير الأندلسي أبو الحسن الخزاعي (ت 789هـ/1387م) كتابه ذا الدلالة المعبّرة في هذا السياق: “الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحِرَف والصنائع والعمالات الشرعية”!!

انتماء حضاري

وعلى غرار التصوف، وربما بتأثير منه بعد أن تغلغلت نزعته بقوة في النقابات الحِرَفية؛ اندمج مفهوم “الفتوة” المعبِّر عن صفات الرجولة والشهامة -وفقا لتعريف ابن المعمار الحنبلي في كتابه ‘الفتوة‘- في هذه النقابات الحِرَفية، فظهر في الأناضول مسمَّى “الأخية الفتيان” الذين اشتُقّ اسمهم من مناداة بعضهم بعضا بلفظ “أخي/آخي”.

وقد وثّق ابن بطوطة -في رحلته- الكثير من مظاهر كرمهم وضيافتهم للناس وخاصة الغرباء، وذكر أن جماعتهم مكونة من الصناع والشباب العزاب الذين يجتمعون في زاوياهم عصر كل يوم حيث يبيتون، فإذا كان الغد “انصرفوا إلى صناعتهم بالغدوّ (= الصباح)، وأتوا بعد العصر إلى مُقدَّمهم (= نقيبهم) بما اجتمع لهم” من أموال صناعاتهم.

ويحكي ابن بطوطة أنه حين التقى قاضي المنطقة حدثه عن المكانة النقابية لأحدهم، فوصفه بأنه “أحد شيوخ الفتيان الأخية، وهو من الخرّازين وفيه كرم نفس، وأصحابه نحو مئتين من أهل الصناعات قد قدّموه على أنفسهم، وبنوا زاوية للضيافة وما يجتمع لهم بالنّهار أنفقوه بالليل”.

وهذا أول تقرير واضح حول اندماج الحرفيين والصناعيين في نظام الفتوة ذي الأصل الصوفي؛ مما يشير لدور أفكار الزهد والتصوف في امتزاج أخلاق الفتوة بعوائد الجماعات الحِرَفية.

وقد جاء عرضٌ كاملٌ لقائمة الصناعات و”أسانيدها المهنية” المتخيَّلة -والتي تتضمن أيضا ربطا واضحا بين بعض الأفكار الطرقية الصوفية والتقاليد الحِرَفية وتنتهي عادة بالصحابي سلمان الفارسي عن الخليفة علي بن أبي طالب- في كتاب “الذخائر والتُّحَف في بير (= شيخ/شيوخ) الصنائع والحِرف”، وهو لمؤلف مشرقي مجهول الاسم من رجال القرن العاشر الهجري/الـ16م.

وكما سبقت الإشارة؛ فإن تلك الأسانيد كانت نوعا من التسوية الحضارية أجراها العقل الجماعي لهؤلاء الصنائعيين لحل القضايا المتصلة بالتنوع العرقي والازدراء المجتمعي لبعض الأعراق أو الأعمال، ولربط الأصناف والحِرَف بأصول “مقدَّسة” لا تقل أهمية عن أي فرع معرفي مهم آخر، مما يمنح كل حرفة نوعا من الاحترام الذاتي لدى منتسبيها في مقابلة الاحتقار الاجتماعي الذي ربما عانوا منه في أمصار أو أعصار معينة.

والطريف أن سلاسل الإسناد الرمزية تلك تربط أصول الحِرَف بالكوفة والبصرة، وتضيف الشهادة في سبيل الله -أو القتلَ على يد الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م)- لبعض العلماء مثل كُميل بن زياد النخَعي (ت 84هـ/704م) الذي يسمونه “شيخ المصنفين”؛ مما يشير ضمنيا لمحاولة تأصيل مقاومة أصحاب الحِرَف والمهنيين للظلم والظالمين، حيث أعاد عقلهم الجمعي إنتاج قصة وتاريخ كل حرفة ودمجها في سياق الفتوة ليمنحها أصولا أخلاقية واضحة ومكينة.

