[وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44}
البناء الفكري الذى نقصده يتشكل من ثلاثة جوانب :
البناء الفكري عملية يتحقق من ورائها: امتلاك العقل المسلم تصور متكامل نحو الإنسان والكون والله، يصدر من مرجعيته العليا المتجاوزة ( متجاوزة عن الخلق)، يستطيع بها تفسير الظواهر، وردها إلى أسبابها ومسبباتها الحقيقية من خلال هذا الميزان “المتجاوز”، وهذه العملية – عملية البناء الفكري – تتم عبر تراكمات – باعتبارها بناء – تتولد عنها قناعات تصدر عنها، من خلال هذه الرؤية / التصور الكلي عن الله والإنسان والكون والتى تبدأ من خلال الإجابة على التساؤلات الكبرى: الخلق، والمصير، والخالق، والتكوين، والهدفية، وصولاً إلى التضمن في مناهج العلوم والمعارف، وبرامج التربية والاقتصاد والسياسة والاجتماع.
بمعنى آخر يسعى البناء الفكري إلى إعادة تصميم الذهنيات الإسلامية وفق منهج متكامل يتوافق مع الفطرة والعقل، منهج لا يعانى من الأزمات بداخله، ولا يسبب أزمات في واقعه، منهج يتسم بالشمول والتوازن، والاتساع والانفتاح والتعقل.
والبناء الفكري بهذا المقصد (المعنى) لازم صوب تحقيق أمرين، الأول: مواجهة مظاهر تبديد العقل المسلم والقضاء على أسبابها.. والأمر الثاني: تجسير العلاقة بين مصادرنا الفكرية (الوحي ومعطياته في الحياة العقلية للإنسان) وبين ذاتنا المعاصرة، هذه العلاقة التى انقطعت منذ قرون فأورثت الجفاء بين الوارث والموروث.
البناء الفكري عملية يتحقق من ورائها: امتلاك العقل المسلم تصور متكامل نحو الإنسان والكون والله
وسوف نتناول هذه القضية بشئ من التفصيل في العناصر التالية..
تبديد العقل المسلم (مظاهره، أسبابه، نتائجه)
تبديد العقل : التبديد .. التفريق، بدد الشئ فتبدد أى فرقه فتفرق، ومنها تبديد الطاقة أى تفريق الطاقة إلى أنواع أخرى غير لازمة في عملية ما ، و بدد المال :أى أنفقه في غير موضعه..
أما تبديد العقل فنقصد به انحرافه عن أداء رسالته التى خلق من أجلها وهى “حمل الأمانة” ومظهرها ” العمران” ونتاجها ” التزكية” و” الهداية“..
مظاهر تبديد العقل المسلم وأسبابه
– الجمود على الموجود من المعارف والعلوم والمناهج التى أنتجها العقل في إحدى مراحله، والتوقف عندها ظناً منه بكفايتها ، ومن ثم فهو يركن إلى هذه العلوم والمعارف والمناهج التي توصف بالتاريخية في التفسير والتحليل لحاضره ومستقبله، على الرغم من أن ذلك النتاج العقلي كان معبراً عن مرحلة تاريخية قد تولت [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ…]{البقرة:134}
ومن تبديد العقل-أيضاً-
– انشغال العقل بالفرع وفرع الفرع .. حتى ترك الأصل.. حتى يصل إلى لا شئ من كليات المعارف والعلوم والحقائق، وهذا الانشغال أنتج ذلك العقل التجزيئي الذي يركز على الفروع ويضخمها ويضعها في بؤرة الشعور والضوء أو يستبدل الفرع بالأصل، غافلاً عن رؤيته الكلية وأبعادها المنهجية والمعرفية، وهو ما يخالف منهاجية النبوة: عن أبي عمرو، وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، قال : قل آمنت بالله ثم استقم ” وقوله ﷺ: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا “.أي صغائرها.
ومن تبديد العقل –أيضاً-
– الركون إلى الغير (الآخر الغربي) واستعارة رؤيته ونموذجه، على الرغم من التباينات والتناقضات التى تملأ تلك الرؤية والتهافت الكامن في ذلك النموذج بالإضافة إلى النهي الشرعي عن ذلك [وَلَا تَرْكَنُوا] {هود:113}، والنهي العقلي لامتلاك المسلم المواد الخام لصناعة رؤية ناجزة حضارية عجز عن تفعيلها واستسهل عملية “الاستيراد” فأصبح “عالة عقلية” تارة و”عطالة فكرية” تارة أخرى، وهذا الركون جعله في حالة من التباطؤ المعرفي، مما عرضه إلى آفات الركون من: الجهل والخرافة؛ والاختزال والتسطيح لأنه لم يعد بحاجة إلى الإنتاج المعرفي، الذى تولاه غيره، واستبدله الله به، نتيجة لتخلفه عن سنن “الكد” و”الكبد” ” والعمل الصالح”، فاستحال إلى الدعة والكسل والتواكل لا التوكل.
