ليس من شك في أن قيادة الجماهير والتأثير فيهم، سواء على المستوى الدعوي أو السياسي أو غيرهما؛ ليست بالأمر الهين، بل لها مهارات وآليات ودروس ينبغي استيعابها، بدقة وفهم ووعي.. وإلا عاد ذلك بثمن فادح على من يتصل بالجماهير، وأيضًا على الأفكار التي يريد نشرها بينهم.

وقصة ذي القرنين- كما أوضحتها سورة الكهف– تدلنا على درس مهم يتصل بكيفية قيادة الجماهير؛ ألا وهو ضرورة تفعيل طاقاتهم، وإشراكهم في العملية الإصلاحية، وجَعْلهم يشعرون بأنهم رقم من المعادلة وليسوا على الهامش، وبأن مكانهم في “الملعب”، جنبًا إلى جنب مع المصلحين، وليس في مقاعد المتفرجين!

فحينما طلب منه القوم الذين كانوا بين السَّدَّين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حاجرًا منيعًا، يقيهم شرورهم وفسادهم، مقابل أن يعطوه أجرًا عظيمًا؛ لم يتأخر ذو القرنين في الاستجابة لطلبهم.. لكنه رفض ما عرضوه عليه من مال، مستغنيًا بما آتاه الله.. وطلب منهم أن يعينوه بقوة الأبدان وتجهيز الآلات، على أن يظل لهم العقلَ المدبر، والمهندسَ للسدِّ المنيع.. فمنه الخبرة والتخطيط، ومنهم توفير الأدوات والتنفيذ.

قال الله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (الكهف: 93- 97).

وهذا درس بليغ في القيادة، وفي تفعيل الطاقات.. فالنخب الفكرية والدعوية لا تنوب عن الجماهير.. وما يقع على عاتقها هو القيام بتجلية الفكرة، ورسم الأهداف، والتوعية والتوجيه.. وليس القيامَ بكل شيء، وتحمُّلَ التبعة كاملة عن الآخرين؛ بما يرهق هذه النخب، ويثقل كاهلها، ويُعيقها عن دورها الأساسي!

بل إن هذا الدرس مطلوب حتى على مستوى الأسرة؛ فلا يعد الأب قد أدى ما عليه تجاه أبنائه إنْ هو قام بكل شيء بنفسه، ولم يورِّث أبناءه الخبرات والمهارات التي تجعلهم جديرين بالنجاح والاعتماد على الذات.

وللأسف، قد يستسهل البعض أن ينفذ الأمر بنفسه، عن أن يتحمل مشاق التربية والتعليم.. لكنه – حينئذ- لن يربي إلا إنسانًا كسولاً جهولاً بالحياة..!

التربية الحقيقية هي أن تورِّث الخبرات والمهارات.. وأن تصنع أجيالاً ليست أقل كفاءة ممن سبقهم، بل تزيدهم.. بحيث يستطيعون التعامل مع أزمانهم التي هي بطبيعتها متغيرة ومغايرة..

لا ينوب أحد عن دور الجماهير.. لكن طبيعة عملها تختلف عن طبيعة عمل النخب.. فالأولى عملها تنفيذي وتوفير الدعم “اللوجستي”، بينما الثانية عملها فكري وتخطيطي.

بجانب ذلك، فإن إشراك الجماهير في التنفيذ يوفِّر للنخب وقتًا وجهدًا للقيام بدورهم الحقيقي، ولا يرهقهم بما يستطيع غيرهم القيام به.. إضافة إلى أنه يُشعر الجماهير بأنها ذات دور فاعل، وإن كانت له طبيعة مغايرة.

كما أن ثقل الأدوار المطلوبة يجعل من هذا الإشراك، ومن تفعيل كل الطاقات؛ أمرًا محتمًا لا مفر منه.

إن الإسلاميين وهم يتحركون وسط مجتمعاتهم، قاصدين إلى تفعيل الإسلام في حياة الناس، وإلى الأخذ بيد الجماهير إلى مراقي النهوض والتغيير؛ عليهم أن يدركوا أن دورهم لا يغني عن دور الجماهير التي تظل الطرفَ “الأصيل” في المعادلة، وغيرها مجرد “وكيل” عنها.

صحيح أن القيادة بطبيعتها – في أي عمل، وفي أي مجال – من شأنها أن تكون أكثر وعيًا، وأكثر مبادرةً؛ ومن ثم، تقع المسئولية عليها بدرجة أكبر.. لكن فيما يتصل بحركة المجتمع، علينا أن نستحضر مع هذا الأمر- وبلغة القانون- أن “الوكيل” لا يغني عن “الأصيل”، وأن “الوكالة” يظل لها دورها ومجالها، يجب ألا تتخطاهما.

فالقيادة دورها بالأساس هو التوعية والتوجيه؛ والجماهير دورها منح الموافقة والدعم والتأييد، أو إبداء المخالفة والاعتراض.

لكن المأزق يأتي حين تكون الجماهير غير راغبة في المضي قدمًا بمسارٍ ما، أو غير مقتنعة به، أو غير مؤهلة له؛ ثم تتجاوز النخب الفكرية والدعوية دورها الأساسي، وتضطلع بما كان على غيرها أن يقوم به.

هنا.. تجد هذه النخبُ نفسَها في مأزق كبير.. ويكون عليها إما أن تفرض رؤيتها على غيرها.. وإما أن تتحمل عبئًا مضاعفًا، وتدفع ثمنًا قد لا يكون بوسعها الوفاء به.. ولو أنصفت لرجعت إلى الأصل الصحيح للمعادلة؛ وهو أنها مجرد “وكيل” عن الجماهير.

لكن للأسف، من يتأمل واقعنا يجد أن هذا الدرس المهم قد غاب عن الإسلاميين، بصورة عامة.. فأوقعوا أنفسهم في حرج كبير، وتحمَّلوا فوق طاقتهم ما كان يمكنهم التخفف منه.. ولو تجنَّبوا ذلك، لكان بإمكانهم العملُ على تدارك ما فاتهم، من دورهم الأساسي، في التوعية والتوجيه وتفعيل الطاقات..