كما أن هذا بدوره تحوَّل إلى رافعة اجتماعية وأخلاقية في عصور ما بعد سقوط بغداد بأيدي المغول سنة 656هـ/1258م، وخاصة في آسيا الصغرى (تركيا اليوم) التي ظلت مضطربة بين السيادة السلجوقية والهجمات المغولية والنفوذ البيزنطي؛ طبقا للدُّوري في مقاليْه المشار إليهما. وهذا الدور الأخلاقي سيستمر بداية من القرن السابع الهجري/الـ13م وحتى اندثار النقابات التقليدية في العصر الحديث إثر الهجمة الاستعمارية.

أدوار متعددة

أناطت النقابات المهنية والحرفية بأفرادها مسؤوليات وأدوارا بعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي، لكن تلك الأدوار ظلت تحت نظر السلطة وتتحكم فيها -إلى حد ما- بواسطة جهاز “الحِسْبة”، الذي ربما تدخل رئيسه في عملية اختيار النقيب، وخاصة حين يقع خلاف بين المترشحين لمنصب النقابة في إحدى المهن.

ومن وقائع ذلك التدخل ما حصل سنة 895هـ/1490م في القاهرة عندما ترشح محمد بن محمد الكتبي المعروف بابن أبي الفتح (ت بعد 895هـ/1490م) “ليكون رئيس القبّانية، فتحزبوا بأجمعهم عليه ومعهم المحتسب وجماعةُ بابِه (= إدارته)، فأحضره السلطان.. بحضرة القضاة والمشايخ فأبدى في صناعته ما يشهد لانفراده وحصل الثناء عليه، ودام النزاع إلى أن قهرهم ببراعته وقهروه بفجورهم وفحشهم وكونِ المحتسب معهم، ولولا علْمُهم بإقبال المَلِك عليه لكان ما لا خير فيه”؛ وفقا للسخاوي في ‘الضوء اللامع‘.

ورغم أنه لم يكن بمقدور أي نقابة أن تغالب الحكومات في تلك الحقبة؛ فإن هذه النقابات كان مطلوبا منها أداء أدوار اجتماعية واقتصادية محددة سواء لصالح الأعضاء، أو لصالح الدولة، أو لصالح المجتمع بصورة عامة. وهذا مستوى لا يقل عن الأثر الذي تمارسه النقابات في عالمنا اليوم، ويلاحظ أن هذا الدور نما مع انحلال مركزية الخلافة بل وضعف الدول المستقلة ذاتيا عنها.

فمن جهة الواجبات المتعلقة بالصنعة والمهنة؛ كان يُفترض في عريف كل مهنة الإحاطة الكاملة بواقعها وتفاصيل شؤونها وأوضاع منتسبيها، وتقديم الحلول للحكومة فيما يتعلق بإشكالياتها.

ولعل من أولى وقائع ذلك ما جاء في ‘المواعظ والاعتبار‘ للمقريزي من أن والي مصر الصحابي الجليل مسلمة بن مخلد الأنصاري (ت 62هـ/682م) رضي الله عنه بنى مآذن لجامع عمرو بن العاص بالفُسطاط، “واعتكف فيه فسمع أصواتَ النواقيس (= أجراس الكنائس) عاليةً، فشكا ذلك إلى شُرَحْبِيل بن عامر (المُرادي ت بعد 62هـ/682م)، وكان فيها أيامَ ولاية عريف المؤذنين”، فأوجد له حلًّا بأن يؤذن من منتصف الليل للفجر أذانا أول، وأن يُنهَى أصحاب الكنائس عن ضرب النواقيس وقت الأذان، فطبق تلك المقترحات وحُلت المشكلة.

وقد يُستدعَى النقيب للإدلاء بشهادته فيما يتعلق بمهنته وضبط سير مسؤوليات النقباء، ومن أقدم أخبار ذلك ما حصل أواسط القرن الأول الهجري/السابع الميلادي في قضية جرت بالكوفة في “سوق السنانير” و”سوق الدجاج”؛ إذْ استدعى القاضي شُرَيْح بن الحارث الكِنْدي (ت 73هـ/693م) عريفيْ السوقين، فسألهما عن حقيقة المشكلة “فأصاب فيها عريف سوق السنانير، فجمع له شريح [نقابتيْ] السوقيْن”؛ طبقا للقاضي وَكِيع الضبي في كتابه ‘أخبار القضاة‘.