أما تبديد العقل فنقصد به انحرافه عن أداء رسالته التى خلق من أجلها وهى “حمل الأمانة” ومظهرها ” العمران” ونتاجها ” التزكية” و” الهداية
ومن تبديد العقل المسلم -أيضاً-
– إهمال “المراجعة” و”النقد” للذات، على الرغم من أصالة فكرة “المحاسبة” في النهج الإسلامي [وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ] {الإسراء:13} ، والتي من أهم متطلباتها “مراجعة الذات” ونقدها ببيان عناصر “الصواب والخطأ” و” التقدم والتأخر” و” السداد والانسداد”، واتخاذ الكتاب ( القرآن) ميزاناً ومعياراً لتلك المراجعة إلا أن “العقل المسلم” تخلى – أيضاً – عن ” الميزان” و”الوحي”، كمعيار حاكم منهجي ومعرفي وسلوكي ووجداني، واستبدله بمعايير أخرى، وضعية، بقصد أو بجهل ، فنتج عنها: الغفلة عن منهج الإصلاح وعن مساراته وسننه في الكون والإنسان ، واختلال مبدأ التوازن بتقديس ما ليس بمقدس، وتعظيم ما ليس بمعظم، وتقديم ما لا يجب تقديمه، وتأخير ما لا يجب تأخيره.
ومن المفاهيم التى رُوِجَ لها-تقعيداً لإهمال المحاسبة والمراجعة- هو أنه “ليس علينا إدراك النتائج” ، وأدى هذا القول إلى التراجع عن فكرة المحاسبة والمراجعة وفقد التصويب والاعتراف بالخطأ والقصور في العمل فأصبحنا نرى كل عملنا حسناً سواء أدى إلى النتائج المرجوة أو لم يؤد، وهذا مخالف لنهج الراشدين وفهمهم للمنهج القويم وهو ما يتقعد في إجابة عمر ابن الخطاب عندما تحول برعيه من الوادي المجدب إلى الوادي المخصب.. كيف تفر من قدر الله ؟ قال أفر من قدر الله إلى قدر الله.
ومن تبديد العقل-أيضاً-
– الانحراف عما حفظ الله به العقل من التبديد، مما يؤدي إلى هلاك طاقة العقل ووعيه، مثل:
1- التقليد بغير بصيرة؛ لأن التقليد بغير بصيرة يؤدي إلى فقدان الوعي المنهجي والمعرفي، ويؤدي إلى الاعتقاد بالضلال في مقابل الكفران بالحق، وإتباع سبيل الغي في مقابل ترك سبيل الرشد. ويترتب على التقليد أيضاً :
– تعطل السير والنظر، والبحث والنصب والكد. وهي كلها من أعمال العمران والهداية.
– التعصب الذي يؤدي إلى الانغلاق، وهو ضد النهج القرآني المنفتح، المبصر، الواعي.
وقد ذم الله التقليد في مواضع شتى:
[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ] {المائدة:104}
[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا] {التوبة:31}
[وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] {الأحزاب:67}
كما غفل العقل المسلم عما حفظ الله به مثل:
2- تأسيس العقل والوجدان على الحق واليقين في مقابل الشك والارتياب [ أَفِي اللهِ شَكٌّ] {إبراهيم:10} ¬ [أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ] {الإسراء:49} ” واليقين هو معيار البناء (أى بناء) إيماني، معرفي، اجتماعي، أما الشك فهو معيار الهدم، (أي بناء) إيماني معرفي، اجتماعي.
3- رفض كل ما يتنافي مع العقل مثل: التناقضات وجمع الأضداد: استناداً إلى القاعدة القرآنية [لَا يَسْتَوِي] .
4- البحث عن الحق والحقيقة، والدلائل والبراهين [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ] {النمل:64} .
5- إحياء فضاء وفضيلة “ويسألونك” والتى وجهت للنبي ﷺ لبيان طبيعة الرسالة وطبيعته.
ومن تبديد العقل-أيضاً-
التقليد بغير بصيرة يؤدي إلى فقدان الوعي المنهجي والمعرفي، ويؤدي إلى الاعتقاد بالضلال في مقابل الكفران بالحق
– الخلل في النظرة إلى عالم “التنظير” وواقع “التطبيق”، بالفصل بينهما أو ترجيح أحدهما على الآخر والانزلاق نحوه، فَيُفْقَد جناح “الفكر” تارة عند الانزلاق إلى التطبيق ويفقد معه العلم، ويعتمد على الممارسة غير المؤسسة على القاعدة القرآنية [فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا] {الفرقان:59} ، أو يحلق العقل في عالم “الفكر” و”النظر” فيفقد “العمل” و”الحركة” فلا يكون لفكره أى نفع، ولا لنظره أية فائدة، إنه “الميل” الذى حذر منه الشارع [فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ] {النساء:129} وأكد على ضده وهو “التوازن” “[اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8} .
ومن تبديد العقل-أيضاً-
– السير بلا منهج في النظر والاكتساب. أو السير بمنهج منحرف يناقض الفطرة وكلا السيران مشوهان للعقل والوجدان والسلوك. لذا فإن “الشارع” سبحانه وتعالى أكد على “الشرعة” و”المنهاج” [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا] {المائدة:48}
ومن تبديد – العقل – أيضاً –
– إقصاء الآخر على الرغم من أن القرآن كان يعرض حجج المخالفين له، والكافرين برسالته ويطالبهم بالبرهان، ويؤكد دائماً على سنة “الاختلاف” المجعولة في الكون والخلق كله.