وربما أوكِل إلى العريف تنظيمُ العمل في المشروعات الكبرى، كما قد يدخل الإشراف الفني على الإنشاءات العامة وضبط ميزانياتها في أعمال “شيخ السوق”؛ فعمارة أحد المساجد بدمشق سنة 892هـ/1487م أسنِدت إلى “شيخ سوق الدهشة أحمد الملقب بحاتم”؛ وفقا لعبارة المؤرخ ابن طولون (ت 953هـ/1546م) في ‘مفاكهة الخلان‘. وبهذا تحول “شيخ السوق” إلى ما يشبه المسؤول البلدي أو رئيس الحي في بعض التنظيمات الحضرية الحديثة.

كما كان أهل كل مهنة مسؤولين عن جودة صناعتهم ضمن الدور الرقابي والأخلاقي المهني الذي كان يناط بالعريف/النقيب حمايةً للمستهلكين، واعتمدت سعة صلاحيات العريف وفعّالية دوره على حدود سلطات “المحتسب”، ففي بغداد مثلا توسعت سلطات المحتسب بحيث لا يكاد يظهر لفظ العريف أو شيخ السوق.

ولذا يرد في ‘مجمع الآداب‘ للمؤرخ الفُوَطي أن المحتسب كمال الدين محمد بن محمد (ت قبل 723هـ/1323م) كان “يتقدم إلى الخبازين والطاهين وباعة الإدام بتنظيف آلاتهم وتهذيب أدواتهم، وإلى أصحاب الصنائع في الأسواق بأداء الأمانة فيما يعملونه، ويأخذ على الجزارين أن يتخيروا ذبائحهم، ويشحذوا مُداهم (= سكاكينهم) وصفائحهم، ويأخذ أربابَ المحال بتطريق (= تعبيد) سُبُلهم وتنظيفها؛ إلى غير ذلك”.

صلاحيات محددة

أما في بلاد الشام -التي ورثت كثيرا من تقاليد النظام الفاطمي في الإشراف على المهن والحِرف- فقد سمحت فيها الدولة الأيوبية بالتقنين الرسمي لعلاقة العريف بالمحتسب، كما نجده في كتاب ‘بلوغ الرتبة الظريفة في الحسبة الشريفة‘ للمحتسب الشافعي ابن نصر الشَّيْزَري، الذي ينص على أنه من صلاحيات المحتسب “أن يجعل لأهل كل صنعة عريفا من صالح أهلها”.

وعلّل ذلك بكون الصناعات متشعبة وفيها تفاصيل خفية قد لا يتمكن المحتسب من الإلمام بحقيقتها ليحكم عليها؛ يقول الشَّيْزَري: “ولما لم تدخل الإحاطة بأفعال السُّوقة (= أهل السوق والصنائع) تحت وُسْع المحتسب؛ جاز له أن يجعل لأهل كل صنعة عريفا من صالح أهلها، خبيرا بصناعتهم، بصيرا بغُشوشهم وتدليساتهم، مشهورا بالثقة والأمانة”.

أما مهام النقيب أو العريف؛ فينبغي له أن “يكون مشرفا على أحوالهم، ويطالعه (= يبلغ المحتسبَ) بأخبارهم، وما يُجلب إلى سوقهم من السلع والبضائع، وما تستقر عليه من الأسعار، وغير ذلك من الأسباب التي يلزم المحتسب معرفتها”. وبهذا فعريف الصناعة مسؤول عن المحافظة على أخلاقيات المهنة، وضمان الشفافية في الممارسات المهنية، ومراقبة الأسعار والبضائع والسلع ضمن اختصاصه، وتبليغ أخبار أهل صناعته إلى السلطة الوصية عليه.

ومن الناحية الاقتصادية؛ كان للنقابات التجارية والصناعية أثرها في التحكم في الأسعار وتقييم البضائع وتثمينها، وقد قبل الفقهاء -وخاصة القائلين منهم بإباحة تسعير السلع والخدمات المختلفة- باستشارة رجالات المهن المختلفة، فيما يشبه اليوم الرجوع إلى “بيوت الخبرة” ومكاتب الاستشارات التخصصية؛ فربط الفقهاء ذلك بشرط استشارة “وجوه السوق” أي أعيانه وشيوخه، والوصول إلى ما فيه ربح مقبول للباعة ورخصٌ مناسب للعامة.

وفي ذلك يقول الفقيه المالكي محمد ابن يونس الصَّقَلي (ت 451هـ/1060م) في ‘الجامع لمسائل المدوَّنة‘: “فينبغي للإمام العادل -إن أراد أن يُسعِّر شيئا من ذلك- أن يجمع «وجوه سوق» ذلك الشيء، ويحضر غيرهم [من الخبراء] استظهارا (= تأكيدا) على صدقهم”. ويسألهم عن الحركة التجارية والبيع والشراء ليضع قواعد عادلة للتسعير.

ويضيف الصَّقَلي أنه عند مخالفة البائع بزيادته الأسعار لما اتُّفِق عليه فإن للمسؤول عن شؤون السوق أن “يؤدِّب المعتدي ويخرجه من السوق..، ويكشف (= يفتش) الإمام (= السلطة) كلَّ حين على السعر، فإن زاد أو نقص عاودهم في التسعير على ما ذكرنا”.

وقد يناظر رؤساءُ المهنة غيرَهم دفاعا عن مهنهم أمام الآخرين، كما حصل حين ناظر ابن تيمية المنجّمين؛ فقال عن ذلك في ‘مجموع الفتاوى‘: “وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها، [فـ]ـقال لي رئيس منهم: والله إنا نكذب مئة كذبة حتى نصدق في كلمة”!! وهذا يشبه تقليد تنقيح ممارسات المهنة في الملتقيات العلمية المهنية التي تُعقد اليوم.

أما فض المنازعات والمحاكمة لمخالفي المهنة وإصدار العقوبات بحقهم، وكل ما يتصل بقضايا المهنة من غش تجاري وحل منازعات بين الحرفيين أنفسهم وبينهم وبين الدولة؛ فهي تقاليد تطورت تدريجيا.

ولعل أقدم إشارة إلى هذه الصلاحية تلك الواردة عند الشَّيْزَري في كتابه ‘نهاية الرتبة‘، حيث يشير إلى أن من واجبات العريف مساعدة المحتسب في مكافحة الغش، فيقول: “ويعتبر (= يختبر/يفتش) عليهم ما يفعلونه ويغشّون به الصبغ، ويعرض ذلك على عريفهم”، أي نقيبهم بوصفه ضامنا لاستقامتهم وسلامة صنعتهم.

وظائف قضائية

أما نقباء القيساريات -وهي مجمعات تجارية كانت تباع فيها السلع الفاخرة- فقد كانوا مسؤولين عن الجانب الأمني للسوق؛ فقد وقعت سرقة عام 734هـ/1333م باتفاق بين لص وصانع أقفال وحارس سوق، وتسببت في كارثة في “قيسارية جهاركس” بالقاهرة، حيث فقد كثير من التجار كميات كبيرة من الأقمشة والأموال، و”ألزَم والي القاهرة «عريفَ قيسارية جهاركس» ألا يسكن بها تاجرا حتى يضمن عليه”؛ طبقا للمقريزي في كتابه ‘السلوك‘.

وربما ألزمت الحكومةُ نقيبَ مهنة ما بالتحري في سلوك أعضاء نقابته وتعاملاتهم مع من يرتكبون جرائم معينة؛ فقد تشدد والي القاهرة الأمير المملوكي سيف الدين قدادار (ت 730هـ/1330م) سنة 724هـ/1324م في مطاردة شاربي الخمور ومصنّعيها في البيوت، فـ”أحضر «عريف الحمّالين» وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب، فلما حضروا عنده استمْلاهم (= استكتبه) أسماء مَنْ يشتري العنب ومواضع مساكنهم”، وبهذا حدَّد مَن يجلبون العنب لصناعة الخمور منه في بيوتهم بتحقيق مباشر وظّف فيه الحمّالين بواسطة نقيبهم.

وكانت المحاكمات تعُقد لمرتكبي المخالفات من أصحاب المهن المختلفة، وهناك درجات من العقوبة يُسمح للنقيب عادة بإيقاعها على المخالفين، وتتضمن “التعزير” الذي هو عقوبة تقديرية بدنية أو مالية، فعندما تجري مخالفة كالغش التجاري في منتجات حرفة ما يحاكِم مرتكبَها نقيبُ تلك الحرفة. ومن الوقائع التاريخية في ذلك ما جرى عام 894هـ/1489م من معاقبة شيخ “سوق الجُوخيين” بدمشق لأحد منتسبي مهنته “لأجل تدليسه في بيع الجُوخ (= نسيجُ صوفٍ)”؛ حسب ابن طولون.

وسبق أن ذكرنا أنه كان يحق لـ”أمين الأمناء” في تونس أن يعاقب “بالحبس والضرب” كل من يخالف الأعراف التجارية في البلد. وهذا يفيد بتعدد مستويات الاختصاص القضائي؛ فما كان داخلا في دائرة الإخلال بأعراف المهنة كان لأمين الأمناء الحكم فيه، وما كان متعلقا بالحكم الفقهي فإنه يوكل إلى القضاء للبت في نزاعاته، وإن كان نقباء المهن غالبا ما يقومون بما يشبه عمل نقابة المحامين في الدفاع عن منتسبي مهنهم وصنائعهم.

وتطورت النقابات في تونس فتأسس فيها مجلس للمهن التجارية، يمكن وصفه بأنه غرفة تجارة متكاملة ذات وظيفة نقابية مثل نقابة التجاريين في عصرنا؛ فقد توسعت صلاحيات “مجلس العشرة” المهني وأحيلت إليه بعض أعمال المحتسب.

وفي ذلك يقول العلامة محمد كرد علي (ت 1373هـ/1953م) -في مقالة له بعنوان “أخبار وأفكار” منشورة في العدد 61 من مجلة ‘المقتبس‘- إنه “جُعلت بعض أعمال المحتسب في تونس بيد مجلس العشرة الأعيان” الذي كان معظم أعضائه من ذوي الأصول الأندلسية، “وإليهم يرجع الأمر في فصل قضايا التزوير في الشواشية (= صناعة القبعات/الطواقي) والإشراف على عملها أن يكون صباغها جيداً، وكان نقيب حرفة الشواشية تحت أمرهم”.

كما دخل في اختصاصات مجلس العشرة “النظر في غش البضائع، وهو يحكم على الجيد منها والعاطل فيما إذا حدث اختلاف بين البائع والمشتري، وذلك بوساطة أمين التجار”، إلا أن أعضاءه يتقاضون راتبا، كما أن ممثل مدينة جِرْبة في تونس -وهو من يهودها- لا يحضر إلا عند مناقشة القضايا التجارية فقط.

وهو ما يعني أن غير المسلمين كان من الشائع منحهم حق العضوية في النقابات المهنية، كما سبق القول عن وجود “عريف للذميين” منذ القرنين الأولين للهجرة؛ بل إنهم كانوا يتولون رئاسة بعض النقابات ذات المكانة العالية مثل نقابة الأطباء، ومن نماذج ذلك أن الطبيب “فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الإسرائيلي (= اليهودي) الداوودي (ت 814هـ/1411م).. كان رئيس الأطباء” في مصر؛ وفقا للمؤرخ زين الدين المَلَطي (ت 920هـ/1514م) في كتابه ‘نيل الأمل‘.

وقد دفعت هذه التعدديةُ الدينية الرحبةُ في النقابات المهنية الإسلامية المستشرقَ برنارد لويس للاعتراف بأن “الميزة الثالثة في الطوائف (= النقابات) الإسلامية هي كونها تضم أفرادا من مختلف الطوائف. فبينما أبعدت الطوائف الأوروبية من صفوفها حتى المسيحيين المختلفي المذاهب؛ نجد الطوائف الإسلامية مفتوحة لليهودي والمسيحي والمسلم على السواء، بينما تجد بعض الطوائف الإسلامية تسودها الأغلبية غير المسلمة”.

تاريخ النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية
تاريخ النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية

سابقة فريدة

على أن مما يكمل زوايا التفرد في تلك التعددية النقابية الإسلامية أنها لم تكن شاملة فقط للطبقات المجتمعية والطوائف الدينية، بل امتدت أيضا لتشمل الجنسين من الرجال والنساء وبأعلى مستوى في الهرمية النقابية؛ فتلاقينا نقيبات نسائيات في غير ما مجال مهني وحِرَفي، بما في ذلك مجال كالغِناء الذي ربما تولت نقابتَه (نقابة الفنانين) امرأةٌ كانت تسمى “ضامنة المغاني” (= المغنيات)؛ طبقا للإمام ابن الحاج المالكي (ت 737هـ/1337م) في كتابه ‘المدخل‘.

ومن ذلك أيضا في الحقل الطبي نموذج الطبيبة المصرية فاطمة بنت شهاب الدين ابن الصائغ الحنفي (توفيت بعد 1036هـ/1627م)، التي كانت وحيدة والدها الذي تولى “مشيخةَ الطب بدار الشفاء المنصوري ورياسة الأطباء”؛ حسب المؤرخ محمد أمين بن فضل الله المحبي الدمشقي (ت 1111هـ/1699م) في كتابه ‘خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر‘. والمقصود بـ”دار الشفاء المنصوري” هنا هو ما يُعرف بـ”المارستان المنصوري”، أي المستشفى الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م) في القاهرة سنة 684هـ/1285م.

وقد أخذت هذه السيدة المصرية مهنة الطب عن أبيها فبرعت فيها إلى درجة أنها أصبحت المرجع الأول للقضايا الطبية بمصر، ولذلك فإنه بمجرد وفاته سنة 1036هـ/1627م “تولَّتْ مكانَه مشيخةَ الطب”؛ طبقا للمحبي. وبذلك تكون جمعت -على غرار أبيها- بين مسؤولية نقابة الأطباء والإدارة العامة لمؤسسة طبية عظمى، حتى إن المؤرخ الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- يصفها بأنها “أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق”!!

وقد يحصل أن تتدخل السلطة لفض نزاع بين “عريف” نقابة عمالية وأحد العاملين في حرفته، وتستأثر القاهرة بأقدم واقعة نزاع من هذا القبيل بين “عريف الخبّازين” وأحد بائعي الخبز، فوقفت السلطة القضائية بجانب العامل المظلوم وعزلت النقيب الذي قاد التحقيقُ القضائي في الواقعة إلى أنه هو الظالم، “فأمر القاضي بصَرْف (= إقالة) ذلك العريف، وأن يغرّم ما أخذ من الخباز”؛ وفقا للمقريزي في ‘اتّعاظ الحنفاء‘.

وقد شهدت منطقة الأناضول إضافات هامة في صلاحيات النقابات في العهد العثماني؛ إذْ أوكِلت إلى رئيس الحرفة المهام التي راجت في العصر المملوكي من الأمور الإدارية والمالية وحلّ النزاعات.

ويقول عبد العزيز الدوري -في مقاليْه المشار إليهما نقلا عن مصادر تركية متنوعة ترجع للقرن الثالث عشر الهجري/الـ19م- إن نقباء الحرفيين أصبحوا في بعض مناطق الأناضول يشرفون على ترقية الأعضاء من رتبة لأخرى، وكان النقيب ذا مكانة تسمح له أيضا بعرض المسائل على الجهات المختصة حكوميا.

ويبدو أن بعض النقابات كانت تضيق أحيانا بتزايد أعداد المنخرطين في صناعتها، وتسعى لإغلاق الباب دون ذلك احتكارا لمجالها المهني؛ وهو ما واجهه الفقهاء بقوة فنصّوا على “عدم جواز ما عليه أهلُ بعض الصنائع والحرف مِن منْعهم مَن أراد الاشتغال في حرفتهم وهو مُتْقِن لها أو أراد تعلمها”؛ حسب الإمام ابن عابدين الدمشقي الحنفي (ت 1252هـ/1836م) في ‘رد المحتار على الدر المختار‘.

وتطورت الإجراءات التنظيمية لنقباء الطوائف الحرفية المختلفة في دمشق؛ فكان المنصب الأعلى الجامع لنقبائها والمسمى “شيخ المشايخ” (= رئيس اتحاد النقابات العمالية) متوارثا داخل عائلة العجلاني الدمشقية حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري/الـ19م؛ طبقا للدوري الذي يذكر أن هذه العائلة “تعين المشايخ لأكثر من مئتيْ حرفة، وتأمر وتنهي وتقاصّ وتفصل في كل مسألة وتحسم كل مشكلة”.

وكانت لدى “شيخ المشايخ” هذا “سلطة سجن رجال النقابة أو جلدهم”، ومن مظاهر قوة سلطته أنه “لم يكن ممكنا إقالته أو استبداله”، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه كان “يعتمد.. على وقف وراثي”.

إسهام مجتمعي

وقد ظهر الدور السياسي والاجتماعي للنقابات المهنية بصورة بارزة في عدة حقب؛ ونذكر من مظاهر ذلك مشاركة منتسبيها في الجهاد متطوعين ضمن الجيش النظامي، وهو ما يؤكده الدوري -في مقاليْه المشار إليهما سابقا- بقوله إنه “كان الجهاد في الأناضول والحرب على الحدود الإسلامية البيزنطية خير دافع لامتزاج تقاليد الفتوة بالمبادئ الروحية الصوفية وبتقاليد الحرفة”.

وأدت النقابات -ممثلة بجماعات الفتيان الآخية في الأناضول وتجمعات الصناعيين بأصفهان وشيراز ببلاد فارس- أدوارا هامة في حماية الأمن الاجتماعي وإيواء الغرباء، وإيجاد مناخ إيجابي تعيش فيه الحرف وتتطور، ويكفل الأمن الأخلاقي والفتوة والمروءة والحفاظ على السلوك العام، ويحمي مقومات الحياة الاجتماعية المنضبطة.

ولذا ساهمت النقابات الحرفية في مقاومة الظلم وتعديات رجال السلطة وأشرار المجتمع، وخاصة نقابات الأناضول الذين يصفهم ابن بطوطة قائلا: “لا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا (= اعتناءً) بالغرباء من الناس، وأسرع إلى إطعامهم الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشُّرَط (= الشرطة) ومن لحق بهم من أهل الشر”.

كما اتخذ بعض أرباب الحِرَف من الإضراب المهني وسيلة لمقاومة المظالم التي قد تلحقهم، وهو ما يدل بوضوح على انتظامهم في نقابات توحّد مواقفهم حتى تتحقق مطالبهم؛ فالراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) يحدثنا -في ‘محاضرات الأدباء‘- عن أن “الحجّامين (= الحلّاقين) بِقُمْ (= في إيران) في بعض الأوقات غضبوا، فاجتمعوا وخرجوا من البلد حتى طالت شعور أهلها، واضطروا إلى أن خرجوا إليهم وقبّلوا الأرض بين أيديهم، وحلفوا لهم ألا يؤذوهم ولا يلقّبوهم [بألقاب مُهِينة]؛ فرجعوا” إلى محلات مهنتهم بالمدينة!!

ومن تجليات الدور الاجتماعي للنقابات المهنية أن منتسبي النقابات الحرفية كانوا رافعة اجتماعية ضمنت حماية الفقراء وإسعافهم وتمكنت من الحد من المظالم المجتمعية، وهذا ما يمكن فهمه في سياق فوضى ما بعد الهجمات المغولية والتيمورية في القرون السابع والثامن والتاسع الهجرية/الـ13 والـ14 والـ15 الميلادية.

ففي هذه الحقبة؛ تولت النقابات واجبات متنوعة كانت تتضمن ما يشبه التأمين الصحي والتعليمي، كما برزت ظاهرة تأسيس صناديق الإيرادات المالية من بدل الإيجارات والأوقاف والوصايا، واشتراكات الأعضاء والتبرعات. ويذكر كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ أن الحمالين في المغرب كانوا يجمعون مكاسبهم جماعيا، وفي نهاية الأسبوع يوزع عليهم جميعا المبلغ المتحصل في الصندوق.

ويورد عبد العزيز الدوري -في مقاليْه المشار إليهما- قائمة بحسابات حلّاجي القطن بمدينة سيروز في الأناضول خلال القرن الثاني عشر الهجري/الـ18م، وما كانت تصرف فيه أموال “صندوق الحرفة” من تكافل اجتماعي بين أصحاب المهنة الواحدة، وأيضا رعاية لفقراء مدينتهم.

ونلاحظ في تلك المصروفات شموليتها للجوانب الصحية والتعليمية، بل وحتى التعويضات عن الخسائر الناتجة عن الحوادث، وصرف معاشات التقاعد والضمان الاجتماعي لغير القادرين من أهل الحرفة، علاوة على صرف الصدقات للمجتمع باسم منتسبي النقابة.